حدث شيء ما في الصحافة السعوديّة التمويل بعد 2003 (كما حدث شيء ما في الصحافة القطريّة التمويل بعد 2011). الدعاية السياسيّة باتت أكثر فجاجة وبذاءة وشراسة. لم تعد الطاعة والولاء شرطاً لإبقاء الوظيفة الإعلاميّة في مضرب الأمير: الكل يداوم بثياب الميدان. تغيّرت الشروط. باتت شروط الطاعة أكثر تزمّتاً وأكثر استماتة ذي قبل. صدرت الأوامر الملكيّة والأميريّة بضرورة خوض المعارك الكلاميّة ضد كل أصحاب مشروع مقاومة إسرائيل، وصدرت أوامر بضرورة الاستشراس في الدفاع عن المصالح الدعائيّة لآل سعود (أو آل ثاني). ما عادت الوداعة مقبولة. تجد (وتجدين) أن كتّاب صحف أمراء آل سعود نزعوا أقنعتهم وشهروا سيوفهم وانخرطوا في معارك وهميّة وحقيقيّة. الكل مطالب بالردّ على الأعداء (أعداء الأمس واليوم). هذا (حازم صاغيّة على «العربيّة» مثلاً) يفتي أن الانتفاضة الشعبيّة المصريّة في 2011 قامت ضد النظام الناصري (يعني، لا علاقة لحسني مبارك «بنوب» بغضبة الشعب المصري، لأنه كان حليفاً لآل سعود، لكن إطلاق العيارات ضد جمال عبد الناصر، حتى لو بعد مضي أربعة عقود على وفاته، دائماً تلقى الرضى في مضارب آل سعود)، وآخر (إبراهيم العريس الذي كان متخصّصاً في كتابات مفكّري عصر التنوير الأوروبي ـــــ الذين يحظون بالرحب والسعة عند هيئة كبار العلماء في السعوديّة، وخصوصاً فولتير، إذ إن لكتاباته منحى وهّابيّاً) يفتي بأن مبادرة الملك السعودي في الحوار مع شمعون بيريز (تحت شعار «حوار الأديان» ـــــ وهو ليس إلا حفلة في التكاذب الأقصى) هي أهم مبادرة في تاريخ «البشريّة». وهناك آخر وهو سفير دول الخليج في جريدة «السفير» (ساطع نور الدين) الذي هاله اتهام دول الخليج بتسليح المعارضة السوريّة، إذ إن التبنّي العلني من قبل حكومتيْ قطر والسعوديّة للتسليح فاته، يكاد ينتحب لانتقاد دول الخليج. ونور الدين يرى أن الحقائق عن وضع طرابلس تكمن في تصريح واحد للمفكّر المُحايد في الشأن اللبناني، سعود الفيصل. وكل سيوف أبواق آل سعود مسلولة نحو أي مقاومة ضد إسرائيل دائماً وأبداً. والطريف أن مدّعي الليبراليّة في المضارب المذكورة لا يجدون غضاضة في مناصرة المشروع السلفي الفتنوي في المنطقة العربيّة، طالما هو يحظى برعاية آل سعود. عبده وازن هو واحد من هؤلاء. قبل بدء الحملة الإعلاميّة المُستعرة لآل سعود كان الرجل مثله مثل البعض في مضارب إعلام أمراء العائلة المُتسلّطة، يظهر وديعاً ومهذّباً ومُحايداً وبعيداً عن المشاحنات السياسيّة والمعارك الطائفيّة. تغيّر هو مثل آخرين أمثاله. الأوامر من فوق لا تحتمل الالتباس. تكاد لا تتبيّن كتاباتهم الماضية من الحاليّة. الكل منخرط في مشروع سياسي فتنوي لا علاقة له بتاتاً بالديموقراطيّة والثقافة (إلا إذا كان مجلس التعاون الخليجي وحكّامه المتعدّدو الزوجات والجواري يمثّل ذروة الثقافة وقمّة التنوير). يختار الكاتب والكاتبة الفرصة لاستهداف اليسار (وكأن اليسار يمثّل حالة جماهيريّة قويّة في العالم العربي) أو الناصريّة (وكأنها لا تزال تتحكّم في مقدّرات نظام عربي واحد)، لكن هؤلاء يعرفون ماذا يفعلون. يسدّدون حسابات ويخوضون معارك مؤجّلة ومُستجدّة بالنيابة عن آل سعود. وخدماتهم ومعاركهم تغوص في الزمن: فالأمراء لم يغفروا لعبد الناصر ما ألحقه بهم من مهانة ومذلّة وإحراج. يكفي أن دعايته أدّت إلى انشقاق أمراء في العائلة المالكة نفسها والالتحاق به. عبد وازن، مثلا، انتظر وفاة ألكسندر سولجنستين ليرثيه بكلام فضح جهله بكتاباته، وقرّع فيه اليسار العربي (كأنه كان مهتماً به) ووبّخ من لم يقرأ مذكّرات سولجنستين (الذي لم يكتب مذكّرات). قل (وقولي) إنها الثقافة المُشبّعة بالنفظ والغاز: هي التي تموّل الجوائز الصحافيّة والثقافيّة والفنيّة وفق معايير مُتعدّدي الزوجات من الأميّين.
لم يكتف وازن بذلك. استثيرت حميّته. كيف يجرؤ أحد على نقده وفي جريدة تؤيّد مقاومة إسرائيل («الأخبار») وتنشر مقالات ضد شيوخ النفط والغاز؟ ووازن يكتب في «الحياة» (بوق الأمير خالد بن سلطان، الذي حقّق هو وأخوه بندر أرقاماً قياسيّة في تلقّي الرشى) عن «الثورات العربيّة» ويعظ في شأنها، لا بل وينتقد تقصير الشعراء في شأنها أيضاً، لكن وازن هذا ذهب إلى البحرين بعد اندلاع انتفاضتها وقمعها وظهر في المنامة بجانب من انتدبه حكّامها، وأطنب في مديح اختيارها كعاصمة للثقافة. هل يريد وازن منا قصيدة عصماء في مديح آل خليفة كي نؤدّي واجبنا نحو «الربيع العربي» على ما يراه هو؟ كاد وازن أن يقول إن الدم في شوارع المنامة عزّز سمعة العاصمة الثقافيّة، وأسهم في إضفاء وهجها الحضاري، لكن وازن حصل على «جائزة الشيخ زايد» (والرجل كان أميّاً طبعاً، وعلاقته بالثقافة كانت مثل علاقة خالد بن سلطان بالكتابة أو القراءة أو الكفاءة العسكريّة)، ورأى أن هذا الشرف يحصّنه ضد أي نقد عن كتابه «الفتى الذي أبصر لون الهواء». كيف يجرؤ كاتب على نقد كتاب حاز تقديراً من شيوخ النفط والغاز؟ أليست معايير جوائز أمراء النفط والغاز معايير علميّة وأدبيّة محضة؟ هل هناك من يشكّك في مهنيّة وحرفيّة حكومات الخليج وجوائزها، حتى لو عوقب سعدي يوسف بعدما تجرّأ (بعد تلقّيه جائزة العويس) على نقد زايد بن سلطان آل نهيان؟ ألم تحكم فرقة «كراكلّا» على الشيخ زايد بالحكمة والعدل مقابل مبلغ كبير من المال؟
اعترض وازن على مراجعة طاهر الزهراني لكتابه، فثار واعترض وأسهب في مديح ذاته المُتفيّئة الظل الأميري. ماذا كان فحوى اعتراض وازن؟ لجأ إلى عدّة أساليب في نفس الردّ الغاضب: قرّر أن الرجل (طاهر) غير موجود، وأن الاسم «قد» يكون مختلقاً ومزيّفاً، لأن الكاتب مجهول (من قبل صديقه السعودي). ثم قرّر أن الرجل لم يقرأ كتابه (هل هناك أسخف من هذا الاتهام من قبل كل كاتب يعترض على مراجعة لكتاب له لا تروق مزاجه وغروره؟). وبعدها قرّر أن الرجل من مجموعة حاسديه (صلّوا على اسم كارل ماركس هنا كي يُبعد الحسّاد والعوازل عن عبده وازن لوفرة الموهبة المُتدفّقة)، لأن وازن ـــــ يا لشقاوته ـــــ يعاني كثرة الحسّاد. ثم، اعترض وازن على انتقاد أسلوبه، فقال إن هذا الاتهام «باطل وسخيف، فالآراء أجمعت على سلاسة أسلوبها ورشاقته». حسم الأمر وازن، بالإجماع (إجماع من؟ هيئة كبار العلماء في السعوديّة؟ أم هيئة كبار الأدباء في مضرب أولاد زايد؟). لم يجد وازن غضاضة في إغداق المديح الذاتي، والحكم على روايته بأكثر من الإيجابيّة.
لكن ثورة وازن مفهومة لأنه (وغيره من كتّاب الصحفحات الثقافيّة في العالم العربي) واحد من شلّة واحدة تسيطر على الأقسام الثقافيّة في صحافة تتلقّى التمويل من نفس المصدر (أو لنقل من مصدر في داخل العائلة الواحدة). وبناءً عليه، فإن أفراد الشلّة الثقافيّة يتبادلون المديح في ما بينهم، ولا ينال النقد السلبي إلا من كان في خارج الحظيرة الثقافيّة، ومن تورّع عن مخالفة مشيئة الأمراء السياسيّة. هذا الجانب من الحياة الثقافيّة العربيّة يعاني فساداً لا كتابة أو دراسة عنه. وهؤلاء هم الذين يلتقون في «الجنادريّة» وفي المناسبات «الثقافيّة»، التي يرعاها هذا الأمير أو ذاك الشيخ أو تلك المنظمة العالميّة التي تتعاون هي بدورها مع هذا الأمير أو ذاك الشيخ. لكن وازن استشرس أيضاً في موضوع أدونيس وزياد الرحباني. هال وازن مشهد زياد الرحباني في احتفال إعادة بناء «الضاحية الجنوبيّة» بعد تدميرها على يد العدوّ الإسرائيلي في حملة وحشيّة تلقّت دعماً أكيداً من قبل آل سعود وآل مكتوم وآل خليفة. سخر المُستشرس وازن من «المربّع الأمني» في الضاحية الذي تعرّض للتدمير. يجاهر قادة العدوّ بنيّتهم اغتيال حسن نصر الله، لكن وازن يسخر من «المربّع الأمني» الذي هو أقل بكثير من مربّعات أمراء آل سعود الأمنيّة. لعلّ وازن سيجرؤ على التعرّض لها وسيسخر من المربّعات الملكيّة والأميريّة، ومن الانغلاق في ممالك القهر. لماذا اعترض وازن على حضور الرحباني لمهرجان حزب الله؟ يقول ـــــ ببراءة شديدة ـــــ لأن حزب الله «طائفي بل مذهبي». هذا مثير للاهتمام: وخصوصاً عندما يصدر الحكم عن عبدو وازن نفسه، ومن جريدة تدين بالعقيدة الوهابيّة غير السمحاء. لكن لم يعترض وازن على حضوره مهرجان آل خليفة في المنامة، مع أن العائلة تشنّ حملات طائفيّة ومذهبيّة صارخة وعنيفة يوميّاً في إعلامها وفي خطابها السياسي. ثم، يا عبده وازن: أنت لا تكتب في جريدة يحرّرها شبلي الشميّل أو فرح أنطون أو أبو بكر الرازي. أنت تكتب في جريدة مملوكة من أمير في عائلة، امتهنت واحترفت التحريض المذهبي والطائفي على مرّ العقود. بكلام آخر، وازن غير مؤهّل للحكم في طائفيّة أيّ كان، وهو الذي يؤيّد تيّار الحريري، الذي لا يقلّ طائفيّة عن حزب الله، حتى لا نزيد. فاعتراض وازن ليس صادقاً لا في إعلانه ولا في مقاصده، ولا في مراميه. اعتراضه في مكان آخر: في معارضة حزب الله للمشروع المُتصالح مع العدوّ الإسرائيلي، وفي انتهاجه خيار مقاومة العدوّ الإسرائيلي بالسلاح (يريد الفريق السعودي احتكار استعمال السلاح في الصراع المذهبي فقط).
ويعيد وازن ترداد خطاب مكتب الحريري الإعلامي، فيذكّر بيوم ـــــ يوم، يا محسنين ومحسنات ـــــ 7 أيّار. أي إن وازن يرى في 7 أيّار ما هو أفظع وأنكب وأهول من عدوان إسرائيل الذي استمرّ 33 يوماً ضد كلّ لبنان. لم يلاحظ وازن سبب ذاك اللقاء الذي حضره زياد الرحباني في ذلك اليوم. لكن وازن تخطّى كلام مكتب الحريري الإعلامي وزاد كلاماً من عنده، فتحدّث عن «القمصان السود» ـــــ وكأنها موقعة أو يوم كريه ـــــ الذين روّعوا «البلد وأهله». بلغت هنا حساسيّة وازن حدّاً مفرطاً، لكن حساسيّته ليست إنسانيّة كما تخالها (أو تخالينها) بل سياسيّة حرصاً على مشاعر الأمير مقرن ووكلائه في المشروع السياسي في لبنان، لكن وازن غير عالم بهشاشة موقعه وموقفه الأخلاقي، فيبرز نفسه واعظاً أخلاقيّاً ضد فنان عانى بسبب مبدئيّته والتزامه بقضايا الفقراء وفلسطين. أن يعظ وازن زياد الرحباني، مثل أن يعظ الملك السعودي نوال سعداوي في شؤون تحرير المرأة، أو أن يعظ وليد جنبلاط شربل نحّاس في قضايا النزاهة والعدل الاجتماعي، أو أن يعظ سعد الحريري أحداً في ... أيّ شأن من الشؤون، لكن وازن، بعدما قرّع الرحباني، قرّر أنه يمكن غفر ذنوبه، لكن وازن لم يشرح للقرّاء سبب حصوله على مرتبة إصدار بيانات الغفران. من أعطاه إياها؟ آه، قد تكون الحظوة جزءاً من جائزة الشيخ زايد.
وكتب وازن أيضاً في مسألة تكفير وتخوين وتهديد «أدونيس» (عدّها ـ ـ ـ أي التكفير والتخوين والتهديد ـ ـ ـ عبّاس بيضون «هفوة لسانيّة» ـــــ ما همّ). أفتى هنا بأن «الثوّار السوريّين الحقيقيّين» لا يمكنهم ارتكاب فعلة كهذه. بمعنى آخر/ إن ارتداء قمصان سود في يوم ما، هو أفظع بكثير من تهديد وتكفير وتخوين أبرز شاعر عربي حيّ (اختلفت معه في آرائه السياسيّة أم لم تختلف، حتى إن اختلفت في تقويم شعره)، لكن، من هم ثوّار سوريا الحقيقيّون؟ لا شكّ أنه يعني بهم هؤلاء الذين يحظون برعاية ودعم الحكم السعودي والقطري: أي الجيش السوري الحرّ وباقي العصابات التي تعتنق العقيدة الطائفيّة «بل المذهبيّة» ـــــ على قول وازن في حكمه على حزب الله، لكن الخطاب الطائفي الكريه غير بعيد عن السعوديّة، ولا عن كل من يتلقّى دعماً سياسيّا وعسكريّا سعوديّاً، في سوريا وفي لبنان وفي غيرهما من الدول.
لكن وازن قرّر ـــــ وهذا يُسجّل له ـــــ أن أدونيس حرّ في إبداء رأيه. شكراً لوازن هنا مع أننا لم نعهده يوماً نصيراً للحريّة. هل كتب كلمة ضد من يُساق إلى سجون نايف في السعوديّة بتهم الشعوذة أو بتهم إهانة الدين الحنيف؟ هل كتب وازن كلمة في مناصرة حمزة الشاغري؟ بالطبع، لم يكتب، وهو بهذا لا يمكن أن يخوّل نفسه إعطاء شهادات في الحريّة، أو في التعبير، لكنه يمرّر عرضاً عتباً خجولاً على أدونيس (صديقه) لتشكيكه في «الثورة السوريّة». والتشكيك في «الثورة السوريّة» هو بمثابة تشكيك في مسلّمات السياسة الخارجيّة السعوديّة، لكن وازن عاش في لبنان في سنوات سيطرة النظام السوري القمعي على مقدّرات البلد. وفي زمن تعرّض فيه طلّاب وكتّاب وساسة للقمع والمنع (وأنا واحدٌ من الذين عانوا سنوات منع في التسعينيات بسبب فصل في كتاب نُشر في الغرب، وعدّته سلطات الأمن العام في لبنان «مهيناً» لشخص حافظ الأسد، وقد هال الأمر يومها مجلّة «الشراع» التي باتت رأس حربة في معركة «الحرية» في سوريا)، كان وازن ملتزماً الصمت. لم يجاهر وازن بكلمة، كي يعطي نفسه حق تقرير من يجب تخوينه في الموضوع السوري، ومن يجب إصدار العتب ضده. لماذا هذه اللهجة الأخلاقيّة المتعالية التي تفترض من صاحبها تنزيهاً لا قرابة لوازن به.
إن الصراع السياسي محتدم، وأدوات الصراع مشحوذه والحراب مسنونة. إعلام آل سعود يخوض معركة شرسة ضد أعدائه ـــــ في هذا الزمن وفي أزمنة غابرة. وأبواق إعلام آل سعود مُطالبون (ومُطالبات) بالتنطّح للذود عن حياض العائلة. الكل متأهّب ومستشرس. المثقّف العربي يعيش في حالة عدم استقرار مادّي وعوز لا ينهيه، للأسف، إلا التطوّع في جيش الأمراء، وخصوصاً أن التقدّم في السنّ يزيد من نفقات العيش والعلاج في دول لا تؤمن بالطبابة المجانيّة. نفهم أن يكون موقف المُثقّف ضعيفاً في دول لا ترعى فيها الحكومات الثقافة. الحكومات النفطيّة ترعى فقط تلك النواحي والعناصر والنزعات في الثقافة، التي تتوافق مع مشيئتها السياسيّة ومع خططها الدعائيّة. نفهم ضعف المثقّف، لكن أن يتطوّع المثقّف للانحناء بدرجات شديدة الاقتراب من الأرض فهذا على أقل تقدير يجب أن يؤدّي إلى أن يفقد صاحبها (أي صاحب الانحناءة) القدرة على الوعظ وعلى الإرشاد الأخلاقي.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)