منذ حوالى ثلاثة أسابيع، أعلن فخامة رئيس الجمهورية أنّه «لن يقبل بتمديد ولايته أو ولاية أي مؤسسة أخرى من مؤسسات السلطة». لا يخلو هذا الإعلان من إيجابية، رغم أنّ التمديد لا يبدو ممكناً، لأسباب داخلية وأخرى خارجية. داخلياً، لا تملك قوة بمفردها (ولا يملك الرئيس طبعاً) القدرة على تكوين أكثرية تدفع باتجاه تعديل الدستور. وليس من المتوقع إطلاقاً أن ينعقد تفاهم عام على هذا الأمر لمصلحة الرئيس الحالي. أما خارجياً، فقد تغيّر الوضع منذ 2005، وهو يزداد تغيّراً مع تمادي الأزمة السورية وتعمّقها، ومعها قدرة النظام السوري على أداء دور مؤثر في الوضع اللبناني.لا بأس هنا من إنعاش الذاكرة، بأنّ التمديد قد حصل فقط في ظل الإدارة السورية للبلاد. وهو حصل بتأثير وإكراه من قِبل هذه الإدارة، وخصوصاً في الولاية الممدّدة للرئيس السابق إميل لحود. قبل ذلك، حصلت محاولات فاشلة للتمديد. وهي قد ولّدت أزمات وطنية رافقتها انقسامات وتوترات واحتراب أهلي، كما حصل في نهاية عهد الرئيس الراحل كميل شمعون.
التمديد والتجديد و«التأبيد» هي مرادفات لنزعة الاحتفاظ بالسلطة من خلال أمرين أساسيين: مخالفة الدستور أو القانون من جهة، واستخدام وسائل سياسية وأمنية ومالية... داخلية وخارجية، سمتها الإكراه أو الإغراء أو التزوير أو الإرهاب أو الاستقواء، من أجل إمرار ومن ثم فرض هذا الأمر وإدامته، من جهة ثانية. بذلك يصبح هذا الأمر عنواناً لمسار استبدادي ولنزعة هيمنة واستئثار بوسائل غير مشروعة. أما الخسائر الناجمة عنه، فقد كانت دائماً متناسبة مع «حجم» المستبد: هل هو كبير فيقع أذاه على بلد بكامله أو حتى منظومة بلدان، أم هو صغير الحجم والدور فيقتصر أذاه على المعنيين به دون سواهم؟ وفي ما يتعلق بالوقائع التاريخية أو بمسار التاريخ، فلقد نهضت، باستمرار، في وجه المستبدين وأساليبهم حركات احتجاجية وانتفاضات وثورات لم تنقطع ولن تنقطع: منذ « ثورة العبيد» بقيادة سبارتاكوس حتى انتفاضة الشعب الفلسطيني المستمرة ضد مغتصبي أرضه ووطنه ومقدساته وأبسط حقوقه.
وفي خلال ذلك، كانت للحرية والأحرار دائماً وقفات ومحطات، ناجحة أو متعثرة، لكنّها مواظبة ومتواصلة، وذلك من أجل تصويب الأوضاع ورفع الظلم والمهانة وإسقاط الطغيان والطغاة الكبار والصغار، في نضالات كان بعضها أقرب إلى الملاحم والأساطير البطولية.
ولقد نجمت عن الاستبداد خسائر لا تقدّر بثمن: عشرات ملايين الضحايا ومئات ملايين المشردين والمتضررين والحفاة والعراة والجائعين... وفي السياق نفسه، كان الخطر الأعظم حين تقترن نزعة الاستبداد بنزعة الاستغلال، وحين تُجنَّد قدرات أمة من أجل الإجرام ونزعة السيطرة والقتل، كما في التجربة الهتلرية على سبيل المثال.
ولقد أصابت نزعة الاستبداد العديد من قوى التغيير أيضاً. ولا نزال، للأسف، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ورغم مرارة دروسها، نقع على نزعات استبدادية في عدد من التجارب والبلدان والأحزاب التي تحوّلت إلى نماذج للجمود والتخلف والقمع والتوارث...
هذا الاستطراد الذي يحتاج إلى المزيد لإلقاء الضوء على خطورة مسألة العبث بالدساتير وبالقوانين خدمة لمآرب فردية وفئوية وتسلطية، يطرح، بالضرورة، ألا يقتصر احترام الشرعية الدستورية على مواد دون أخرى، وعلى حالات الضعف والعجز دون حالات الاقتدار والاستطاعة. وينبغي، قطعاً لكل تأويل، أن ننصف الرئيس ميشال سليمان، بأنّه قد أعلن، منذ البدايات، رغبته في معالجة بعض أشكال الخلل في حياتنا السياسية. وهو تحديداً قد تناول، في أكثر من مناسبة، ضرورة إقرار قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية، كذلك تناول موضوع الطائفية السياسية، وضرورة إنشاء هيئة عليا لإلغائها، كما نص الدستور اللبناني في مقدمته وفي مواد حاسمة أخرى أبرزها المادة 95.
إنّ من عجائب نظامنا السياسي ومن «مكرمات» حكامه، أن الدستور يصبح مجرد وجهة نظر. وهو يُغيَّب أو يحضر، يُشوَّه أو يُجتزأ... فقط وفق ما تمليه المصالح والفئويات والدويلات التي لن تقوم وتستمر بغير ذلك النوع من التنكر للدساتير والقوانين. وإذا كان في رصيد الرئيس أنّه تذكّر وذكّر، أحياناً، إلا أنّه تراجع وتأخر أحياناً أخرى. وتأتي فرصة اليوم لكي يعطي الرئيس معنى لمواقفه المذكورة، ولكي يحدث أثراً إيجابياً في المسار اللبناني المعرّض لمخاطر شتّى راهناً.
يصبح هذا الأمر أسهل إذا كان المسؤول لا يطلب شيئاً لنفسه، أي التمديد تحديداً. فلبنان الذي كان أفضل حالاً بالمقارنة مع أنظمة البلدان العربيّة الأخرى، يتحوّل الآن، مع تحجّر نظامه وتخلف آليات الحكم فيه، إلى المؤخرة بسرعة قياسية! فالتجارب العربية، ولو وسط مخاض وصراع، تتجه نحو احتمالات جيدة من التطور السياسي في النظم والمؤسسات، وعلى مستوى المشاركة وتداول السلطة وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة... نسبياً!
لا ينبغي أن يكون الرئيس سليمان مرتاحاً أبداً وهو يعاين إدارة تخترقها المحاصصة ويعمّها الفساد والفئوية. ألم تتفاقم الطائفية إلى مذهبية مقيتة؟ ألا يشمل التعدّي على الدستور تحويل مؤقّته إلى دائم بشأن موضوع الطائفية؟ ألا يجري سحب التقاسم الطائفي على كل الإدارة بعد أن حصرها الدستور مؤقتاً في الفئة الأولى بانتظار إلغاء الطائفية السياسية أو حتى الطائفية عموماً؟!
وهل ستقرّون يا فخامة الرئيس قانون انتخاب خلافاً لمصالح البلاد ولصحة التمثيل ولدستور البلاد، ونزولاً عند رغبة بعض السياسيين ممن يُحاضر اليوم في الإصلاح شرط أن يظل بعيداً عن «إمارته» وعن «قصره» ودكانه؟
لقد استغل تجار السياسة والدين والعصبيات كلّ شيء من أجل تقوية ممالكهم ودويلاتهم وإضعاف الوطن واستتباع المواطن. فَمَن للوطن وللمواطن إذا لم ينهض بعض مسؤوليه من أجل درء بعض الكوارث «من فوق»؟ بانتظار أن يتحرك المعنيون «من تحت» لدفع الخطر وتصحيح المعادلات وتمكين الشعب اللبناني من أن يكون له نظام وتكون له سلطة بحجم تضحياته وبطولاته وتطلعاته!
* كاتب وسياسي لبناني