كيف يمكن رجلاً يعتزّ بأنه فردٌ في حزب ولاية الفقيه، أن يدعو إلى بناء دولة قادرة وعادلة رئيسها ماروني، ورئيس وزرائها سنيّ؟ إن دعوة كهذه، هي بلا شك، لا تستهدف إقامة دولة إسلاميّة في بلد علمانيّ طوائفيٍّ بامتياز. والمزج هنا، بين العلمانيّة والطائفيّة في النظام، هو على طريقة هذا البلد في بدعة الديموقراطيّة التوافقيّة لإدارة الحكم. لكن السؤال الذي يلحّ، هو: هل السيد حسن نصر الله صاحب المهارات التكتيكيّة في العمل السياسيّ، حينما أطلق دعوة قيام الدولة اللبنانية، تقبل مبدئيته الصادقة، العمل التكتيكيّ خارج إطار المبدئيّة وقيمها؟
فمن المعلوم مثلاً، أن خوضه للحرب النفسيّة ضد العدو الصهيونيّ، استخدم فيه كلّ العِدّة المطلوبة، لكنه أصرّ على أن تكون ضمن أفق القِيم وما تسمح به المرونة الشرعيّة التي يتقيّد بها مبدأ ولاية الفقيه والسيد حسن نصر الله. أو أن الدعوة تحمل رصيداً من الخلفيّة الدينيّة والثقافيّة التي يعبِّر عنها السيد نصر الله؟
مشقّةٌ هي الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، ذلك أنها ستواجه أمرين صعبين:
الأوّل: الثقة الكبرى بصدقيّة السيد، ما يعني أن الأمر ينطوي على جدّية بالغة، تتوازن مع الحماسة التي قدّمها السيد للطرح.
الثاني: الصورة النمطيّة، الماثلة في أذهان أغلب المتعاملين مع نظرية ولاية الفقيه، ودورها في الحياة السياسيّة؛ إذ نمطية التصوّر، هنا، تستدعي صلابة جادّة تقع بين خيارين: إما ثورة انقلابيّة على كلّ شيء... أو لا شيء.
ورغم ذلك، بل وبسبب ذلك، فإني سأتجاوز الصعوبتين وأتحدّث بما أعتقد وأعرف، عن الفكر السياسي الناتج من مبدإ ولاية الفقيه والتجربة التي خاضها هذا المبدأ في الحياة اليوميّة وفي التحولات الكبرى التي ابتدأت مع قيام الثورة الإسلاميّة في إيران، والتي لم تتوقف تداعياتها إلى الآن في أوساط العالمين العربيّ والإسلاميّ.
إنه يقوم على المواءمة بين الأنسنة والمصدر الإلهيّ؛ إذ ليس الفقه مجرّد أحكام إلهيّة مفصولة عن مسار حياة الناس في خصوصياتهم المكانيّة والزمانيّة والثقافيّة، بل هي أحكامٌ موضوعها الذي ترصده هو واقع الناس واحتياجاتهم. لذا، إن كان هناك مدرسة في الفقه السياسيّ قامت على التعامل مع الشأن الفقهيّ – التدبيريّ كقوانين منجزة جوهرانيّة صلبة، فإن مضمون ولاية الفقيه يقوم على حضور الإنسان الفاعل، ومن موقع الإحساس ببيئته ومعرفته العلميّة، فضلاً عن حصانة نفسيّة هي وليدة الإيمان بقضايا الدين والأمّة.
إن الفقه مسار اجتهاديّ يسعى إلى التكامل في بناءاته وأحكامه وانتظاماته، وهو في الحقل السياسيّ المتولّد من أصول نظريّة ولاية الفقيه، وإن كان يضع تكامل البنيان الفقهيّ _ السياسي في إقامة دولة إسلاميّة، إلّا أن هذا الإيمان التكامليّ بالدولة يستهدف رعاية الناس في مفصلين حسّاسين جدّاً على مستوى القيم الإسلاميّة.. أوّلهما، الهداية، باعتبارها المقصد الإلهيّ الأعلى في الناس، والثاني الإدارة العادلة. وهذه الثنائيّة التي عنها تتفرّع مقاصد السياسة في أطروحة ولاية الفقيه، هي ثنائيّة تركيبيّة لحقيقة واحدة هي الرؤية التوحيديّة الإيمانيّة؛ إذ من دون أيٍّ منهما يصبح مضمون الإيمان التوحيديّ أجوف.
لكن تكامل الحركة بقيام الدولة الإسلاميّة، لا يعني أن المستويات الأخرى من حركة الدولة مرفوضة، بل إن الإصرار على قيام الدولة الناظمة لحياة الناس هدف بعينه، إذ لا بدّ للناس من أمير، وهنا الأمير ينطبق في هذا العصر بمعقد قيام الدولة.
فبمقدار ما تتعزّز القيم العادلة، وبمقدار ما تُفسح الدولة للناس بممارسة سلوك الهداية الإيمانيّة في حياتهم الفرديّة أو الجماعيّة، ينطلق الموقف الدينيّ، حسب ولاية الفقيه، لتأكيد تعزيز الحضور الوطنيّ الفاعل لهذه الدولة العادلة والقادرة.
ولا همّ إن كانت الدولة سنيّة، أو شيعية، أو علمانيّة، ولم نقل مسيحية؛ لأن لا دولة مسيحيّة بالمعنى السياسيّ في حسابات تقادير الموقف العملانيّ لمبدإ ولاية الفقيه. ما دام مثل هذه الدولة يمكن أن يوفّر القيم الإنسانيّة التي باركتها يد السماء. فوجه العدالة في الأرض موضع عناية يد القدرة السماويّة.
هل هذا يعني أن الدولة الإسلاميّة ليست اليوم في حسابات التطوّر الاجتهاديّ لولاية الفقيه؟
أبداً، بل ما يعنيه أن الاجتهاد السياسيّ لهذا المبدأ تجاوز حدود الدولة بقيدها الإسلاميّ، ليؤنسن في حضوره كلّ دولة ومجتمع يُبنى على العدالة والحرية في الممارسة العزيزة والتعبير الصادق.
* باحث في شؤون الحركات الإسلاميّة