لا تبدو الأمور دائماً كما هي في الحقيقة. فالطرقات ليست دائماً مزدحمة، عندما نكون في مزاج سيّئ، ولا يكون الطقس رديئاً أيضاً، ولا تصبح نظرات الناس مهدّدة فجأة، لكن من الصعب علينا التفريق بين ما هو حقيقي، وما ندركه عندما يصيبنا الكرب. أم هي الهورمونات مجدّداً؟
المهمّ، هناك شيء أو أشياء تبدو غير صحيحة لمن تعيش ويعيش في لبنان، وبالتحديد في بيروت.
إن كان ذلك في أسعار الإيجارات المجنونة، أو في طريقة تعامل الناس مع بعضهم البعض، أو في القرف المتجدّد كل يوم.
مع كلّ إشراقة شمس، تستفيقين وتبدئين يوماً جديداً، بحركات شبه آلية وانصياع تام لما هو مطلوب منك من العائلة والجيران والناس في الشارع وفي المصعد وفي المكتب.
فإيقاع المدينة متعب ووجوه الناس المنهكة النزقة لا تبعث أيّ أمل. الأمل هو كلمة السرّ هنا. فالأحوال سيئة جدّاً. سيئة لدرجة أنّني لا أستطيع استيعاب ما يجري من جهة، وغياب ردّ الفعل عليه من جهة أخرى. سعر تنكة البنزين مقارنةً بالحدّ الأدنى للأجور، سرقة الدولة لبدل النقل، رفض قوانين حماية المرأة ضد العنف المنزلي، وحرمانها الجنسية لأولادها. وفي المقابل، صمت أو تخدير، أو في أفضل الأحوال تظاهرة هزيلة هنا أو هناك لمن تحرق نفسها لترفض ما يحدث.
لا منطق في أن يكمل هذا الكيان حياته. لا منطق. لكنّنا نراه، مع كل إشراقة صباح، يفعل، ويمتصّ منّا المزيد. ولا أمل. فمن تعش في هذا الوضع، تستطع ــ إذا ما صفعتها بشاعة بيروت في ضوء الشمس ــ ربّما، أن تكمل نهارها دون كآبة إن وجدت نوراً، خيطاً، أو ربّما خليّة أمل صغيرة، لكن في بيروت؟ أبداً! ولا ممكن.
أين الأمل، دلّوني عليه. خذوني من يدي، أنا الجاهلة، واهدوني إلى طريقه. أفي عيون الناس الغائرة التي سئمت من سنين الحروب والنهب، أم في محاولات مائعة للتغيير وفرض بوهيمية مزيّفة، أم في طأطأة الرأس والصلاة لأنّ الله، أو مهما أردتم تسميته ذلك الذي ترمون ضعفكم عليه، سيأتي بالتغيير لمن تستحقّه؟ أين؟
ليس هذا بياناً لليأس، وإنّما للبحث عن حلّ بالأمل.
لفترة، كنت أقول «هي مدينة تموت كلّ يوم». لا أدري إن كان ذلك صحيحاً. لكن فكرة الموت موجودة في هذه المدينة، إن كان ذلك في كينونتها أو في ما تعطيه لمن يأتيها.
أبحث في كلّ شيء، كلّ يوم عمّا يمكن أن يجعلني أبتسم وأقول «في أمل». أمشي على الرملة البيضاء. يلفح الهواء البارد وجهي في أمسية آذارية تزداد برودةً مع غياب الشمس. تغيب، ويغيب معها الشعور بأنّ لبيروت غداً ما. في السيارة الصغيرة القديمة، لا تصلني برودة النسمة المسائية، لكن صقيع اللحظة. وأذكر بيتين أو ثلاث أبيات لغادة السمّان. في هذه المدينة ينمو شيء أو شيئان «يستحقّان الحياة». تبدو الحياة أسهل بجانب البحر، أو في ظلّ قهقهة طفل يركض خلف قطّة، أو في دفء ذراع في الصباح، أو بكلّ بساطة تحت الشمس. أشياء صغيرة تُفرح لثوان، لكن كيف نوقف احتضار الأمل في بيروت؟
«عبثاً يسطون على دفء القلب
إني أتذكر...
أحارب الجدران بنوافذ الحلم...»
(من قصيدة «أشهد أنّ زمانك سيأتي» لغادة السمان)
* صحافية لبنانية
8 تعليق
التعليقات
-
تعليق على الموضوعكيف يمكن ،أن" نوقف احتضار الأمل" ليس عن أهل بيروت فقط بل عن كامل أهل البلد،طالما كل يوم ، غلاء في الأسعار،أو فضيحة أو سمسرة أو رشوة أو غذاء فاسد أو مياه ملوثة أو نفايات ... والجديد في الأمر لا معاشات !
-
تجربتى وبيروترغم تجربيتى القلية مع بيروت ولكن هذا المقال نقل لى كثيرا مما أحسست به تجاه بيروت, استنشقت هواء مدينة تحتضر .. مدينة تستغيث مما يحدث لها من إفراغ متعمد لمحتواها الذى أستنشقت هواءا يحدثنى أنه كان هناك ماضيا جميلا وليس ببعيد يبحث عن من ينقذه من تفريغ لمحتواه .. أحببت بيروت ليس لشكلها ورسالتها الحالية ولكن لاستغاذتها لى مما يحدث لها .. تعلقت ببيروت لأنها أرسلت لى رسالة واضحة .. أنا لست بهاذا السوء وآسفة لما يحدث لى من انتهاكات .. فأنا أحتوى على مكنون ليس بهذا السوء ... وأحاول اباره للزوار رغم صعوبة الظروف .. أحببت بيروت للصورة الخيالية التى استنتجتها من الحوار معها ولكن ليس من وضعها الحالى المذرى فى وجهة نظرى
-
رائع جداوطن لا ينفكّ يلفظ ابناءه خارج جسده, و من يبقى منهم يعاني الأمرّين. و في كلّ الأحوال يسكننا الألم في الغربة كما في الوطن...
-
صوابلا يمكن أن أصف صواب ما تكتبيه في كل مرة اقرأ ... أن تدرك/ي وجود فكري فلسفي ونفسي مواز لما يضرب في عمقك كل يوم قبل إبتلاع حبات مهدئ الأعصاب لتحمل وقع فراغ الأمل في المسير والحياة هو تطور وجودي لا بل حاجة أساسية، وهذا ما تفعليه ... أرجوكي أكملي ... عفواً على المقاطعة......
-
بل أصح نعيش غضباً دائم ينعكسبل أصح نعيش غضباً دائم ينعكس في تفاصيل حياةً ال يومية تحدد علاقتنا مع ال محيط سواء كان بشر أم حجر.و السؤال الذي يطرح هنا هل يمكن ال إستفادة من هذا ال غضب لتغيير ال واقع ال متأزم الذي بدأ ينهش ما بقي فينا من إحترامٍ لل ذات و لكل ما هو إنساني فينا? هل نبقى في حالةٍ من ال إنتظار الممل ال قاتل? أم أن لحظتنا ال تاريخية التي طال انتظارها قد نضجت وأن موسم ال قطاف ول حصاد? في ظل غياب مجتمع مدني فاعل و ناشط تبقى ال إحتمالات ضئيلة و مخيبة لل أمل و نبقى جميعاً على حافةٍ ناتئة تصرخ لأرواحٍ خالدة لعلها تنتشلنا من واقعنا الأليم
-
معك حق بيروت مدينة تقتلنعم بيروت مدينة تقتل ابناءها ..لا امل بغد افضل .. نعيش غصباً عنا لأن لا امل في الإنتحار ايضاً ... نعيش على المهدئات العصبية كلما طالعتنا الصحف ونشرات الأخبار .. تلفزيون يصرف 400 موظف .. صحفي يقتل غدراً.. 40 الف تنكة البنزين ... لحوم فاسدة..مياه ملوثة .. الزيادةالسنوية على اقساط المدارس... الأم والاب يعملان .. انتاجهم الشهري يقارب ال4000$ و لا يستطيعون ان يشاهدوا فيلماَ سينيمائياً لمرة واحدة في الشهر !!! انه ترف .. في ظل عائلة مؤلفة من خمسة افراد !!! نهرب الى المسلسلات التركية التي برومنسيتها وواقعيتها ترضي المتخيل فينا .. شكراً جنى
-
في عمق المقال حس روائي و ادبيفي عمق المقال حس روائي و ادبي مخفي يجب تطويره و تنميته و البناء عليه .