ليست هيمنة الإسلام السياسي الشيعي، ممثلاً بالتحالف «الوطني»، على الحكم في عراق اليوم، وعلى مظاهر الحياة العامة الغارقة في الفوضى وانحسار مظاهر المدنية والمعاصرة لصالح سيادة عقلية التحريم والتكفير والإفقار المادي والروحي، ليست موضع خلاف، بل هي واقع قائم وموثق بالأرقام والحيثيات الملموسة. ومع أنّ أحداً، من داخل العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال، لا يشكك مباشرة بـ«شرعية» هذا الحكم، فهو كما يزعم «المتشاركون» فيه، نظام جاء عبر انتخابات تشريعية، لكنَّ التشكيك يطال الدستور الذي تمت «فبركته» في اجتماعات مغلقة وعبر صفقات سرية من وراء ظهر الرأي العام، وبمشاركة خبراء أجانب مرتشين، من أشهرهم الخبيران الأميركيان فيلدمان وغالبريث.
ثم إنّه دستور مستفتى عليه وفق طريقة النظم الشمولية الفائزة دوماً بنسب شبه مطلقة، رغم ما قيل حينها عن تزوير كبير ومنظم، حدث في محافظة نينوى حين كان هذا الدستور على وشك السقوط. معروف أنّ الدستور ذاته ينص على أنّه يسقط في الاستفتاء إذا صوتت ضده غالبية المصوتين في ثلاث محافظات بـ«لا»، بموجب الفقرة الثانية من المادة الرابعة من قانون الاستفتاء والتي جاءت مقتبسة من قانون إدارة الدولة المادة (61) الفقرة (ج) التي سنَّها الحاكم الأميركي بريمر هديةً لحلفائه الأكراد الذين أرادوا التسلح بفتيو يمثل محافظاتهم الثلاث ضد محافظات العراق العربية الخمس عشرة، ويصادرون إرادتها في نموذج عجيب من «ديموقراطية الطوائف والعرقيات»! ولولا التزوير في نينوى لسقط الدستور فعلاً، بعدما رفضته محافظتا الأنبار بنسبة 99% وصلاح الدين بنسبة 71%. غير أنّ الحزب الإسلامي، الفرع العراقي لحركة الإخوان المسلمين، وبعد أن روَّج للدستور طويلاً وشارك في صياغته، حَمَّلَ مسؤولية تمريره للذين «دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء فساهموا مباشرة في تمرير الدستور في محافظة نينوى حيث لم تتعدَّ نسبة المشاركة فيها 45%».
إنّ التشكيك يطال أيضاً قانون وآليات الانتخابات التشريعية والمفوضية المشرفة عليها، والتي عملت بالتواطؤ المباشر مع سفارة وجيش الاحتلال لدرجةِ أنّها سلمت سرّاً صناديق انتخابية إلى الجيش الأميركي، بشهادة النائبة حنان الفتلاوي في جلسة مجلس النواب في 30 حزيران 2011 والمخصصة لاستجواب رئاسة المفوضية. وقد حجب رئيس المجلس، أسامة النجيفي، التسجيل التلفزيوني لمداخلة الفتلاوي، وهذا أمر له دلالاته الخطيرة.
هذه الآليات والقوانين أنتجت برلماناً شبه معيّن وناقص الشرعية، لم يفزْ فيه عن جدارة، وبعدد معقول من الأصوات إلا عدد قليل جداً من النواب. وقد أوضح الخبير القضائي طارق حرب أنّ الأمر لا يتعلق ببعض المرشحين بل بجلِّ الفائزين فيكتب في يومية بغدادية «أنّ العدد الحقيقي للنواب الذين فازوا بأصوات منحها لهم الناخبون لا يتجاوز 17 نائباً، وقد أورد قائمة بأسمائهم وأعداد الأصوات التي حصلوا عليها، أما الآخرون وعددهم 208 نواب فقد فازوا بفائض الأصوات التي حصلت عليها كياناتهم السياسية!».
إنّ الحكم القائم اليوم مؤسس ومُصَمَّم على المحاصصة الطائفية والعرقية، وهو نتاج فاسد لفترة الاحتلال، وكان ينبغي أن يزول بزواله، أو يعدل تعديلاً جذرياً يتلاءم مع التعديل الجوهري في الظروف الموضوعية. غير أنّ هذه المؤسسات والآليات والشخصيات السياسية المهيمنة بقيت قائمة، فأصبح النظام بمجمله موضع الشك ونقص الشرعية. إنّ إزالة إفرازات فترة الاحتلال لا يعني قذف البلاد في المجهول، أو الانطلاق من الصفر، كما ينادي بعض المتطرفين من الطائفيين السنّة وبقايا النظام الشمولي السابق. بل يمكن أن يحدث ذلك من خلال البدء بإلحاق الهزيمة السياسية بالقوى الطائفية الشيعية في معاقلها التقليدية في الجنوب والفرات الأوسط. ويمكن الوصول إلى ذلك عبر نضال شعبي طويل وصبور يستهدف عزل تلك القوى وإخراج الجماهير الشعبية من هيمنتها وتضليلها وفسادها وإفسادها، وتشكيل تحالف ديموقراطي وطني حقيقي، يقطع مع فترة الاحتلال والمحاصصة ويقدم للعراقيين أملاً جديداً في الخلاص عبر دستور جديد ومعدل جذرياً وقانون الانتخابات منصف وديموقراطي حقاً!
لقد صممت دوائر الاحتلال تركيبة الحكم القائم اليوم وآلياته التنفيذية، وفق ما يعرف بتصميم «المتاهة» التي لا يخرج منها مَن يدخلها، وهي تنتج المزيد من المشاكل والأزمات كلما دارت محركاتها على أرض الواقع. وبهذا فهي تمثل تهديداً مستمراً لسيادة البلاد واستقلالها وأمن شعبها، وتبقى سماؤها ملبدة بسحب بجولات الاقتتال والحروب الأهلية الطائفية والقومية.
إنّ جميع الأطراف المشاركة في هذه اللعبة السياسية تتحمل المسؤولية، بما أنّها مشاركة فيها ومنتفعة منها وتواصل ترسيخها رغم المواقف النقدية والمعارضة التي تبديها، إنما ليس لأسباب مبدئية بل لأخرى تتعلق بحجم حصتها من الامتيازات والسلطات والمناصب والأموال العامة المنهوبة علناً. ومن الجلي أنّ هيمنة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في التحالف الوطني تمثل الركيزة الأهم لنظام المحاصصة الطائفية العرقية، رغم المزاعم اللفظية المعاكسة لبعض أطرافها. وقد تمكنت هذه القوى من الإمساك بأذرع السلطة وآلياتها، وتمكنت من بناء قوات عسكرية ضاربة في الجيش والشرطة. إضافة إلى ذلك هناك وجود شبكة واسعة من الميليشيات النائمة وجهاز إعلامي ودعائي فعال، يتوسل التحريض الطائفي وإثارة الغزائر والعواطف البدائية ويعتمد البروباغندا الطائفية الدينية والبلطجة الشارعية في مواجهة التحركات الاحتجاجية. على هذا، يمكن الاستنتاج أنّ استمرار هيمنة الإسلام السياسي الشيعي على الحكم، مع تقديمه بعض الفتات للشركاء الطائفيين والقوميين، سيعني بقاء حكم المحاصصة الطائفية وترسخه، وأنّ ارتخاء قبضته على الحكم سيعني اقتراب هذا النظام من نهايته واقتراب البديل العراقي الديموقراطي من التجسيد. فأيّ طرف أو قوة يمكنها إنجاز مهمة إنهاء هذه الهيمنة؟
لا جدال في أنّ هذه المهمة الكبرى بحاجة لجهود جميع القوى العراقية الديموقراطية الرافضة للطائفية والتبعية للأجنبي، وهي فعلاً مهمة صعبة ولا يمكن إنجازها بجهد الوطنيين والديموقراطيين في مكون مجتمعي واحد. لكنّنا بقراءة الواقع السياسي الاجتماعي الراهن سنصل إلى بعض الخلاصات النوعية التي تجعلنا نعطي بعض الخصوصية لطبيعة القوى المتصدية لحكم المحاصصة الطائفية.
إنّ أي جهد معارض لهيمنة الإسلام السياسي الشيعي تنطلق من المناطق الغربية والشمالية، ستفسر وتحسب، حقاً أو باطلاً، ضمن سياق الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة، الأمر الذي سيثير ردود فعل قوية ضمن حالة الولاء الطائفي لصالح أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في معاقلها، وهذا أمر ليس في مصلحة البرنامج الديموقراطي الوطني وقواه. ثمَّ إنّ هيمنة القوى المشاركة في العملية السياسية في هذه المناطق لا تقل خطورة عن تلك الموجودة في الجنوب والوسط لسببين. الأول، هو تحالف بعض زعمائها مع القوى الطائفية الداخلية والأجنبية المعادية للعراق. وثانياً، بسبب الدور المدمِّر الذي لعبه ويلعبه سياسي كإياد علاوي والذي اتخذته القوى السياسية في المناطق الغربية زعيماً لها، رغم وجود أدلة كافية على أنّ علاوي لم يكن خياراً داخلياً لمكونات قائمة «العراقية»، بل كان خياراً أميركياً مفروضاً على هذه القوى. لكن النتيجة تبقى هي ذاتها، فقد أجهضت هذه القوى بمراهنتها على علاوي أي احتمالات لتطوير برنامجها ذي الشعارات الوطنية المناهضة للطائفية باتجاهات ديموقراطية جذرية، وفشلت في إنجاز أي انتشار حقيقي في مناطق الجنوب والوسط. وهكذا تحوّلت «العراقية» من قوة جذب تتبنى الشعار الوطني الديموقراطي بوجه الطائفيين من جميع الطوائف إلى «كتلة سنيّة بطربوش شيعي»، وفق تعبير إعلامي صار شهيراً في ما بعد. وبالمثل سيُفَسَّر أي تحرك ينطلق من مناطق إقليم كردستان ضد هذه هيمنة الإسلام السياسي الشيعي على أنّه امتداد للصراع القومي بين العرب والأكراد.
تأسيساً على ما سبق، نعتقد أنّ رأس الحربة في النضال ضد هيمنة الإسلام السياسي الشيعي المتحالف مع الولايات المتحدة، والمحمي أمنياً من قبل إيران، ينبغي أن تتكوّن أساساً من القوى الديموقراطية الوطنية والرافضة للطائفية والتبعية في الجنوب والوسط. أما القوى الديموقراطية في مناطق العراق الأخرى، فلن تكون في إجازة أو استراحة، وإنما يجب أن تمارس دورها الحيوي والمهم بالترادف والتنسيق التام مع القوى الديموقراطية في الجنوب والوسط.
إنّ مهمة إنهاء هيمنة الإسلام السياسي الشيعي، على الحكم والحياة العامة، هي مهمة الديموقراطيين العراقيين في معاقل هذه الهيمنة في الجنوب والوسط قبل غيرهم، لكن هؤلاء لن يستطيعوا إنجاز هذه المهمة التاريخية وإنقاذ العراق من التوّترات وجولات الاقتتال الطائفية والقومية بمفردهم، وإنما بالتنسيق والتوحيد الفعلي مع زملائهم الديموقراطيين والعلمانيين في عموم
العراق.
* كاتب عراقي