زهّر الربيع العربي بمختلف فصولهِ حكوماتٍ إسلامية، وأظهر علناً التوجه المتديّن في معظم المجتمعات العربية. توجه كان مختبئاً في تفاصيل الانتفاضات العربية، إذ في الشكل ليس للتيارات السلفية وجود، أو ربما نعتقد انه لم يكن لها وجود ولكنّها تسللت وسرقت السلطة في مرحلة أولى من عملها لسرقة المجتمع لاحقاً. والسؤال الذي يُطرح هو: لماذا ظهرت هذه التيارات وكيف وصلت إلى الحكم وما هو مستقبل العدالة الاجتماعية والحرية في ظل هذه الحكومات؟
يجب أن نبدأ بالنقطة الأهم وهي الهوية، لأنّ الاساس يبدأ بالجواب عن سؤال «من أنا، ومن نحن؟». الجواب هو نظرة إلى ذاتي كفرد ضمن مجتمع، ودوري وارتباطي بهذا المجتمع الذي يعبّر عنه بمفهوم الانتماء. تتجسد تلك النظرة سلوكاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، وكيفية رؤية المجتمع لعلاقاته الداخلية بين متحداته (القرية ــ المدينة). فكلما كانت هويتي أو نظرتي إلى ذاتي ضمن نطاق القبيلة والعشيرة والطائفة، فسلوكي محدد ضمن هذا الاطار فقط. وكلما ازداد نطاق الرؤية، توسع انتمائي بشكل أكبر وأعمق. الانسان عبارة عن مجموعة من الروابط الاهلية التي تتشكل جميعها وفق منظومة معينة، وضمن شبكة علاقات اجتماعية تسمى الهوية. فهويتي العامة لا تلغي عائلتي وديني ومنطقتي ومجتمعي وإنسانيتي، بل تشكل الاطار الجامع لكل هذه المكونات والاساس الذي تنطلق منه نحو المجال الاوسع وهو الانسانية. تبقى الهوية القبلية ضمن قبيلتها، وترى كل ما حولها قبائل، وبالتالي تكون في حرب قبلية معهم. والهوية السلفية ترى أن كل من في هذا العالم والمختلف عنها هو كافر، وبالتالي يكون التعبير عن هذه الهوية هو بالقتل والاقصاء. فالهوية التي تتسم بأكبر طابع محافظ هي الهوية الاجتماعية التي ترتبط بالأرض والواقع الاجتماعي، وتبقى منفتحة على باقي الهويات الاجتماعية في العالم. إذاً، ترتبط الهوية بحركة المجتمع وبوعيه وبشكل وهيكلية الدولة التي تعد الحامي والمعزز للهوية الجامعة. في المجتمعات العربية، لا اختلاف في موضوع تراجع مستوى الوعي والمعرفة لدى الشعوب العربية نتيجة الجهل والفقر الذي تعيشه في معظمها. لا يقتصر هذا الجهل على من لا يعرف القراءة والكتابة، فالعديد من متخرجي الجامعات أميوّن في المعرفة. يسهل ذلك دخول الفكر المتطرف إلى غريزة الانسان، فتلك الافكار تخاطب غريزة الإنسان لا عقله، وهذا الخطاب الغرائزي بحاجة إلى إعلام وعدم وعي، وعشر دقائق فقط حتى يمسك بعقل المتلقي ويسيّره كما يريد. في المقابل، امتلاك الانسان للمعرفة بحاجة إلى عمل مستمر ولفترة طويلة ضمن منهاج تربوي متكامل من التعليم والاعلام.
يفسر ذلك ظهور الفكر المتطرف، الذي لم يكن وليد الصدفة، بل هو موجود وبشكل دائم. والفكر المتطرف بشكله العام لا يرتبط فقط بالدين، بل هو نزعة إنسانية نحو إلغاء المختلف بطريقة عنفية، ويأخذ أشكالاً عديدة، منها ديني وقومي وعلماني. فالمشكلة ليست كما يقول البعض في الدين، المشكلة الاساس هي في نظرة الانسان لهذا الدين وكيفية فهمه له في ضوء وعيه وكيفية تعبيره عن الفكر الديني. ومن هنا أهمية طرفين مهمين في هذه المسألة هما الحكومة والمؤسسات الدينية.
لم تتعامل الحكومات العربية مع الفكر المتدين إلا من منطلق القوة والضغط والضرب بيد من حديد. وبالمقابل لم تكن على قدر من المستوى المطلوب أمام الاستحقاق المدني، فبدل أن تعالج هذه الظاهرة من جذورها، تعاملت فقط مع الظاهر منها. فمن الواجب ان تذهب هذه الحكومات إلى منطقتين مهمتين في المجتمع تشكلان النافذة الاساس لدخول هذا الفكر، وهما الحالة الاقتصادية والمستوى الثقافي. فتراجع المستوى في كلتيهما يفتح المساحة بشكل أكبر لاستغلال التطرف، وهذا ما اهملته الحكومات العربية. وكان في موازاته إهمال مماثل من قبل المؤسسات الدينية التي لم تتعامل مع هذه الحالات من الناحية الفكرية، فقد بقي الفكر الديني المتنور مقتصراً على مبادرات فردية لرجال دين توضع في المكتبات، دون أن يستفاد منها في المؤسسات التربوية. واقتصر الجهد على عقد مؤتمرات نتائجها تبقى ضمن قاعة الاجتماعات دون تنفيذها بشكل واضح وحقيقي في المجتمع. في حين عمِل الفكر المتطرف على الاستفادة من كافة الوسائل وفي مقدمتها الإعلام، للوصول إلى الناس بشكل أسرع وبتأثير أقوى. وحظي هذا التوجه بدعم جهات محددة رسمية وخاصة عربية ودولية، بهدف ضرب المجتمعات العربية بداء توقف التفكير، وهو المدخل الاساسي للفتنة.
كانت الديموقراطية أحد أبرز المطالب في الانتفاضات العربية، وهي حق اختيار الشعب لممثليه في الحكم. جرت الانتخابات في معظم هذه الدول وضمن صناديق الاقتراع وصلت التيارات الإسلامية إلى السلطة. السؤال هو: أين الخطأ في تسلّم الحكم تيارات إسلامية، إذا كان وصولها هو ضمن انتخابات وصناديق الاقتراع؟ ليس هناك أي خطأ إن كنا نريد أن يكون جوابنا فقط ضمن الصح والخطأ، لكن الخطأ ليس في الجواب، بل في السؤال نفسه.
مشكلتنا ليست صناديق الاقتراع بل العلاقة بين الدين والدولة. فمن خلال تحديدنا لنظرتنا إلى هذه العلاقة، تتحدد المعايير الديموقراطية التي تنطلق من وعي الشعب وإدراكه. ففصل الدين عن الدولة واستقلال كل منهما عن الآخر هو هدف أساسي، بحيث يحفظ لكل منهما دوره الذي وجد من اجله. وفصل الدين عن الدولة لا يعني فصل الدين عن الافراد، فالطريق إلى السماء لا تمر من مادة في الدستور أو تحديد دين الدولة والرئيس.
إذا كنا نتحدث عن الدين والدولة، فلا بد لنا من ذكر فكرة الأقلية والأكثرية. ليس العدد هو فقط ما يحدد أياً من الجماعات تشكل أكثرية أو أقلية، وإنما الدور والحضور وفاعليتها في مجتمعها، كذلك تشكيل الاقلية والاكثرية على أساس وطني. يعطي ذلك لشكل الصراع وجوهره البعد السياسي الوطني. في المقابل، يؤدي التركيز على أنّ الاكثرية هي من منطلق ديني أو مذهبي، إلى أعطاء كل الصراعات بعداً طائفياً يستتبع حكماً الاقصاء وإنكار وجود الآخر والتعامل معه بصفته درجة ثانية نتيجة عدده القليل. وتتعامل هذه الاكثرية بشكل قمعي مع نفسها قبل غيرها، فهي التي تفرض حكمها وشروطها وقواعدها وهي التي تحدد عقوباتها وبالتالي تحدد من يدخل الجنة ومن يذهب إلى الجحيم. وطبعاً كل ذلك وفق معاييرها الخاصة بها. نسمع اخيراً عن مؤامرة لوصول هذه الحركات إلى الحكم، وخاصة بعد عملية التأقلم الواضحة بينها وبين الحكومات الغربية، بالإضافة إلى الكيان الاسرائيلي. لا أحد ينكر المؤامرة وعمرها اكثر من 50 سنة، فمنذ دخولنا المدرسة نتعلم انّ هناك مؤامرة تريد تقسيم منطقتنا، لكن ماذا فعلنا لنمنع نجاح هذه المؤامرة؟ كل ما فعلناه أنّنا حولناها إلى شماعة نعلق عليها كلّ أخطائنا، فضعف التعليم والكهرباء والصحة لا يتفاقم بسبب المؤامرة! تحولت المؤامرة إلى تهمة تُلصق بمن نختلف معه في الرأي، فنعتبره جزءاً منها.
كيف يمكننا ان نتخطى هذه المسألة في مجتمعاتنا؟ علينا أن ندرك جميعاً انّ حالة التغيير التي نسعى إليها تأخذ وقتاً طويلاً وتحتاج إلى استمرارية في العمل ووضوح أكثر في الهدف الذي يمكن أن نسميه بالاستحقاق المدني. علينا أن ندرك أنّ المسألة الشرقية أصبحت واضحة بنحو كبير، وهي صراع بين تيار الدولة والمجتمع المدني وبين التيارات السلفية ــ المذهبية وما يتفرع عنه من ارتباطات خارجية ستقود إلى تحوّل المجتمعات أكثر فأكثر إلى ساحات للصراع الدولي. المطلوب من التيارات المدنية أن تعيد تنظيم نفسها وخطابها الموحد، وأن تتنازل عن منطق «نحن الاساس... ونحن المناضلون». هذه الـ«نحن» قاتلة، والصراع على سلطة تاريخية لم ينتج سلطة في الحاضر ولن ينتج في المستقبل.
التغيير المقبل يبدأ بصوغ هوية اجتماعية جامعة تبني وتؤسس لفكرة المواطنة الحقيقة من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ضمن دستور يعطي مساحة كبيرة نحو تطوّر المجتمع وليس فقط الاكتفاء بالدستور الواقعي أو الملائم للمجتمع، إذ من مهام اي تشريع وضع الخطوط الاساسية لتطوير المجتمع نحو الافضل، وتطبيق ذلك من خلال قوانين وقواعد تكفل الحقوق والواجبات لكافة أفراد الشعب.
نحن بحاجة إلى ما هو أبعد من الثورة، أي إلى نهضة. إذ لا تقوم قائمة لمجتمع نتيجة حركة ثورية تنتقل من حالة إلى حالة، فالأهم هو السؤال: ما هي الحالة التي نريد الانتقال لها؟ هذا التطور يبدأ بالجذور وليس على السطح فقط، فنهضة الانسان ــ المجتمع هي عملية تقدمية طويلة لا يمكن أن نحكم على نجاحها أو فشلها من خلال أحداث معينة، كوصول الحركات السلفية إلى الحكم. فكل القيم التي تسعى النهضة الشاملة إلى زرعها وبنائها تأخذ وقتها، وهنا تقع المسؤولية على الحركات والتيارات المدنية في إعادة التقييم والعمل لتفعيل هذه القيم لبناء مجتمعات تستحق أن تعيش تحت الشمس.
* كاتب لبناني