انطلقت الأحد الماضي الاجتماعات التحضيرية للقمّة الـ16 لمجموعة دول حركة عدم الانحياز في العاصمة الإيرانية طهران، بمشاركة ممثلين عن نحو ثلثي حكومات العالم. ومن المعروف أنّ تأثير حركة عدم الانحياز قد تراجع منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع ما رافق ذلك العقد من أزمة ديون وهيمنة الولايات المتحدة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ودفعت الأزمات دول الجنوب إلى السعي خلف اصطفافات جديدة مع الشمال، يقودها في ذلك حاجاتها الاقتصادية أو طموحاتها السياسية، ما اضطرها إلى وضع برنامج الحركة جانباً.
غير أنّ الحركة اكتسبت زخماً جديداً في السنوات الماضية، في ظلّ «حروب رعاة البقر» التي قادتها الولايات المتحدة والحلف الأطلسي (منذ عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن) والأزمة المالية العالمية (منذ 2007)، بالإضافة إلى النهضة الاقتصادية في الصين والهند. وأسهمت توكيدات دول مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) في إعلان نيودلهي في 2012 والتضامن الذي أظهرته دول الجنوب في مؤتمر الأمم المتحدة الـ13 للتجارة والتنمية الذي عقد في الدوحة في نيسان/ أبريل الماضي، في التشديد على هذه الثقة الجديدة بالنفس.
لقد عادت الحيوية إلى الجنوب خلال السنوات الخمس الماضية، مع صعود تيارات تتمتع بالشعبية وتعارض الليبرالية الجديدة والإمبريالية، تظهّرت للمرّة الأولى في أميركا اللاتينية، حيث تمكنت تلك التيارات الاجتماعية ــ السياسية من ترجمة شعبيتها في صناديق الاقتراع. وباتت معظم حكومات الدول الواقعة جنوب نهر «ريو غراندي» تعارض الهيمنة الأميركية. وفي 2010، أنشأت هذه الدول اللاتينية مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي كوسيلة لتقويض منظمة البلدان الأميركية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
وقدّم «الربيع العربي» في 2011 دليلاً جديداً على هذه الثقة بالنفس التي استعادها الجنوب. فالأنظمة التي ارتهنت لفترات طويلة إلى سياسات اقتصادية غربية وفتحت أقبية سجونها لتصبح «نقاطاً سوداء» في سجّل الحرب على الإرهاب تساقطت كأوراق الخريف. وإن خسرت الولايات المتحدة أميركا اللاتينية في السابق، أصبح الخوف الآن من أن تخسر العالم العربي أيضاً.

المتاهة السورية

منحت حرب الناتو على ليبيا والأزمة في سوريا فرصةً للولايات المتحدة كي تعود لاعباً أساسياً إلى العالم العربي. وهذا ما يجعل الأزمة السورية قضيةً مركزيةً على جدول أعمال قمّة حركة عدم الانحياز، بالطبع إلى جانب الهدف الإنساني المتمثل بوضع حدّ للعنف ضد الشعب السوري.
وكانت الحسابات الجيوسياسية قد دفعت كافة أطراف الصراع إلى التطرّف بمواقفها، ما جعل مهمة المبعوث الأممي والعربي إلى سوريا كوفي أنان مستحيلةً. لذا بات من الضروري تهيئة إطار سياسي، لخلف أنان، الأخضر الإبراهيمي، ليتمكن من تحقيق تقدم.
واقترحت مصر جزءاً صغيراً من عملية تشكيل الإطار السياسي للإبراهيمي، يقوم على إنشاء مجموعة اتصال تضمّ كافة اللاعبين الإقليميين: مصر، إيران، السعودية، تركيا. على أن تشكل قمة عدم الانحياز البيئة الحاضنة لتعزيز الثقة بين هذه الدول. وإذا منحت حركة عدم الانحياز دعمها لمجموعة الاتصال، فقد تستطيع هذه الأخيرة وضع خريطة طريق إقليمية تمكّن الإبراهيمي والأمم المتحدة من العمل للتوصّل إلى وسيلة تضع حدّاً للعنف المتفشي في سوريا.
وفي ما يتعلق بالقمة، سيمثّل الأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزبز، نجل العاهل السعودي الملك عبد الله، بلاده في الاجتماع، وهو أمير يتمتع بشعبية ويتولى مهمات نائب وزير الخارجية بالوكالة. وسيحضر الاجتماع أيضاً معظم القادة الإيرانيين.
لا بدّ أن مشاركة إيران والسعودية في العملية عينها قد تثير بعض القلق، إلا أنّه قد يمنح فسحة أمل أيضاً. إنّ إيران الملتزمة اصطفافها الإقليمي، تتمسك بشدّة بنظام الأسد في سوريا، فيما ألقت السعودية وقطر بثقلهما إلى جانب الثوّار، كما فعلت تركيا، ولو بضجة أقل. غير أنّ هذا النوع من «الوحدة»، لم يتوافر خلال اجتماع القمة العربية الذي عقد في بغداد، حيث امتنعت كلّ من السعودية وقطر عن إرسال موفدين من المستوى الرفيع بسبب الخلاف العميق في الرأي بينهما من جهة، وبين سوريا والعراق من جهة أخرى.
فقد أرسلت قطر في حينها وفداً بيروقراطياً ذات مستوى منخفض، فيما أوفدت السعودية سفيرها في الجامعة العربية أحمد قطان. ولم يشارك أيٌّ من الأمراء في الاجتماع. وكانت حكومة نوري المالكي العراقية قد رفضت منع الطائرات الإيرانية من عبور مجالها الجوي نحو سوريا، وامتنعت عن المشاركة في قرار عزل سوريا. لكن الأوضاع تغيرت منذ آذار/ مارس الماضي، وباتت الدول الإقليمية جاهزةً لرؤية ما إذا كان التعاون ممكناً بهدف إحلال الاستقرار في سوريا والمنطقة.
لكن مع الأسف، رفضت تركيا حضور اجتماع قمّة حركة عدم الانحياز؛ فهي ليست عضواً في الحركة، لكنّها دعيت بصفة مراقب (وتوجد سابقة لذلك، بما أنّ أوستراليا سترسل موفداً إلى طهران كمستمع غربي، وقد هددت بالانسحاب إن قيل أي شيء في الاجتماع قد تراه غير مناسب). إذاً سيغيب وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو عن الاجتماع، وكذلك كبار القادة في حزب العدالة والتنمية الحاكم والحكومة التركية.
يقول الكاتب في صحيفة «حرييت» التركية يوسف كانلي ساخراً إنّ داوود أوغلو، وهو أستاذ أكاديمي، قد طوّر استراتيجية «لا صديق في الجوار»، في إشارة إلى سياسة الحكومة التركية التي أعلنتها قبل سنوات وأطلقت عليها اسم استراتيجية «صفر مشاكل» مع الجوار. فتركيا رمت بنفسها في الحريق السوري، ولم تعد تعرف كيف تخرج منه. فأن تتأثر بالعنف الذي ينتهجه نظام الأسد هو أمر، لكن أن تجعل نفسها طرفاً في الصراع هو أمر مختلف تماماً.
وهنا بدأت تظهر التعارضات الجيوسياسية؛ فمع انطلاق الربيع العربي، حاول رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تقديم تركيا نموذجاً للشرق الأوسط الجديد، لكن أنقرة وصلت الآن إلى مرحلة اكتشفت فيها أنّ مشاكلها الداخلية (على الأخص المسألة الكردية) قد تتفجر إذا استمرت في مشروع «بلقنة» سوريا. ووصلت اليوم إلى حدّ التذلل للولايات المتحدة كي تدعم اقتراحها بإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، من دون تفويض من الأمم المتحدة.
قد تمنح مجموعة الاتصال التي دعا إليها الرئيس المصري محمد مرسي تركيا وسيلةً للخروج ممّا يبدو أنّها حسابات خاطئة قام بها داوود أوغلو في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. فسقوط الأسد، الذي بات حتمياً، قد لا يكون بشرى سارةً في حال عدم القضاء على فيروس الانقسام المذهبي.
قال رئيس هيئة الأركان في الجيش الإيراني حسن فيروز أبادي إنّ تركيا «هي التالية» بعد سوريا، لكن كانلي يقول إنّ «التالي سيكون إيران وتركيا ولبنان، وما بعدها كلّها».
لذا، يجب أن يحظى اقتراح مرسي بالدعم، بما أنّه مبني على أساس إقليمي، وهو مدرك أنّه في غياب موافقة اللاعبين الإقليميين، لا يمكن فرض أي ضغوط على أطراف النزاع في سوريا لوضع حدّ للقتال. فقد أدت كلّ من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا أدواراً أساسيةً في تأزيم الوضع، لكنّها لن تكون جزءاً من الحلّ، إذ يتعيّن على اللاعبين الإقليميين الإمساك بزمام الأمور.
ومن شأن الدعم الذي تحصل عليه مجموعة الاتصال من جانب حركة عدم الانحياز أن يعزز دورها وأن يشجع الإبراهيمي على القيام بخطوات جادة بهدف التوصل إلى حلّ للطريق المسدود بين الحكومة السورية ومعارضتها.
وفي غياب الضغط الإقليمي المدعوم من حركة عدم الانحياز، سيستمر نزف الدم في سوريا وسيهدد كافة شعوب غرب آسيا.
* أستاذ الدراسات الدولية في «ترينيتي كولدج» (المقال مترجم عن موقع «الأخبار إنكليزي»،
ترجمة هنادي مزبودي)