«اليسار الجديد» أقرب إلى حالة تمردية من كونه ظاهرة فكرية ــ سياسية
كان لينين، من خلال امتلاكه للطوابق الأربعة في شخصه، قادراً على قيادة هؤلاء الذين شكلوا النواة الصلبة للمكتب السياسي للحزب البلشفي، وعلى أن يكون مايسترو ناجحاً لهم في الفترة بين 1917-1921 حتى مرضه، وكان ظله أثناء مرضه حتى وفاته بالشهر الأول من عام 1924 مانعاً من انفجار الصراع بينهم. لم يستطع ستالين القيادة من دون إزاحة هؤلاء السياسيين ذوي المواهب العالية والقامات الكبيرة، وقد أتى بدلاً منهم ليحل محلهم في المكتب السياسي أشخاص كانوا باهتين بالقياس لأولئك مثل مولوتوف وفوروشيلوف وكاجانوفيتش وأوردجونيكدزة. وهو عندما ظهرت مواهب جديدة مثل مسؤول لينينغراد للحزب، أي سيرجي كيروف، شعر بخطر هذا القادم الجديد الذي نال أصواتاً في انتخابات المؤتمر السابع عشر للحزب عام 1934 فاقت الأصوات التي نالها ستالين أثناء انتخاب أعضاء اللجنة المركزية، وربما لم يشعر بكثير من الحزن عندما اغتيل كيروف على يد طالب موال لزينوفييف في 1 كانون أول 1934 ليكون ذلك، ربما بتواطؤ من ستالين في الاغتيال وربما ذلك بشكل موضوعي، ضربة مزدوجة: تخلص من منافس محتمل وفي الوقت نفسه ذريعة لبدء المحاكمات بين عامي 1936 و1938 التي تم فيها اعدام كامينيف وزينوفييف وبوخارين ومعظم قيادات الحزب في العشرينيات وأيضاً غالبية اللجنة المركزية التي انبثقت عن مؤتمر 1934 ونسبة كبيرة من أعضاء ذلك المؤتمر، ربما في انتقام من ستالين لعملية التصويت تلك.
يقدم ستالين صورة عن الحزبي الشيوعي: قيادي في العمل الحزبي السري دخل السجن يملك صفات الصبر والتواضع وقدرات عالية على الملاحظة وذاكرة كبيرة وقدرة على الالمام بتفاصيل واسعة عن مواضيع كثيرة وهو ما أدهش تشرشل أثناء مفاوضاته معه. لا يحب الأضواء وهو ما يلاحظ على غالبية الخارجين من العمل السري الحزبي، كلامه مركز ومن دون تفاصيل كثيرة، يمسك بكافة الخيوط ولكن عبر القيادة "من وراء"، كما في فترة 1924-1929، أو "من أمام" ولكن من دون ظهور اعلامي.
يملك مواهب كبيرة في التآمر، ولكن من دون ترك بصمات، وفي الصراع التكتلي. ربما أعطى صورة عن شخصيته المركبة، أو المعقدة، ما يرويه جاكوب بيرمان عضو المكتب السياسي للحزب البولندي ومسؤول الجهاز الأمني، أنه ذهب في عام 1949 إلى موسكو لاستشارة ستالين حول ألبوم عن القادة المؤسسين للحزب الشيوعي البولندي، وكان منهم من أعدم في محاكمات 1936-1938، وقد اندهش بيرمان عندما سمح زعيم الكرملين بنشر صورهم، وقال عن بعض من أعدمهم بأنهم "شيوعيون جيدون": ندم أم مشاعر متناقضة، أم صحوة متأخرة؟ ربما هناك صورة ثانية عن ستالين تضاف الى تلك: في أثناء مؤتمر يالطا في شباط 1945، أخبر تشرشل ستالين عن نية بابا دولة الفاتيكان بإعلان الحرب على هتلر، ولكن ما أدهش رئيس الوزراء البريطاني هو التعليق الساخر لزعيم الكرملين: "كم دبابة لدى البابا؟". شخص لا يؤمن سوى بالتوازنات المادية وبالقوة كعناصر مقررة في السياسة، وبأن الأفكار لا قيمة لها من دون حواملها المادية والاجتماعية. ربما كان وقوف بابا الفاتيكان، وهو كان بولندي الأصل، وراء حركة "التضامن" التي ضمت ملايين من العمال والفلاحين البولنديين بعامي 1980-1981 انتقاماً متأخراً من قول ستالين وقد كانت تلك الحركة أول مسمار في نعش الكرملين السوفياتي الذي سقط وتفكك أواخر عام 1991، ولكن يمكن القول بأن هذا الذي جرى في وارسو بالثمانينيات أيضاً يؤكد عملياً صحة قول ستالين أمام تشرشل عام 1945.
يمكن أن تضاف جوانب ثانية إلى صورة الحزبي الشيوعي: انضباطي، دقيق في التنفيذ، يؤمن بأهمية التفاصيل، لا يحب اظهار عواطفه. كذلك، هو لا يحب المظاهر الفاقعة أو النافرة في الزي والشكل، كالذي رأيناه عند "اليسار الجديد" أو "مقلدي غيفارا" من المتمركسين منذ النصف الثاني من الستينيات، والشيوعيون بخلاف هؤلاء هم محافظون أو تقليديون في موضوع "المرأة"، وعملياً فإن "اليسار الجديد"، بالقياس الى الشيوعيين، أقرب إلى حالة تمردية اجتماعية من كونه ظاهرة فكرية - سياسية - تنظيمية مثل التي انبثقت عند الشيوعيين في أكثر من 120 حزباً شيوعياً وعمالياً عالمياً خرجوا من رحم "الكومنترن" الذي أتى بعد سنتين من نطفة ثورة أوكتوبر 1917.
*كاتب سوري