في 6 أيلول/ سبتمبر الماضي، نشرت منظمة «هيومان رايتس واتش» تقريراً ذكّر الناسين (والمتناسين) بأحد وجوه التعاون الأمني بين واشنطن ونظام القذافي إثر أحداثِ الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهو ملاحقةُ الجهاديين الليبيين واستنطاقُهم من طرف وكالة الاستخبارات الأميركية (أي تعذيبُهم) ثم تسليمُهم إلى البوليس السياسي الليبي. وصدر التقرير غداة تسليم موريتانيا عبد الله السنوسي، رئيسَ الاستخبارات العسكرية في عهد القذافي، إلى ليبيا ليحاكَم بتهمة قمع الانتفاضة الليبية في 2011 وربّما، أيضاً، بتهمة تنظيم مجزرة 29 حزيران/ يونيو 1996 في سجن أبو سليم التي قُتل فيها مئاتُ المساجين. وقد اعتمدت «هيومان رايتس واتش» في إعدادِه على شهادات ضحايا ترحيلات الـCIA القسرية وعلى وثائقَ اكتُشفت في أيلول/ سبتمبر 2011 في أحد المقارّ الأمنية في طرابلس، بعد سقوطها في أيدي المعارضة.
من كان رئيسَ أجهزة الجاسوسية الخارجية الليبية في تلك الفترة من التاريخ القذافي، فترةِ اللهاث وراء محبة أميركا واسترضائها؟ موسى كوسا المقيمُ حاليا في قطر بعد أن «انشقّ» في أواخر آذار/ مارس 2011 عن «أخيه» قائد الثورة، وطلب اللجوءَ السياسي في بريطانيا.
ويبدو أن دورَ موسى كوسا، خلال تولِّيه منصبه هذا من 1994 إلى 2009، تاريخِ تعيينه رئيساً للدبلوماسية الليبية، لم يقتصر على المشاركة في قمع المعارضة، داخليّاً، والتعاون مع الـCIA والـMI6 خارجيّاً لكسر شوكة الحركات الجهادية، بل تعدّاه إلى تعذيب المعتقلين بنفسه. هذا، على الأقل، ما تفيدُه شهادةُ أحدهم، عبد الفتاح الذوادي، الذي صرّح لموقع هيئة الإذاعة البريطانية (23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011) بأنّه شخصياً، عُذِّب على يديه في سجن أبو سليم في 1996.
ومن الصعب أن يُنسينا انشقاقُ موسى كوسا الشبهَ بين مساره ومسار عبد الله السنوسي. كلاهُما ساهم في عمليات دموية لتصفية المعارضة، وكلاهُما متهمٌ بتفجير طائرات مدنية: قائدُ استخبارات القذافي العسكرية حُكم عليه غيابياً بالسجن المؤبد في فرنسا في 1999 لتورّطه في إسقاط طائرة لشركة UTA الفرنسية (19 أيلول/ سبتمبر 1989، 170 قتيلاً منهم 54 فرنسياً) وقائدُ استخباراته الخارجية ورد اسمُه في التحقيق حول تفجير طائرةٍ لشركة بان آم الأميركية في سماء مدينة لوكربي الاسكوتلندية (21 كانون الاول/ ديسمبر 1988، 270 قتيلا). لا فرقَ بين الرجلين سوى، ربّما، أن عبد الله السنوسي لم «يتثاقف» يوماً، عكس موسى كوسا الذي أسهم في تقدم البحث العلمي العالمي بأطروحة عن «معمر القذافي» أعدّها في إحدى الجامعات الأميركية. لا فرقَ بينهما لكنْ، للعجب، في زمن الثورات العربية، يقبعُ أحدُهما في سجن الهضبة الخضراء بطرابلس ويعيشُ الآخر في الدوحة، على نفقة الحكومة القطرية.
وباستثناء الليبيين (خصوصاً منهم ضحايا نظام القذافي وذويهم كأسر قتلى أبو سليم مثلاً)، لا يطالب أحدٌ بتسليم موسى كوسا لمحاكمته، في حين تلاحقُ عبد الله السنوسي مذكرةُ توقيف أصدرتها المحكمةُ الجنائية الدولية في 27 حزيران/ يونيو 2011 (قبل تسليمه إلى ليبيا طلبت السلطات الفرنسية من السلطات الموريتانية ترحيلَه إلى فرنسا لتنفيذ الحكم الصادر ضده في قضية تفجير طائرة UTA).
لا تسعى ليبيا رسميا إلى محاكمة موسى، لا لأنَّ الرأيَ العام الليبي تأثر بانشقاقه الملحمي، لكنْ لأن حكومتَها تتعرض بلا شك لضغوط دول عظمى قلبت للقذافي ظهرَ المجنّ بعد أن تصالحت معه بغرض تفكيك برنامجه النووي واستهلاك أرشيف استخباراته، وتخافُ اليوم انكشافَ أسرار تصالحها معه وانقلابها عليه.
أميركا تخشى أن يفضحَ موسى كوسا، إذا حوكم أمام قضاء عادل، صفقتَها الأمنية مع القذافي لمكافحة الحركات الجهادية (وإحدى بنودها تسليمُ الجهاديين الليبيين المعتقلين لديها إلى بوليسه السياسي) وكذا صفقةَ «تفكيك البرنامج النووي الليبي» في 2003، وما يُرجَّح أنها أسفرت عنه من إطلاع الـCIA على خبايا السوق السوداء الذرية العالمية وإمدادِها بملفات دعم «الجماهيرية» لبعض حركات التحرر، خصوصا في بلدان الحلف الأطلسي (الجيش الجمهوري الأيرلندي، منظمة إيتا الباسكية، الخ). ولا ترغب بريطانيا في أن يفضحَ موسى كوسا أمام محكمة عادلة ملابسات طيِّ صفحة تفجير لوكربي وإطلاق سراح عبد الباسط المقرحي، المتهم الرئيسي به، من حبسه السكوتلندي في آب/ أغسطس 2009: هل تم حقاً لأسباب «إنسانية» (مرضه بالسرطان) أم مقابل تمكين شركة «بريتيش بتروليوم» من التنقيب عن البترول في عرض خليج سرت؟ كذلك، لا مصلحة لها في أن ينطلقَ لسانُه بالحديث عن التعاون الأمني بين القذافي ووزيرها الأول السابق توني بلير. ونذكر هنا بأن «قائد طرابلس العسكري»، عبد الحكيم بلحاج، اتهم صراحةٌ الأجهزةً الخاصة البريطانية بتزويد الاستخبارات الأميركية بمعلومات أفضت في 2004 إلى اعتقالِه في تايلندا وترحيله إلى ليبيا).
ولا مصلحةَ لفرنسا في أن يقولَ موسى كوسا أمام قاض نزيه ما يعرفُه عن مختلف اتفاقاتها مع الديكتاتور الليبي ومنها الاتفاقاتُ الأمنية كتجهيز شركة Amesys من 2007 شبكةَ الاتصالات الليبية بما يتيح التنصت على 5 ملايين ليبي. ومنها الاتفاقاتُ «الإنسانية»، كإطلاق سراح الممرضات البلغاريات تلميعاً لصورة نيكولا ساركوزي الأوروبية مقابل وعد ببيع جيش «دولة الجماهير» الكاريكاتوري أسلحةً حديثة (ما كان يرجى منه، بالمناسبة، ضخُّ المليارات في شرايين الصناعة الحربية الفرنسية). صحيحٌ أنّ من عقد هذه الصفقاتِ مع القذافي هو الرئيسُ الفرنسي السابق، لكن الاشتراكيين الفرنسيين، بما يعرف عنهم من «وطنية»، لا يرضون بكشف أسرار بلدهم «الإستراتيجية» حتى لو مكّنهم ذلك من تصفية حساباتهم مع خصومهم اليمينيين. في ظل هذا التواطؤ، يبقى الأملُ الوحيد في فتح ملف موسى كوسا وغيرِه من أساطين النظام السابق (التائبين وغير التائبين) أن يقودَ التحقيقَ مع عبد الله السنوسي قضاةٌ ليبيون مستقلون، لا يريدون «التضحيةَ» به إرضاءً للرأي العام بقدر ما يريدون تجسيدَ العدالة وإعطاءَ مواطنيهم صورةً وافية عن شبكة الرعب القذافية وحقيقة صلاتها بـ«أصدقاء ليبيا» الجدد.
* كاتب جزائري