في أجواء مأساة أو «كمين» أو خطأ ميشال سماحة، تحضر مجموعة كبيرة من العناوين: العنوان السوري، العنوان اللبناني، عنوان العلاقات بين البلدين، عنوان العلاقات العربية السورية واللبنانية، والعربية ـ العربية، والعربية الخارجية... كل ذلك حاضر بشكل قوي، متوتر، ومتفاقم. فالصراع في سوريا الذي هو أيضاً صراع في المنطقة، ما لبث أن اتخذ سريعاً بعداً عالمياً يتصل بتوازنات ما بعد المغامرة ـ الإخفاق الأميركي في العراق والإسرائيلي في لبنان (تصادف هذه الأيام الذكرى السادسة لهذا الإخفاق الذي وصفه يومها أمير قطر نفسه بأنه كشف «إسرائيل كقوة قابلة للهزيمة»!). كذلك يتصل هذا الصراع بتحولات التوازنات الاقتصادية على المستوى الدولي، حيث تتراجع قوى المتروبول القديمة والجديدة لمصلحة قوى صاعدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وهو يتصل، أيضاً وأيضاً، بتفاعلات ما تقدم على مستوى الشرق الأوسط، حيث ضعفت وانكشفت ديكتاتوريات وأنظمة استبداد وتبعية ونهب، فأعزت بتحركات المتضررين شعوباً وقوى معارضة. وإن كانت القوى الأكثر جاهزية للاستدراك والاحتواء، على الصعيدين الدولي والإقليمي هي التي تبدو أكثر قدرة، في هذه المرحلة، على الاستثمار والقطاف.
وحاضرة أيضاً في هذا الصراع الذي يضغط على لبنان نظاماً وكياناً واجتماعاً، أكثر من أي بلد آخر، «نكهة» الوضع اللبناني الناجمة عن خلطة نظامه الطائفي التقليدية. فالنظام اللبناني القائم على توزيع التقاسم الطائفي منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن، ارتبط إنشاؤه وتعزز بقاؤه بدور خارجي، لم تنجِ من ممارسته ومن اعتماده ومن دفع أثمانه، أي قوة سياسية أو اجتماعية لبنانية. ومع مرور الزمن كان يترسخ الدور الخارجي بنحو مطّرد: فما كان ضرورياً في مرحلة، بات مصيرياً في مراحل لاحقة، وما كان مؤقتاً أصبح دائماً، وما كان سبباً لطلب الحماية أصبح مصدراً للنفوذ وللقوة...
نعم، لقد أصبح الاستقواء بالخارج مصدر قوة أو سبباً للحفاظ عليها، وأصبح توطده مصدر اعتزاز والافتقار إليه عنوان ضعف وانكشاف ومخاطر شتى. في مجرى ذلك اشتقت « الشطارة» اللبنانية معادلات متنوعة ومتكاملة للتعبير عن هذه الحقيقة: «لبنان إذا استقل اهتز وإذا التحق اعتز» (إدوار حنين الأمين العام للجبهة اللبنانية الراحل). السين ـ سين التي يفاخر رئيس المجلس النيابي، والمستمر منذ 20 سنة، بأنّها ماركة مسجلة باسمه...
إلى هذا الحقل دخل ميشال سماحة الطالب في أوائل السبعينيات وكان دخوله من طريق باب بيت الكتائب في محلة «الصيفي». أغرته أحلام رفيقه كريم بقرادوني بـ«دمقرطة» حزب الكتائب. أغريناه نحن، مَن كنا زملاءَه في الحركة الطلابية، بإمكانية التغيير في البلد من خلال حركة شبابية توحِّد اللبنانيين وتغيِّر لبنان، انطلاقاً من مؤسسات التعليم الرسمي بشكل مبادر على الأقل. كان يدرك قبل ذلك، كما أمثاله من أبناء الطبقة الوسطى، أنّ حدود طموحه في حزبه لن تتعدى موقع المساعد أو المستشار، وأنّ حدود دوره العام لن تتخطى ما يتركه له رفاقه من أبناء الطائفة المارونية «المالكة» في حزبه وفي البلاد عموماً، من مواقع ومراكز ثانوية...
لكن الحرب الأهلية كانت لنا جميعاً، وخصوصاً جيل السبعينيات، بالمرصاد. فمع اندلاع تلك الحرب وتماديها كانت الأحلام تتكسر، بمقدار ما كان الانقسام اللبناني يتبدى مخيفاً وخطيراً، مفسحاً بالمقابل أمام الأدوار الخارجية، في لعبة بلغت إحدى محطاتها «الطائف» في 1989. وهناك حطت على اتفاقه وعلى الوصاية الرسمية السورية على لبنان طوال ستة عشر عاماً.
في نطاق تفاعل بين القيادة الكتائبية والسلطات السورية في 1976، بدأ ميشال سماحة مشواره الطويل، إلى أن انتهى أحد أبرز المدافعين عن سياسة دمشق، في شبكة واسعة أيضاً، من العلاقات والأدوار على النطاق الأوروبي. بكلام آخر، لقد قاد طموح ميشال سماحة وقادته «الأقدار» المتحركة في نطاق المعادلات التي رسا عليها الوضع اللبناني، إلى الانخراط في السياسة اللبنانية من بابها «الطبيعي» والتقليدي: التفتيش عن الدور في الداخل من خلال علاقة مع الخارج. كفاءات الرجل المتعددة، مهدت له الطريق. شغفه واندفاعه وضعاه في مقدمة الصراع والتحدي. افتقاره إلى الموقع الطائفي أو المذهبي أو الحزبي دفعه إلى الانخراط الميداني... وهكذا وجد نفسه رقيباً ومراقباً، مهاجماً ومدافعاً، متَّهَماً ومتَّهِماً، جلاداً وضحية.
ولم تفعل الأحداث المتلاحقة، بعد توقيف سماحة وقبل ذلك بكثير، سوى تأكيد تلك المعادلة في المسار الذي يحكم الحياة السياسية في لبنان: حجاج لبنانيون يعودون من الزيارة في العراق أو إيران يُختطَفون في سوريا للضغط على الموقف الإيراني. شاب لبناني يُختطَف في دمشق للضغط على موقف «حزب الله» من الصراع في سوريا. اتهامات لتركيا وقطر والمملكة السعودية بالمسوؤلية عن الاختطاف والإفراج... وإلّا «مسوؤل أمني» عربي كبير يتدخل في صيغة قانون الانتخاب في لبنان. السفيرة الأميركية تحذر العماد ميشال عون من محاولة اغتياله على أيدي مسلحين من حزب الله...
هذه بعض الملامح من شريط لا ينتهي يتكرر، فاضحاً تلك المعادلة التي استقرت عليها الحياة السياسية اللبنانية لجهة الانقسام الداخلي المزمن والتدخل الخارجي المطرد، في علاقة تبعية ألحقت أضراراً خطيرة ومرشحة لأن تصبح قاتلة: بوحدة شعب لبنان وبسيادته وبحصانته واستقراره...
مغامرة ميشال سماحة ومأساته في النتيجة، هي صورة مصغرة عن واقع مريض يسم الوضع اللبناني فيحول دون قيام وطن تتوافر له أبسط عوامل الحصانة والاستقرار، فيبقى وطناً قيد الدرس وقيد الارتهان وقيد الضياع.
إنها ثمرة خلل في النظام السياسي اللبناني القائم على تقديم الخاص على حساب العام، والفئوي على حساب الوطني، والولاء للطائفة والمذهب على حساب الولاء للوطن، والارتهان للخارج على حساب الانتماء إلى الداخل...
بهذا المعنى ميشال سماحة ضحية بالدرجة الأولى. إنه ضحية الامتيازات والتمييز والاحتكار والمحاصصة والتهميش والأنانية والتنكر للمقاييس والمعايير السليمة والعادلة والوطنية. إنه ضحية نظام يكاد يذهب باللبنانيين وببلدهم جميعاً على مذبح المصالح الفئوية والانقسامات المدمرة والغرائز الجاهلية.
* كاتب وسياسي لبناني