يقف المشرق على أعتاب التسوية التي تلوح من بعيد حيث يشهد مخاض الولادة العسيرة لصيغة التفاهم على الحلول للمشكلات العالقة في المنطقة من الأزمة السورية إلى القضية الفلسطينية وكذلك ملف إيران مع الغرب. قد لا يعني ذلك أبداً انتهاء الصراع أو انتفاء حالة الحرب الباردة أو بالواسطة، ولكنه بالتأكيد يوحي باقتراب إمكان التوصل إلى اتفاق ما، وهو اتفاق مهم، سوف يلقي بظلاله على كامل الحقبة المقبلة من تاريخ منطقة الشرق الأوسط بل العالم بكامله. هو اتفاق محدد وسوف يكون بغاية الصراحة والوضوح من حيث مقاصده ومراميه لمن يجيد القراءة بين السطور وإن اللبيب من الإشارة يفهم! هو اتفاق مصالح كبرى وسياسات استراتيجية لا أكثر ولا أقل من ذلك... وهو أيضاً اتفاق ممكن بل لا بد منه من منظار الواقعية السياسية التي يتقنها الكبار من ضمن الأدوات البراغماتية للعبة الأمم... وما الحال التي نشهدها سوى التصعيد الميداني الذي يسبق لحظة الجلوس على مأدبة المفاوضات لتحسين الأوضاع عند عقد الصفقات! إنه الشوط الأخير من تلك اللعبة، ومن ضمنه أيضاً وقت بدل ضائع لكل من يعنيه الأمر قبل فوات الأوان، فلا تضييع للوقت وللفرصة الأخيرة بل توظيف واستثمار في التعبئة والضخ والتحشيد على أبواب جنيف وما بعد جنيف...رغم كل ذلك، وكل ما يُقال من شحن وتحريض، وكل ما نشاهده من عنف وقتل وتدمير، وهو مدان وغير مقبول بل غير معقول بطبيعة الحال، قد يبدو للبعض أن ثمة فسحة أمل أو بصيص ضوء سيعقبان العاصفة التي اشتدت وطالت، وهو محق في ما يقول ويعتقد... ليس المقصود أن ما بات يُعرف بالربيع العربي، وقد كان مجرد خدعة كبيرة، سيؤدي فعلاً إلى تشكل التعددية السياسية وتحقق العدالة البشرية، ولكنها قد تكون وقفة محارب.
ما بعد هذه الحرب على دمشق وعلى من لا يزال بداخلها ليس كما قبلها على الإطلاق، لا في دمشق ولا في بقية بلدان المشرق ولا في العالم كله حتى. ما بعد هذه الحرب هو النظام الدولي الجديد، وقد قيل فيه الكثير، وكان الكلام حول مؤشراته وملامحه. فما هو الذي جرى حتى تبدلت الحسابات وانقلبت الأولويات؟ قد يطول الحديث حول معطيات ومستجدات الصراع الدائر، ولكن من الواضح أن نفس البوصلة الدولية التي دفعت باتجاه حرب شعواء، كادت تنفجر إقليمياً وكذلك دولياً، هي التي بدأت تدق مؤخراً ناقوس الخطر الداهم!
لم يعد ممكناً أو مقبولاً بقاء ذلك التهديد قائماً وتعاظم احتمالات وقوعه هنا وهناك. فمن قام بدعم وتعبئة وتمويل وتصدير تلك المجموعات والمنظمات نجده اليوم يلمس فعلاً هول ما قد اقترفت يداه بحق البشرية جمعاء. ولكنه ليس الإحساس بالذنب أو الندم ما يدفع تلك الدول والقوى الدولية إلى مراجعة الحسابات وإعادة التفكير ملياً في مقاربة جدية وناجعة للمرحلة القادمة. إنما هو التفكر والتبصر بحقيقة ما يدهمها من أهوال لا تُطاق وأخطار لا تُحمد عقباها. وهو أيضاً الوعي الجماعي أو المشترك لدى الدول الرشيدة والراشدة بأن الظرف السابق قد تغير، وبأن المنطق والعقلانية يفرضان الحذر والعجلة وحسن التدبير والتصرف بقصد استباق ومنع وقوع الواقعة أو المحظور.
لقد بدأت الدول الضالعة في الحرب على دمشق تعيد النظر بمقاربتها للشأن السوري على خلفية المنحى المختلف الذي سلكته المعارك خلال الأشهر القليلة الماضية، سواء بالنسبة للتقدم الملموس للنظام وحلفائه أو بالنسبة لتراجع المعارضة الوطنية أمام نمو واشتداد وطأة العنف والإرهاب والتكفير. وهو أمر يستوجب الفصل بين معارضة السلطة السياسية سلمياً وحضارياً وممارسة مختلف أشكال الترهيب والقتل والتدمير وفق منهجية عشوائية وعبثية! عندها استفاقت معظم الدول من غفوتها معلنة صحوتها مما أغفلته أو تعمدت إغفاله سابقاً. واستدارت قطر وأخذ «أحفاد العثمانيين» يعيدون تموضعهم في حين انتقلت مصر برمتها من مكان إلى آخر وتراجعت الولايات المتحدة الأميركية وانكسرت إرادة كل من فرنسا والمملكة المتحدة وإسرائيل، وإن كان كل ذلك يحتاج لبعض الوقت ليتبلور ويظهر للعيان. ولكنها انعطافة ملموسة على أرضية القرار بانخراط الأطراف الخارجية والأجنبية في الحل أو التسوية...
تبقى المملكة العربية السعودية التي ما تزال تراهن على بعض من الوقت! ثمة من يقول إن المملكة غير مقتنعة وغير راضية، وإنها لم ولن تقبل بأية حلول أو تسويات، وإنها بالتالي ماضية في الرهان على الخيار العسكري حتى الرمق الأخير...
في المقابل، ثمة من يقول إنّ للمعارضة أو «الممانعة» التي تعتمدها المملكة سقفاً لا يمكن أن تتخطاه، وإنما هي محاولة أخيرة لانتزاع شيء ما. أياً يكن موقف المملكة العربية السعودية والخلفية التي تكمن في أساسه، وتالياً حدود المواجهة التي يمكنها أن تخوضها، ليس فقط في سوريا، ولكن أيضاً مع أميركا والعالم، لا بد من أن تقتنع القيادة السعودية بأن قطار التسوية قد انطلق إلى غير رجعة...
ويبقى الرهان الحقيقي على وعي المملكة للهواجس وللأخطار والتبدل في ممارساتها وسياساتها. فقد كانت جزءاً من معسكر الدعم للمعارضة وغيرها، ويجب أن تكون أيضاً شريكاً في الحل.
حينذاك، قد تصبح «لفلفة» الموضوع على خط النيران في القضية السورية ممكنة ومقبولة، إن لم تكن ملحة، بما يعني سحب «عدة» وأدوات الشغل وحتى فتيل التفجير من البازار في ميدان القتال. معنى ذلك العودة حتماً عن خيار إسقاط النظام، وقد سقط فعلاً هذا الخيار. كما أن المسألة باتت تفترض القبول، ولو بشكل ضمني، ببقاء هذا النظام مع إدخال بعض التعديلات من مثل إشراك أو «تشريك» بعض المعارضة في الحكومة. بكل الأحوال، يفضي كل ذلك إلى خلاصة مفادها بقاء الرئيس بشار الأسد في الحكم في دمشق بطريقة أو بأخرى. فإن تعذر اعتراف الدول ذات الشأن صراحة بهذه العملية، قد يكون البديل غض الطرف لتعذر إجراء انتخابات وبقاءه كأمر واقع لا مفر منه. وقد يصبح الرئيس بشار الأسد رأس حربة في الحرب على الإرهاب، وسبق أن قلنا ذلك قبل أكثر من سنة. كما أننا قد نشاهد الجيش العربي السوري مجدداً في لبنان بتغطية ما لحسم أمر ما هنا أو لتسديد ضربة هناك في سياق مغاير بل «انقلاب» دراماتيكي.
إن هذا الاستشراف لمستقبل وأفق الحل في الشأن السوري بأبعاده المشرقية غير بعيد إطلاقاً عما يحصل على أرض الواقع، وهو ليس مجرد كلام للمزايدة أو للمناكفة. كما أنه ليس اندفاعة في التحليل أو نشوة انتصار لم يُنجز ولن يكتمل! ولكنه صدقاً يعبر عن الوقائع كما هي ويبني على الأحداث بلغة موضوعية. وهو يتناول حالة عامة مستجدة تشير إلى تبدل في أهواء اللاعبين والحكام في ملعب السياسة الدولية. بأية حال، يبدو من الطبيعي أن ينعكس الحدث السوري بشكل مباشر على الشأن اللبناني. وقد بدأ الربط بين مسار الأزمة في سوريا وخارطة الحل في لبنان منذ بداية أحداث الشام، وربما قبل ذلك. فالتداخل بين الشأنين السوري واللبناني عميق ومعقد. ودخول حزب الله في ميدان القتال العلني يرتكز على حقيقة الارتباط العضوي بين البلدين أولاً وصلابة التحالف السوري الإيراني ثانياً، والذي يشمل حزب الله أو المقاومة الإسلامية في لبنان. في هذا السياق، يمكن التنويه بثبات ومن ثم بقاء السيد حسن نصر الله في قلب المعادلة قائداً للمقاومة ضد إسرائيل. لقد كرست بذلك الأزمة السورية بتعقيداتها وامتداداتها مكانة حزب الله في المنطقة، وهي تتجاوز السياق أو النطاق الوطني اللبناني البحت، وتتعداه بوصفه عنصراً أساسياً ضمن هذا الخيار العاقل، والذي يهدف للتحصين و«التشبيك» بين شعوب وبلدان إقليم المشرق العربي. لن يكون بعد الآن ممكناً، بل إنه من المستحيل، العمل لإزاحة حزب الله من التوازن، كما أنه ضرب من الخيال مجرد التفكير بذلك بطريقة منفصلة عن الواقع.
من المفارقات أيضاً أن يتناول اتفاق الدول المعنية بالشأن اللبناني قضية الأزمة المستفحلة في هذا البلد الصغير منذ سنوات عديدة. وقد اعتدنا في لبنان مثل هذه التسويات على قاعدة لا غالب ولا مغلوب. وقد جرت العادة أن «تُلفلف» القضايا في أعقاب انتهاء المعارك ومع عودة زمن السلم والتهدئة. هكذا تبدو حتماً عودة الرئيس سعد الحريري آمنة ومنطقية من ضمن بانوراما الحل والتسوية! ولكنه سيعود من مطار بيروت الدولي، وهو مطار رفيق الحريري الدولي، وليس من مطار دمشق الدولي. وهو يعود ليتولى رئاسة الحكومة اللبنانية التي سيشارك فيها حزب الله وبقية القوى الفاعلة في المشهد السياسي اللبناني. تأتي هذه الخطوة من ضمن حصة المملكة العربية السعودية، ومن باب الترضية طبعاً للدخول في عقد التسوية التي يُفترض أن تعطي المملكة مكاسب أو امتيازات ما للتعويض و«التوفيق»...
لقد انطلقت فعلاً عجلة التسوية السياسية التي لا بديل عنها. فلا عودة إلى الخلف، ولا رجوع عما اتُفق عليه. إن اتفاق إيران مع السداسية الدولية، وإن كان مؤقتاً وغير نهائي، يعكس هذه الإرادة الدولية في تفكيك قواعد الاشتباك. لقد سبق الإعلان عن توقيع هذا الاتفاق الكثير من اللقاءات والمناقشات في الكواليس الدولية والدبلوماسية... وما إعلانه سوى حصيلة كل هذه الجهود السياسية التي تُبذل في إطار التحضير لسلسلة من الترتيبات الدولية الجديدة. لم يكن أبداً من مصلحة الدول الغربية كما إيران الكشف عما وصلت إليه تلك الجولات من المفاوضات لو لم تكن تريد ذلك فعلاً. وهي جادة في ما هي ماضية فيه. فالخطوة بحد ذاتها تدلل على النوايا الصادقة في إنجاز هذا التفاهم الإستراتيجي الذي يؤمن المصالح الحيوية للجميع. بهذا المعنى، يندرج إبرام هذا الاتفاق الإيراني الأممي في سياق عام يُفترض أن يفضي بالتبعية للتوصل إلى الصيغة النهائية للتفاهم. لن يقتصر الأمر على الملف النووي الإيراني، بل إنه سيطال أيضاً المسألة السورية والأزمة اللبنانية وكذلك القضية الفلسطينية ربما، ولكن من دون أن يعني ذلك توقيع العقود ضمن سلة واحدة، وهو أمر لم تقبل به إيران. إن استكمال عقد التفاهم الأميركي مع إيران هو بالتأكيد بداية مرحلة جديدة، تبدو مختلفة كثيراً عما شهدناه في الفترة السابقة من اصطفافات حادة واحتمالات مواجهة وشيكة. وهو يتزامن مع اتفاق واشنطن وموسكو، كما يتداخل معه في العمق. إن حالة الثقة التي بدأت تطفو على السطح ما بين الأميركيين و«الفرس» و«السوفيات الجدد» والصينيين ستنسحب تباعاً على العلاقة مع بقية دول الغرب والسياسات أو التوجهات الفرنسية والبريطانية. لن يكون من السهل تقبل البعض تراجع نفوذه ومكانته من الدول العظمى التقليدية، ولن يكون من السهل أيضاً تقبل البعض لصعود الدول الناشئة أو الصاعدة... ولكن أولوية انطلاق الحملة الدولية ضد الإرهاب والتكفير تستوجب التعاضد والتعاون بين الدول والتكتلات الدولية لمكافحة هكذا أفكار وهكذا سلوكيات وقد أصبح التكفير كما الإرهاب معضلة دولية، حيث يتهددان منظومة السلم والأمن الدوليين.
بعد اتفاق واشنطن وموسكو، أو بداية التقارب، يليه انفراج أفق العلاقة بين طهران والغرب، وعلى رأسه أميركا، تبقى الحلول، أو التسوية بمعنى أصح، بانتظار اتفاق مشابه أو تفاهم مماثل ما بين المملكة العربية السعوية وإيران، حتى تدخل الرياض في كنف العملية السياسية والتحضيرات الجارية ذات الصلة. إن لقاء جنيف القادم بخصوص القضية السورية هو في جوهره إعلان للحرب الدولية على الإرهاب، أو بمعنى أصح، هو إيذان ببدء تشكل التحالف الدولي ضد الترهيب كما التكفير، هذا في حال انعقاده في موعده، أكثر منه اجتماعاً حول سبل وبنود الحوار بين السلطة والمعارضة في سوريا! في نفس السياق، يبدو أن لبنان، وليس سوريا فقط، بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى ميثاق وطني جديد وعقد اجتماعي جديد، وهو أمر بغاية الصعوبة، ولكنه المدخل أو السبيل الوحيد لإعادة إطلاق الحوار والعملية السياسية في البلد على قاعدة التنسيق والمواءمة ما بين لبنان ومحيطه، وتكييف أوضاعه والتوازنات فيه مع المستجدات التي طرأت على الساحة السورية بوصفها العمق الطبيعي له ومدخله إلى العمق العربي. هي إذاً أشهر قليلة تفصلنا عن كل ذلك أو بالأحرى ستوصلنا إليه. وما قد كان مستحيلاً في السابق بات ممكناً جداً، بل كل شيء ممكن في لحظة «التخلي» بتحقق الوعود الصادقة وسقوط الرهانات الصعبة وقدوم التسويات الكبرى.
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا