في تشرين الثاني الماضي، كان جنود أميركيون في قاعدة عسكرية قرب بغداد يحيون آخر عيد شكر لهم في العراق، معلنين عن سعادتهم لقرب عودتهم إلى بلادهم. أما بالنسبة إلى العراقيين، فرغم بعض المنغصات مثل وجود سفارة لا تشبه السفارات بشيء، والقلق بشأن فحوى الاتفاقات الاستراتيجية، فإنّ احتفال العراقيين بجلاء القوات الأميركية كان كبيراً ومدوياً. لا عجب، فقد كان الوجود العسكري الأميركي الذي يرتبط بالكثير من الجرائم المشينة والصور القبيحة في الذاكرة، مكروهاً لدى الشعب العراقي، كما أكدت جميع الاستطلاعات الأميركية والعراقية.
ولعل آخرها كان استطلاعاً نشره مركز المعلومة للبحث والتطوير في نهاية 2011، بشأن موقف طلاب الجامعات العراقية، وأظهر أنّ نسبة من أيّد الانسحاب قاربت الثلثين، رغم شمول أربيل، حيث التأييد الكردي لبقاء القوات، ورغم تخوّف نسبة كبيرة من الطلاب من تدهور الأمن والطائفية وغير ذلك. ولم يعتبر الوجود الأميركي تحريراً سوى 13.5%، ورفضت منح الحصانة حتى للمدربين الأميركيين أغلبية ساحقة بلغت 86.2 %! (1).
وقد وصل هذا الموقف الشعبي إلى الكتل السياسية والبرلمان، وجرى إقراره. لقد كان هناك تردد وتذبذب لدى البعض، وإصرار ثابت لدى الآخر. الثابتان كانا: الكردستاني في القبول والصدريين في الرفض والتهديد بعمل عسكري ضد الاحتلال. وبدا موقف كتلة رئيس الحكومة متردداً بين الضغط الأميركي والضغط الشعبي، ثم أخذ موقفاً حاسماً، ثم عاد ليشكّك في موقفه، من خلال قول رئيس الحكومة المشهور للكتل الأخرى: «إن قبلتم فسأقبل». لكن الجميع استجاب في نهاية الأمر للإرادة الشعبية، وكسب الرافضون للتمديد واحتفل العراقيون.
على الجانب السياسي الأميركي لم تسر الأمور بهذه البساطة، فقد تعرضت إدارة أوباما للّوم والاتهام، واعتبر البعض قرار الانسحاب «لحظة مهينة للولايات المتحدة». وكان الناطق باسم السفارة في بغداد يرد معتذراً بأنّه قرار العراق و«لا يمكننا أن نقول للعراقيين: سنبقي قواتنا رغم إرادتكم»(2).
وتعرض وزير الدفاع الأميركي للنقد والتقريع من قبل أعضاء مجلس الشيوخ لسحب القوات من العراق. وأجاب بانيتا: «الخيار لم يكن خيارنا». السيناتور الجمهوري جون ماكين لم يصدق، واتهم الإدارة بأنّها فعلت ذلك لأنّه جزء من التزامها الانتخابي!
لم يكن غضب ماكين مفاجئاً، فقد كان هناك لوبي سياسي كبير يعمل منذ حوالى سنتين من أجل توقيع معاهدة جديدة تبقي القوات، لكنّه فشل في النهاية(3).
أما الشعب الأميركي، فكان في غير وادي سياسييه، فلم يكن أقل حماسة للانسحاب ممّا كان لدى العراقيين، بل ربما أكثر. فقد بيّنت إحصائية أجرتها «واشنطن بوست» أنّ أكثر من ثلاثة أرباع الأميركيين (78%) يؤيدون سحب القوات الأميركية!(4).
وهنا يتبادر إلى ذهن المرء سؤال لا بد منه: إذا كان شعبان يعيشان الديموقراطية التي تعني «حكم الشعب»، ويؤيدان قضية واحدة في العلاقة بينهما، وبنسب عالية جداً تكفي حتى لتغيير دستوريهما، فلماذا بدا الانسحاب كحلم لا يصدّق لكليهما؟ ولماذا نجحت ديموقراطية الشعب العراقي التي تئن تحت الإرهاب والفساد في تحقيق ما ينتظر منها، فكان قرار ساسته في هذه النقطة ما يريد شعبهم، بينما لم يقبل الساسة الأميركيون الأمر إلا غصباً؟ ولماذا وجب على بانيتا أن يختبئ وراء جواب خجول بأنّ الانسحاب «لم يكن خيارهم» بدلاً من أن يجيب بثقة: «نعم إنّه خيارنا لأنه خيار شعبنا، ونحن نعيش في ديموقراطية»!
أليس مثيراً للانتباه أن الدولة التي تنشر جيوشها في كل العالم «من أجل الديموقراطية»، لا تبدو مهتمة بحال الديموقراطية في بلدها؟ أليس غريباً أنّ الحكومة التي طالما دعت القذافي وعلي صالح والأسد إلى الاستماع إلى صوت شعوبهم، تتعرض للتقريع لأنّها تستمع إلى صوت شعبها، فتعتذر بأنّ الأمر لم يكن في يدها؟ أليس من المدهش أن يكون «تنفيذ الأجندة الانتخابية» تهمة تنأى الحكومة بنفسها عنها؟ أخيراً، أليس غريباً أنّ الدولة التي تصدر المجلدات في انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، تنتخب مرتين رئيساً يضطر إلى إلغاء زيارة للسويد خوفاً من إلقاء القبض عليه بتهمة التورط في التعذيب؟(5).
ما نتحدث عنه ليس في شكل الديموقراطية ومظاهرها، بل في أسس الديموقراطية وتعريفها. فحين يصل الأمر إلى أن يتعرض السياسي الذي «يشكّ» في أنّه اتخذ قراراً أراده الشعب الأميركي بنسبة 78%، ويتوقع أن يعود عليه بالخير لدعم خزينته المنهارة(6)، ألا يعني أنّ الديموقراطية الأميركية في أزمة كبيرة، وأكبر من أزمة الديموقراطية العراقية المنهكة، وأنّ ساسة أميركا يعاملون شعبهم باحتقار رغم كل ما يقال.
كتب أحد المتظاهرين في حركة «احتلوا وول ستريت» يقول: «كيف يمكن أن يحدث هذا في أميركا؟ لماذا تعامل الشرطة المواطنين الأميركيين كأنّهم أهداف عسكرية؟ ولماذا توجه القوة العسكرية اللازمة لشنّ الحروب على الخارج، ضد تجمعات محلية واحتجاجات سلمية؟ هل ما زال هذا بلدي؟»(7).
ما الذي أصاب النظام الأميركي ليصل بالبلاد إلى هذا التدهور الاقتصادي وبأهلها إلى خيبة الأمل العميقة تلك؟ الإجابة قد تكون: الشركات.
تعتمد الديموقراطية الحديثة على مبدأ «صوت واحد لفرد واحد»، إلا أنّ ضرورة المال للإعلان تجعل من قدرة الشخص على التبرع للجهة التي يريد انتخابها أكثر أهميةً من صوته نفسه. وبالتالي فتأثير ملياردير على نتيجة الانتخابات قد يكون أكثر من تأثير أصوات ألف مواطن. هكذا تحطم هذا المبدأ.
ومفهوم الديموقراطية الأساسي هو أنّ الشعب هو الذي يقرر سياسات الدولة، لكن كما رأينا فإنّ القرارات العسكرية بعيدة عن إرادة الشعب، بل إنّ القرارات الاقتصادية والاجتماعية، جميعها أيضاً تحت ضغط سلطة المال.
فمن الناحية الاقتصادية، يمتلك سوق الأوراق المالية عملياً حق الفيتو على قرارات الحكومة المنتخبة. فأول سؤال يسأله البيت الأبيض أو الكونغرس بشأن أي قرار اقتصادي هو عن ردّ فعل سوق الأوراق المالية المتوقع على ذلك القرار. وعندما رفض مجلس النواب أول رزمة لإنقاذ البنوك الأميركية في أيلول 2008، هبط سوق الأوراق المالية برقم قياسي مقداره 777 نقطة، ولم «تهدأ الأسواق» إلا بعد إمرار القرار!
وأما من الناحية الاجتماعية، فتشنّ السلطة المالية التي تقود اقتصاد السوق حملة متواصلة لإلغاء مختلف مخصصات الأمن الاجتماعي وخفض ضمانات التقاعد والبطالة، وتحارب كل محاولات فرض نظام عام للتأمين الصحي وتقليل الصرف على التعليم العام والخدمات العامة.
إنّ ما تشهده أميركا اليوم هو نتيجة السير في طريق بدأ قبل قرون، وحذر منه الرئيس السابق أندرو جاكسون، رغم أنّه لم يكن يتخيل أن الشركات المالية ستتمكن يوماً من سلب الحكومة حتى حق طباعة الدولار!
لقد مرّ الآن قرن على ذلك القرار الذي أسلم رقبة الشعب إلى أيدي الشركات. قرن سارت فيه الديموقراطية الأميركية أشواطاً إلى الوراء، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. فهل من غرابة إذن أن يحتفل الأميركيون غير مصدقين بتنفيذ حكومتهم ما يريدون ولو غصباً؟ وهل من العجب أن يعتذر الساسة ولو بطريقة غير مباشرة، لأنّهم نفّذوا من دون قصد، نقطة في أجندتهم الانتخابية؟ وهل نكون مجانبين للحقيقة إن اعتبرنا أنّ الشعب الأميركي مدين بتحقيق ديموقراطيته في هذه القضية لمقتدى الصدر وليس لأوباما؟