لم يكن بسّام بطل رواية «لعبة دي نيرو» للبناني الكندي راوي حاج، ليحتاج إلى تبرير أو تفسير لفهم لجوئه إلى العنف المفرط والمستتر في آن واحد. ولم يكن بحاجة إلى التطهّر من إثمه أو التوبة، بل كان منساقاً في تكنولوجيات القتل، لمجرد أنها متوافرة، وسهلة الاستعمال، في لقاء عقيمٍ مع قيم التجمّع البشريّ المتداولة، فالتكنولوجيّات وضعته في مأزقه التراجيدي، مع نفسه غائصاً في وحول الهمجيّة دون إحساس بالذنب، يرافقه إدراك عميق بفشل مشروعه الإنساني، طالما وُجد ذاك الانشقاق بين القيم والتكنولوجيات.لم يكن تأثير التكنولوجيات، بسيطاً أو سطحياً، في مسيرة الحياة البشرية على الكرة الأرضية، ولم تكن التكنولوجيات قابلة للتوطين، فهي في معناها عابرة للأماكن حاملة معها قيماً جديدة تؤثّر جديّاً وفعليّاً في صياغة الثقافات البشرية، معيدةً إنتاج الخصوصيّات الثقافيّة، على وجه يتناسب مع خدماتها، ويكفي أن نتذكر أثر اختراع القدر (الوعاء ـ الطنجرة) على الثقافة البشرية، وتحويلها إلى طورٍ جديدٍ قيميّاً. فما بالنا ونحن اليوم أمام تكنولوجيات باهرة، تصنع تحوّلاتٍ لحظيّة، تؤثّر في الحياة البشرية، الفرديّة والجماعيّة، بشكل حاسمٍ وغير قابل للعكس، بما يستدعي تغيّر القيم المتداولة دون أيّة مواربة أو تأويلٍ، فالإنسان لم يعد نفسه قبل حضور التكنولوجيات في حياته وبعده، وإذا لم يستطع الانسجام معها ـ حتى ولو استدعت تغيّرات جذرية ـ فإن الفوضى، بما تعني من عنف وهزائم وفشل، ستكون المصير الحتمي له، طال الزمن أو قصر، فإذا كانت النهضة هي الانتقال من هذه الفوضى إلى النظام، لضمان الحياة والاستمرار، فإننا كتجمهرات عربية، لما نزل نماطل الحياة علّها تمرّر لنا محافظتنا على «القيم الخصوصيّة»، مغامرين بالنهضة ذاتها كضمانة للبقاء والاستمرار.
لقد حافظت البشرية واتفقت، بشتى ـ منابتها ومنابعها العرقية والثقافية ـ على القيم العليا من حق وخير وجمال، بل أضافت إليها قيماً جديدة، كالصواب، والثقة العلمية، وصون الحياة البشرية واحترامها، واحترام العمل والإنتاج... والكثير غيرها، رضوخاً لما حقّقته التكنولوجيات من توسّع، أفقي وعمودي في معنى الحياة البشرية على هذه الكرة الأرضية، وصنعت لنفسها أخلاقيات تتناسب معها، إذ لا يمكن التفكير بالإنسان على أنه هو نفسه بعد كل هذا التغير في عناصر وجوده، إذ لا يمكن قياس (مثلاً) العمر البشري بعدد السنوات الشمسية أو القمرية، فالعمر البشري أصبح مضاعفاً عشرات المرات، بسبب تقصير الزمن الكافي للقيام بخدمة نفسه وغيره. إذ لا يمكن المسافر من الخليج إلى ميلانو أن يكون هو نفسه في كافة الأزمان، وعليه الآن أن يرضخ لقيم استخدام تكنولوجيا الطيران وما يرافقها من قيم أخرى، لأنّ كمية الزمن التي يعيشها أضحت مختلفة تماماً، وكذا المرأة التي كان تجلس إلى طشت الغسيل لعشر ساعات متواصلة، عليها الرضوخ اليوم لقيم جمالية وأنثوية مختلفة، ناتجة من استخدامها لتكنولوجيات، تضيف إلى عمرها الساعات العشر، ويمكن تطبيق الأمر على المجتمعات التي كانت تستخدم قناديل الزيت للإنارة واليوم تستخدم النووي أو الحراري، وأي استغناء عن هذه التكنولوجيات يصنع فارقاً هائلاً، بما يشبه العودة إلى العصور السحيقة. فلنتصور حياتنا اليوم بلا تليفونات محمولة مثلاً في أي زمن سنصبح مقابل المجتمعات الأخرى. فأيّة قيم يمكن الاستمرار في اعتمادها والحفاظ عليها، محمولة من الماضي إلى الحاضر على محمل الجدّ والافتخار، كي تشرّف حياتنا البشرية على هذه الدنيا، مم نستنبطها، ولماذا نحن مجبرون على اعتمادها؟
متى تغيّرت التكنولوجيا والتكنولوجيات، تغيّرت القيم، بمعنى آن أوان تغييرها، وهذا ليس خياراً يبعث على التعفّف أو للذود عن قيم يعتبرها أصحابها جميلة وصالحة؛ فصوابية الأداء، عبر التجارب ونتائجها، هو ما يقرّر ذلك، ولعل التجارب المعيشية للجمهرات «العربية»، أوصلتها إلى الفواجع الكارثية التي ترفل بها، وليس لعاقل أن يقول، إنها لم تمارس قيمها أو لم تحافظ عليها منذ ما قبل التكنولوجيات! بل إن الكوارث المريرة التي تخوض بها الآن لما تزل معتمدة على تلك القيم التي لمّحت التكنولوجيات إلى استبدالها، مهما كانت هذه القيم عزيزة وغالية على القلوب، ولعلّ الكذب والمواربة أثناء الادّعاء بتجدد القيم يودي إلى كوارث مضاعفة، مهما طال الزمن. فالدولة، على سبيل المثال، هي تكنولوجيات إدارة «المجتمعات»، وهي كوجه ثقافي تحتاج إلى منظومة قيمية مناسبة لتكنولوجيات الحاضر، إن كان في حقلها المعرفي السياسي، أو في الحقل المعرفي المؤسساتي، وخارج هذا الإطار تذهب الدولة في واحد من اتجاهين استبداديين بالضرورة، إمّا استعمال تكنولوجيا بائدة هي على تعاكس مع تكنولوجيات الحاضر لهيكلة نفسها، وإما الفشل الفجائعي الكارثي، ناتج من استعمال نموذج مزوّر لهذه التكنولوجيا.
لم يعد شكل الحياة، وممارستها تقليديّاً أو حتى بيئيّاً، أقلّه من الناحية الحقوقية التعاقدية، حتى تبقى القيم ثابتة إلى هذا الحدّ، بحيث تفقد معناها البنائي الارتقائي، فالإنسان قبل قيم معينة هو غيره بعدها، أي بعد اعتمادها في الممارسة الجمعية، وبعد فعلها فيه، وعليه أن يتوقع ويمتثل، للتغيّرات التي نشهدها من ممارسته لهذه القيم، فالحقوق والواجبات لن تنتظم، في ظلّ واقع أسهمت القيم القديمة في إيصال الإنسان إليه، والحفاظ على تبنّي نفس القيم وممارستها يعيد هذا الإنسان إلى حالة فوضى، متنفسها الوحيد هو العنف، بأشكاله المعلنة، والمموّهة، والمكتومة، وانفجاره عموميّاً في أيّة لحظة يكون متوقّعاً بالبداهة، إذا لم تُعتمَد قيم تملأ الفراغ بين التكنولوجيات، وبيئتها الحقوقية المستجدة، إذ لا يحق لراكب طائرة (مثلاً)، أن يمنع راكباً آخر من الجلوس الى جانب إحدى حريمه بسبب قيم العرض والشرف، إلا بالعنف، ولا يمكن سياسياً أن ينقل الحقل المعرفي «للدولة» كتكنولوجيا مستخدمة في الحاضر، من التعاقد المدني العلاني القانوني، الذي يفترض منظومة قيم ترعى الحقوق والواجبات وتدعمها، إلى حقل معرفي آخر، أكان تراثياً، أم غلبويّاً، إلا بالعنف على أنواعه وبواسطة تكنولوجيات الحاضر التي يجري قسرها، وتزوير استخداماتها، في خدمة تسنيد بقاء واستمرار القيم القديمة، حيث الظلم واللامساواة يقطعان على الإنسان درب الوصول إلى المواطنة، وبالتالي الوصول إلى الدولة بوصفها «مجتمعاً» منظماً بروابط «قانونية». التكنولوجيات هي أدوات تغيّر الحياة إلى السهولة واختصار الوقت والجهد، وعلى الإنسان احترام القيم التي تفترضها مهما كانت غريبة أو متعاكسة مع قيمه التي اعتاد ممارستها، فاستخدام الخنجر للأخذ «بالثأر» يحتاج إلى وقت وجهد وأخلاق مختلفة عن استخدام المسدس «تماماً كما في رواية لعبة دي نيرو»، واستخدام الشبكة الاتصالية يحتاج إلى قيم تمنع تعميم وصفات صناعة المتفجرات والقنابل وأدوات التفجير عن بعد، إذ إنّ حرية التعبير تقابلها تماماً قيمة تقديس الحياة البشرية، ولا تعني هذه الحرية إلا شيئاً سلبياً دون هذا التقديس والاحترام للحياة. وهنا لا يبدو الإنسان سوياً في احتضانه لقيم بائدة وممارسة عناد حضاري يودي به إلى التهلكة حتماً، ما يمنع عليه حتماً إنتاج مجتمع الشبع والمنعة والأمان.
لم يكن بسام (بطل رواية راوي حاج ـ لعبة دي نيرو) في مأساته الإنسانيّة محقاً أو غير محق، بل كان يتأرجح كنواس عديم الإرادة، بين الخطأ والصواب، فتساؤلاته محقّة وصوابية إلى حدٍّ بعيد، ولكن قيمه الموروثة تدفع به إلى جحيم عبثي انتحاري، لأنّ العيش يبدو مستحيلاً، في واقعٍ لا تنقصه المعرفة بقدر حاجته لتمثلها وممارستها. وهذا ما يمكن إسقاطه على كل التجمهرات والتجمعات البشرية في هذا العالم العربي الثالث والأخير.
* سيناريست سوري