ما يحدث في أوروبا اليوم من «تصدعات سياسية» يخصّنا. ولأنّه كذلك يجب مقاربته كما لو أنّه وقع في دمشق والقاهرة، لا في باريس وأثينا. ففي القاهرة، بدأ ما يفترض أنّه «ربيعنا»، ومرّ بعدة محطات قبل أن يتعثّر ويرتد على أعقابه في دمشق. الأوروبيون اليوم يحاولون أن يسلكوا «طريقاً مماثلة»، لكن من دون ادعاءات كبيرة، ومن دون أن يختار لهم أحد عنوان حراكهم أو وجهته. لقد اختاروا بملء إرادتهم إسقاط ساركوزي وتنصيب هولاند بدلاً منه. الاثنان جزء لا يتجزأ من «الاستابلشمنت» الحاكم في أوروبا. هم يعرفون ذلك، ويعرفون أكثر أنّ تقويض هيمنة النخبة الرأسمالية على الحيّز العام دونه عقبات كبيرة، فضلاً عن كونه خياراً غير متاح في ظل موازين القوى الحالية. لذا فضلوا الخيار الأقلّ سوءاً على الأسوأ، ريثما يتيح الحراك الذي تبلور أكثر في اليونان المجاورة (إسقاط ذراعي الأوساط المالية هناك: الحزب الاشتراكي (باسوك) وحزب الديموقراطية الجديدة اليميني) شروطاً أفضل لخوض المعركة القادمة. قد لا يكون المثال اليوناني صائباً تماماً هنا. فالتصويت ضد الائتلاف الحاكم في أثينا بذراعيه اليمينية و«اليسارية» كان تصويتاً عقابياً بالدرجة الأولى. وغالباً ما يكون هذا النسق من التصويت ذا طابع لحظي، وغير مستند كفاية إلى خلفية أيديولوجية واضحة ومتبلورة. خلفية تلحظ بعمق مصالح الطبقات الشعبية التي تهشّمت تماماً جراء إذعان النخبة الحاكمة في اليونان لبرنامج التقشّف، الذي أملته الأوساط المالية في الاتحاد الأوروبي وفرضته فرضاً على الشعب اليوناني عبر ممثلها هناك: رئيس الوزراء السابق «المنتخب» (اقرأ: المعيّن) من جانب المصارف لوكاس باباديموس. طبعاً ما كان ممكناً أن تقبل الكتلة الشعبية الأكبر داخل اليونان تمرير التحايل الذي مورس عليها من جانب المصارف وممثليها، فاختارت «المهادنة» قليلاً ونقل المعركة من الهيئات المنتخبة (صورياً) إلى الشارع، قبل أن تعود بشارعها الغاضب مجدداً إلى قلب الهيئات تلك (الانتخابات التشريعية الأخيرة) و«تقوضها من الداخل»، ولو مؤقتاً. وكعادة كل حراك يأتي من القاع، جاءت الحصيلة محيّرة بعض الشيء، إذ جيّرت الكتلة التصويتية الناقمة لمصلحة حزبين يقفان على طرفي نقيض تقريباً (حزب «سيريزا» اليساري الراديكالي وحزب «الفجر الذهبي» اليميني المتطرف). غير أنّ الحيرة ذاتها لا تلبث أن تتبدد بمجرد أن نعلم أنّ اختيار الشعب كان كذلك لعلمه مسبقاً بمجيء الحزبين هذين من خارج النخبة التقليدية التي حكمت اليونان عقوداً، ولاحتواء برنامجيهما الانتخابيين على رفض واضح لخطط التقشف الأوروبية، كل من موقعه. للوهلة الأولى، لا يبدو الجمع بين يسار راديكالي ويمين متطرف خياراً صائباً، لكن من يحدد اليوم في ظل الأزمة الطاحنة التي تمرّ بالنظام الرأسمالي الصواب من عدمه؟ قد يكون الصواب الآن والى حين، ملازماً لاختيار الطبقات الشعبية لمن يمثّلها (وقد لا يكون) ولمن يحدّ من تآكل مصالحها ومكتسباتها الاجتماعية. هذا ما تعدنا به على الأقلّ أحزاب اليسار الراديكالي التي بدأت تطلّ بوجهها في أكثر من بلد أوروبي. يبقى اليمين المتطرف ومحاولاته لإعادة إنتاج صورته على شاكلة ما تفعله مارين لوبن اليوم في فرنسا. ثمة مشكلة حقيقية هنا. ومشكلتنا مع هذا النسق من اليمين أنّ الإجماع على الوقوف ضده ما عاد إجماعاً بالمعنى الذي كنا نعرفه. حتى الدعوات التي صدرت عن الأحزاب الفائزة في انتخابات اليونان لاستبعاد ممثلي اليمين المتطرف عن أية تشكيلة حكومية مقبلة لا يتوقع لها أن تلقى صدى كبيراً . لقد بات هؤلاء جزءاً من المعادلة القائمة في أوروبا، بعدما استنفد النظام الرأسمالي هناك قدرته على إنتاج أنماط يمينية قادرة على تحقيق مصالحه. يبدو أنّ النخب الممثلة للأوساط المالية باتت مستعدة لتقبل الواقع الجديد، ولإخراج أحزاب اليمين المتطرف من الهامش، الذي قبعت فيه عقوداً، إلى المتن. حصل شيء من هذا القبيل أخيراً في منطقتنا. وللوقوف أكثر على هذه «المطابقة» ما علينا إلا أن نجري تمريناً بسيطاً: ضع «أوروبا الجديدة» مكان «المنطقة العربية الجديدة»، وأنزل أحزاب اليمين المتطرف الصاعدة هناك محلّ أحزاب الإسلام السياسي المتنقلة بين بلد عربي وآخر هنا. ما هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها من ذلك؟ سأجرّب الإجابة نيابة عن البعض فحسب: إذا كان هنالك من خلاصة حقاً فهي أنّ التمرين أعلاه ليس موفقاً كفاية، وليس صالحاً للاستخدام في مقارنات من هذا النوع. مثلاً استقبلت أوساط الإسلام السياسي «الحاكم» في كل من مصر وتونس (حزبا «النهضة» و«الحرية والعدالة») فوز فرانسوا هولاند في الانتخابات الفرنسية بترحيب شديد! هم لم يرحبوا به حقاً، بقدر ما هللوا لسقوط ساركوزي. وساركوزي بات قريباً من أوساط اليمين المتطرف في الآونة الأخيرة. معنى ذلك أنّ اليمين الإسلاموي في منطقتنا يقف مع اليسار النظامي في أوروبا في معركته ضد جناحي اليمين هناك. يبدو أنّنا وقعنا في تناقض يصعب فهمه أو تفكيكه. سنجرّب مرّة أخرى، وسيعيننا التحليل الطبقي في ذلك: «التناقض» أعلاه بين يمينين واحد في منطقتنا العربية وآخر في أوروبا هو ليس تناقضاً، لأنّه نتاج تحليل ساذج يرتكز على ما يسمى «المسألة الثقافية». وهي مسألة «ملفّقة و«مختلقة» إذا ما نظر إليها من زاوية محض طبقية. فاليمين الذي يعاد إنتاجه في أوروبا اليوم ليجد مخارج للانسدادات الرأسمالية هناك، يلاقي اليمين الذي صعد على ظهر الحراك العربي هنا في مفصل أساسي: تصفية مصالح الطبقات الشعبية والإجهاز على مكتسباتها بالكامل. والاختلاف بينهما حول ما يسمى «المسألة الثقافية» (النقاشات حول الهوية وموقع الإسلام في أوروبا وجذور الأخيرة المسيحية و...الخ) هو اختلاف عرضي بالضرورة، ولن يصمد طويلاً أمام نية الرأسمالية الدولية تتويج «علاقتهما العضوية» بزواج كاثوليكي ينهي ما بدا أنّه «تناقض» للوهلة الأولى. أما من صوّت في مصر أو في اليونان لهذا اليمين أو ذاك، اعتراضاً منه فحسب على إذعان من همّش الاثنين للنخب الرأسمالية في أوروبا وأميركا، فسيكتشف لاحقاً أنّ افتراضه «للبدائل» لا يعني حقاً أنّها كذلك. فأي بديل هو ذاك الذي يعدنا به خيرت الشاطر وصحبه من رأسماليي مصر الجدد؟ من قرأ الحوار الذي أجرته «البديل» المصرية معه قبل فترة، ستحضر إلى ذهنه فوراً أطياف جمال مبارك وباقي الطغمة المالية التي نهبت مصر. كلّ ما يعدنا به الرجل هو تنظيم «أكثر عدالة» للمنافسة بين الشركات، وعودة موضعية عن الاحتكارات التي مورست أيام مبارك الأب (اقرأ: نقل الامتيازات من ضفّة إلى أخرى ومرونة أقلّ في النهب المنظم). هذا عن اليمين الذي حملته صناديق الاقتراع إلينا في مصر، لكن ماذا عن اليمين الآخر الذي أتى بعده بقليل في اليونان وفرنسا؟ لا نعرف الكثير حتى الآن عن البرنامج الاقتصادي لليمين المتطرف الذي حصد ستة في المئة من أصوات الناخبين اليونانيين. جلّ ما نعرفه أنّ كتلاً شعبية وازنة هناك اختارته لأنّه لم يتحوّل بعد إلى جزء من «الاستابلشمنت»، ولأنّه يرفض في شعبوية واضحة وغير مرتكزة على أسس متينة، خطط التقشّف الأوروبية. يبدو أنّه اختار صياغة شعبوية رائجة لخطابه الرافض لخطط التقشف و«المناهض للعولمة» (هل سمعتم يوماً عن يمين مناهض للعولمة؟) حتى لا يظهر بمظهر من يلعب في ملعب غيره (اليسار الراديكالي طبعاً). على أي حال سيبقى الشعب له بالمرصاد إذا ما ظهر من ممارساته اللاحقة أنّه ينهج منهجاً أملته ظروف التصدع السياسي في البلاد، ومحاولات النخب الرأسمالية التكيف مع التصدع ذاك. لنقل إنّ الطبقات الشعبية، التي أقصت اليمين التقليدي في فرنسا، نظراً إلى تحوله عقبة أمام تحرّرها ونيلها لمكتسباتها، قادرة على فعل الشيء ذاته مع اليمين المتطرف في اليونان، وفي غيره، إذا ما لمست نكوصاً عن وعوده الانتخابية لها بممانعة مشاريع التقشف الأوروبية. هي إذاً في مرحلة انتظار لما سيأتي به تصويتها العقابي وغير المحسوب تماماً. صحيح أنّ الخيار هنا ينم عن دراية معينة بتركيبة المجتمع اليوناني (وكذا الأوروبي)، إلا أنّه غير كاف للقول إنّ الوعي السياسي (وكذا الطبقي) لدى تلك الكتل الشعبية قد تبلور تماماً. يصحّ القول بتبلوره مثلاً على الخيار الذي اتخذته كتل شعبية أخرى في اليونان بالتصويت الكثيف والمنهجي لحزب «سيريزا»، الذي يمثل اليسار الراديكالي في تلك البلاد. تعالوا نقرأ ما قاله زعيم هذا الحزب (ألكسيس تسيبراس) في معرض نقده لمناورات حزبي «باسوك» و«الديموقراطية الجديدة»، بعد تكليفه بتأليف حكومة ائتلافية: «لا يمكننا أن ندعم في وقت واحد حكومة مناهضة للتقشف والاتفاق مع المنظمات الدولية (لإنقاذ اليونان) أو سياسات (المستشارة الألمانية) أنجيلا ميركل». وأضاف: «الحكم الذي أصدره الشعب اليوناني في الانتخابات يذهب في الاتجاه المعاكس لسياسة التقشف، وهذه فرصة تاريخية لرفضها». قال الرجل هذا الكلام بعد فشله في تأليف حكومة ائتلافية أراد لها أن تكون يسارية الطابع. هو إذاً كلام إجرائي لأغراض تأليف الحكومة وما شابه، لكنّه ينطوي على بعد راديكالي قلّما خلا منه خطاب لتسيبراس، سواء كان انتخابياً أو غير ذلك. يقول مثلاً في مناسبة تكليفه تأليف الحكومة قبل فشله في ذلك إنّه يسعى إلى إنشاء ائتلاف يساري يرفض الإجراءات (حزمة الإنقاذ الأوروبية) التي وصفها بأنّها بربرية. عندما تصوت كتل شعبية كبيرة ووازنة لحزب يمتلك رؤية جذرية كهذه، فهي تعي تماماً ما تفعله، وتختار لانشقاقها عن السياق السائد «للسياسة» في اليونان وفي أوروبا عموماً عنواناً واضحاً هو التصويب على من يقرّر السياسة المالية في أوروبا، تماماً كما فعل تسيبراس: ألمانيا ويمينها الحاكم. أين اليمين المتطرف الذي انتشلته كتل شعبية حقيقية من القعر الذي يقبع فيه من كلّ ذلك؟والى أن نعرف تماماً مكانه من المعادلة (الأرجح أننا فعلنا ذلك) لا بأس من التدقيق قليلاً في نموذجه الأكثر جماهيرية وسطوعاً اليوم: مارين لوبن وخطابها الملتبس. خطاب يذمّ العولمة لأنّها أتت بالمهاجرين فحسب. هكذا تختزل العولمة في خطاب لوبن ورفاقها. ثم يأتي لاحقاً ذمّ سياسات التقشف الأوروبية. لا نعرف تماماً إلام استندت لوبن في ذمّها ذاك، وما إذا كان نقدها لتلك السياسات مماثلاً لنقدها للعولمة! الأرجح أنّه كذلك. يبقى رجاؤنا ألا تنطلي ممالأتها للمزاج العام على الجموع التي انتخبتها وأخرجتها من القعر. قبل أن يرحل إلى الأردن الأسبوع الماضي، «قبع» في أحد السجون السورية رجل يثق بالطبقات الشعبية «ثقة عمياء». سنحاول أن نحذو حذوه ونردّد بصوت عال: من أخرج اليمين المتطرف من قعره قادر على إعادته إليه إذا ما اقتضت الضرورة. والضرورة كما يعرّفها الرفيق سلامة كيلة مراراً هي مصالح الطبقات الشعبية ومكتسباتها الاجتماعية وتموضعها الطبقي.
* كاتب سوري