من المفهوم أن تتحدد العلاقات بين الدول في ضوء المصالح المتبادلة بينها، أي المصالح المشتركة، غير أن أميركا تكاد تنفرد من بين دول العالم في تحديد علاقاتها الخارجية في ضوء مصالحها فقط، غير عابئة بمصالح الآخرين، خصوصاً عندما يكون هؤلاء (الآخرون) دولاً عربية، يعتمدون في أمنهم الاستراتيجي عليها. فهي دولة يشهد تاريخها على أنها لا تثق بأقرب حلفائها إليها، وقد جاءت فضيحة التجسس الأخيرة على أصدقائها المقربين في دول حلف شمال الأطلسي لتبرهن على ذلك. لقد دخلت الولايات المتحدة الأميركية منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من نصف قرن لتملأ «الفراغ» الذي تشكل على إثر انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية (فرنسا وبريطانيا) منها بعد هزيمتها في الاعتداء الثلاثي على مصر في عام 1956. ومنذ ذلك التاريخ وهي تبني علاقاتها مع دول المنطقة في ضوء مصالحها الإستراتيجية التي في قلب منها أمن إسرائيل، وأمن تدفق النفط إلى الأسواق العالمية. ومن أجل ذلك فهي قد عملت، منذ البداية، إلى القضاء على كل ما يهدد هذين الهدفين الاستراتيجيين بالخطر، ولم تتورع عن استخدام كل ما لديها من وسائل، ومنها قوتها العسكرية في حال تطلب الأمر
ذلك.
ومع أن العالم قد تغير كثيراً اليوم، ولم تعد أميركا القطب الأوحد في العالم، بل هي على شفا انهيار اقتصادي بسبب مديونيتها الكبيرة التي فاقت ناتجها القومي الإجمالي بنحو الربع تقريباً (17 مليار دولار في مقابل 13 مليار دولار)، إلا أن من المبكر القول إنها بدأت انسحاباً استراتيجياً من المنطقة العربية رغم أن تغيرات جوهرية حصلت على واقع هدفيها الاستراتيجيين، أعني أمن إسرائيل، وأمن تدفق النفط.
فبالنسبة لإسرائيل فقد نجحت في تحقيق أمنها من جهتين: من جهة فقد صارت تمتلك إسرائيل قوة دفاع ذاتي عن أمنها لعقود من السنين ليس فقط بالمعنى الاستراتيجي بل المباشر أيضاً، ومن جهة أخرى فقد تولت مع شركائها الغربيين إضعاف خصومها المباشرين أو المحتملين إلى عقود من السنين. فلم تعد مصر تهدد أمن إسرائيل بعد أن أبرمت معها اتفاقيات كامب ديفد
الشهيرة.
والعراق هو الآخر خرج من معادلة الصراع مع إسرائيل بعد أن غزته أميركا وحلفاؤها عام 2003. واليوم يجري تدمير سوريا بحيث تخرج هي الأخرى من معادلة الصراع مع إسرائيل لعقود من السنين. وإن التهديد الوحيد الذي كان يقلق إسرائيل هو الآتي من إيران، من جراء برنامجها النووي، غير أن الدول الغربية بالتعاون مع روسيا والصين وألمانيا (مجموعة 5+1) تجري معالجته اليوم مع إيران، ويبدو أنها تحقق نجاحاً على هذا الطريق.
الهدف الاستراتيجي الآخر لأميركا في المنطقة هو أمن تدفق النفط إلى الأسواق العالمية. لقد كان يتطلب تأمين هذا الهدف من الولايات المتحدة وجوداً مباشراً في المنطقة على شكل قواعد عسكرية دائمة، أو في أساطيلها البحرية المنتشرة في الخليج العربي أو في البحار المحيطة بالجزيرة العربية. لكن اليوم لم يعد هذا الهدف بالمنزلة ذاتها التي كان عليها قبل إعادة احتواء التهديدات المحتملة له والقضاء عليها هذا من جهة، ومن جهة ثانية بعد أن تمكنت الولايات المتحدة من استخراج النفط الصخري بكميات كبيرة وبتكاليف تنافسية.
فبحسب التقارير الكثيرة حول هذا الموضوع سوف تصبح الولايات المتحدة الدولة المصدرة الأولى للنفط في العالم بعد عام 2015، وهي اليوم في عام 2013 قد تفوقت إنتاجياً على المملكة العربية السعودية.
في السابق، وعلى امتداد نحو خمسة عقود، كان أحد أركان الإستراتيجية الأميركية لتأمين هذين الهدفين يعتمد على استقرار المنطقة، ولذلك ما إن تظهر بوادر تهديد لهذا الاستقرار حتى تبادر أميركا إلى احتوائه، حتى لو تطلب منها ذلك التدخل العسكري المباشر، أو بواسطة حلفائها، كما حصل مع حكومة مصدق في إيران في عام 1953، وكما حصل مع عبد الناصر في عام 1967، وكما حاولت ذلك مع الثورة الإيرانية بعد انتصارها في عام 1979.
لكن بعد الهجوم الذي شنته القاعدة على برجي التجارة في نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن وذلك في عام 2001 بدأت تغير استراتيجيتها بأن صارت تطالب بالتغيير وتعمل عليه. حاولت أميركا في عهد بوش الابن أن تروج لإستراتيجية التغيير عن طريق ما سمي في حينه بالفوضى الخلاقة لكنها فشلت، غير انها اليوم تحقق نجاحات لافتة في عهد أوباما. لقد عمدت أميركا منذ البداية إلى احتواء انتفاضات الشعوب العربية ضد أنظمتها الاستبدادية، والتي هي بالأساس حليفة لأميركا، لخلق أوضاع غير مستقرة ربما لعقود من السنين وهي تحقق نجاحات ملحوظة.
وعمدت أيضاً لاستفادة من خدمات الحركات والمنظمات الإرهابية التي انتشرت كالوباء في جميع دول المنطقة، نتيجة للحرب المزعومة عليها من قبل أميركا وحلفائها، لتصير اليوم أكبر محرك لعدم الاستقرار في المنطقة برمتها.
ينبغي الاعتراف بأن أميركا قد حققت نجاحات ملحوظة في تعميم مناخات الفوضى، لكن غير الخلاقة، في جميع دول الشرق الأوسط، من باكستان إلى المغرب العربي، ومن تركيا إلى اليمن. الفوضى صارت العنوان العريض لمشاغل حكومات هذه الدول في شؤونها الداخلية، وكذلك لمشاغلها فيما بينها. في الداخل جميع دول المنطقة منشغلة في الحفاظ على بلدانها موحدة في مواجهة موجة الميول التفتيتية المتزايدة للبنى الأهلية والأقوامية والجهوية من جهة، ومحاربة الإرهاب والتطرف من جهة ثانية، في حين تراجعت كثيراً خطط واستراتيجيات التنمية فيها، مما يهدد بإعادة إنتاج عدم الاستقرار بصورة دائمة ومستمرة.
أما في ما يخص العلاقات بين دول المنطقة فقد صارت كلها غير طبيعية بل متوترة أيضاً. فالعلاقات السعودية مع دول مجلس التعاون الخليجي ليست على ما يرام، وهي اليوم مع تركيا والعراق وإيران متوترة. بدورها تركيا على خلاف مع جميع الدول المجاورة لها، وقد أضيفت مصر والسعودية مؤخراً إلى القائمة، والعراق ودول الخليج على خلاف، والجزائر والمغرب مستمرون في الخلاف، وعلاقات سوريا متوترة مع أغلب الدول العربية والدول المجاورة لها خصوصاً.
في إطار إستراتيجية عدم الاستقرار التي تنتهجها أميركا اليوم في منطقة الشرق الوسط، فلا بأس أن يقفز الخلاف السياسي بين أميركا وحلفائها الأساسيين في المنطقة إلى العلن، فها هي إسرائيل تعبّر عن انزعاجها الشديد من احتمال تسوية ملف إيران النووي بطريقة تحافظ على قدرات إيران النووية السلمية، وها هي المملكة العربية السعودية تبدو منزعجة جداً من تفضيل أميركا الخيار السياسي على الخيار العسكري لتسوية الأزمة في سوريا، ولا تخفي قلقها أيضاً من احتمال التصالح مع إيران على قاعدة الاعتراف بدور هذه الأخيرة المحوري في المنطقة. في إطار هذه الفوضى غير الخلاقة تمهد أميركا لتخليها عن التزاماتها السابقة تجاه دول المنطقة، ولا بأس عندئذ من توريط روسيا وغيرها في مشكلاتها، دون أن تتخلى عن دورها كحكم يلجأ إليه الجميع في نهاية المطاف، لكن عندئذ على من يلجأ إليها أن يدفع الفاتورة مقدماً.
* رئيس مكتب الإعلام
في «هيئة التنسيق الوطنية» السورية