«من هو الأردني؟» و«ما معنى أن تكون أردنياً؟» سؤالان ما برحا مطروحين يلحان على الحياة السياسية الأردنية، حتى أنّ الملك عبد الله الثاني اضطرّ، في إطار المناقشات الساخنة التي أطلقها الحراك الشعبي خلال 2011 ــ 2012، إلى كسر التابو الهاشمي إزاء ذينك السؤالين، والقبول بطرحهما على جدول الأعمال. لقد تولّد رأي عام في البلاد يرى أنه آن الأوان للبدء بمعالجة جدية ومسؤولة لمرحلة إعادة بناء الدولة، تفرض أولوية بحث مسألة الهوية الوطنية التي طالما تجنّبها السياسيون لثلاثة دوافع
، منها دافع الانتهازية التي تبتعد عن وجع الرأس وتستبعد الخلافات وتستجلب الشعبية على حساب الحلول الاستراتيجية، ومنها دافع التحضير لـ«الوطن البديل»، ومنها دافع «الواقعية السياسية» التي ترى أن اتجاه التطورات سوف يفضي إلى كونفدرالية مع كيان فلسطيني مجزوء غير قابل للحياة من دون الصلة مع الأردن. وهو ما يوجب الصمت حول سؤال الهوية الأردنية، تحضيراً للتساوق مع تلك «الحتمية الكونفدرالية» المدعاة.
السجال لا يزال قائماً حول مَن يحق له التمتع بالجنسية الأردنية. فهناك مَن يعتبر أنّ فشل المشروع الفلسطيني يوجب إلغاء قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية (الصادر في 1988 مقدمة لإعلان الدولة الفلسطينية في العام نفسه)، ويعتبر أن الجنسية الأردنية حق لجميع أبناء الضفة. وهنالك مَن يرى أنّ الجنسية الأردنية هي حق لأبناء الضفة المقيمين في الأردن بعد 1988 أيضاً، وهنالك مَن يريد تجنيس الغزيين المقيمين الخ. وقد تم، بالفعل، وإن يكن بحدود فرضتها تدخلات البزنس والفساد الإداري والضغوط السياسية الغربية، منح الجنسية الأردنية لعشرات الآلاف من هذه الفئات، خلافاً لتعليمات فك الارتباط.
وعلى الجهة الأخرى، هنالك مَن يرى أنّ الجنسية الأردنية هي حق، فقط، لمن كان أردنياً من أبوين عثمانيين، وهنالك مَن يوقف هذا الحق على سنة 1946 (قيام المملكة)، أو على سنة 1967 (أي اللاجئين دون النازحين). لكن هذه التيارات تراجعت بسبب تطور المنحى الديموقراطي التقدمي في صفوف الوطنيين الأردنيين لصالح الاعتراف بوجود مكوّن فلسطيني بين مكونات الشعب الأردني.
سؤال «مَن هو الأردني؟» مطروح على الإرادة السياسية للنظام الذي آن له أن يتخلص من أوهام الدور الأردني في الضفة، والمبادرة إلى إصدار قانون جديد للجنسية ينظمها وفق تعليمات فك الارتباط لعام 88، بدلاً من الاحتكام إلى هذه التعليمات الإدارية. بذلك، سيكون جميع المواطنين من أصل فلسطيني لما قبل 31 آب 1988، أردنيين بصورة قانونية، بينما يكون الفلسطينيون في المملكة ممن وفدوا بعد فك الارتباط، مقيمين كسواهم من العرب.
ينشأ عن ذلك كله إطار قانوني صارم يحدد بوضوح مَن هو الأردني. وهذا هو الجواب السهل للسؤال السهل: مَن هو الأردني؟ ونلاحظ أنّه يتعلّق بإجراءات قانونية وإدارية. أما السؤال الثاني: «ماذا يعني أن تكون أردنياً؟» فهو سؤال صعب وشائك واستقطابي. وجواب هذا السؤال مرهون بالتطوّر الاقتصادي الاجتماعي للبلاد واتجاهه، والتعليم واتجاهه، وبمسار التحوّل الديموقراطي، وامكانية ولادة نخبة وطنية موحدة... الخ. لكن كل ذلك يظل خارج البحث ما لم يُحسم الجانب القانوني للمواطنة.
برأيي أنّ مركزية الدولة والقطاع العام الإداري والاقتصادي، وإخضاع القطاع الخاص لخطط تنموية وطنية، وتعزيز مكانة ودور المؤسسة العسكرية على الصعد الوطنية والاجتماعية والتنموية، واستحداث شبكة مواصلات وطنية بالسكك الحديد لضمان سيولة قوة العمل والتواصل السهل والسريع وغير المكلف بين المراكز السكانية المتباعدة، والاستثمار الزراعي والصناعي في المحافظات، ووقف تسليع الأراضي، وإحداث تغيير وطني وديموقراطي ومدني في المدرسة والجامعة والإعلام، وتوحيد الذاكرة والنظرة إلى الماضي و الرموز... هي بعض المسارات المفضية إلى التوصل إلى بيئة الإجابة الصحيحة على سؤال: ماذا يعني أن تكون أردنياً؟ وهو ما يعني أنّنا بإزاء مشروع تاريخي لا بإزاء جواب إجرائي. عندما توصّل مهاتير محمد إلى تصوّر مشروع، كذاك، لتوحيد المجتمع الماليزي المنقسم إلى مالويين (في القطاع العام، كما هو حال الشرق أردنيين) وصينيين (في القطاع الخاص، كما هو حال الأردنيين ـ الفلسطينيين) وهنود (في القطاع التجاري التقليدي، كما هو حال الأردنيين ـ الشوام)، وضع الأسس للانتقال بماليزيا المتخلفة إلى موقع الاقتصاد رقم 14 على المستوى العالمي.
كيف فعل مهاتير محمد ذلك؟ ليس بإنكار هوية البلاد المالوية، ولا بالتشكيك بكيان المالويين السياسي واستسهال إرسالهم إلى هوامش الإفقار، بل من خلال الاحتفاظ بالقطاع العام المالوي ودوره، وتطوير نخبة مالوية جديدة متسعة باستمرار وادماجها في الاقتصاد الحديث.
أدمجت ماليزيا كل مكوناتها في إطار دولة وطنية مالوية ـ وليس في فدرالية مكوّنات إتنية ـ فاصبح التنوّع ميزة، حتى أنّه يُذكَر في اعلانات الترويج السياحي التي تقول فخورة: «ماليزيا... آسيا الحقيقية». يمكننا أن نتعلم من التجربة الماليزية، وربما في عقد واحد، يمكننا القول: «الأردن... الشام الحقيقية»! ففي عمان، اليوم، فوح غامر من ياسمين دمشق، وظلال كثيفة من القدس، وآفاق حياة مدنية حديثة من بيروت، في نسيج واحد يحوّل المدينة، في رؤى الاندماج، إلى مهرجان دائم.



الحورانية العمّانية: لهجة الاندماج الوطني

من المعروف عن أبناء وبنات مدينة السلط، حاضرة البلقاء التي تمثّل قلب شرق الأردن، اعتزازهم واعتزازهن بمدينتهم التي يسمّونها «كرسي البلقا»، و«البلقا كرسي البلاد». وحتى عندما يعود واحدهم من أوروبا، سيقول لك: «أبيش أحلى من السلط».
و«أبيش» أداة نفي في عائلة اللهجات الحورانية، اختفت إلا من لهجة السلط (ويلفظها السلطية بتشديد السين وفتحها وتخفيف اللام المكسورة). وبحسب عالمة اللغويات الأردنية المقيمة في بريطانيا، الدكتورة إنعام الور، فإنّ اللهجات الحورانية تبدأ من جنوبيّ دمشق وتنتهي عند الموجب، حيث تبدأ شقيقتها عائلة اللهجات المؤابية. إلا أنّ المفارقة أنّ اكتمال اللهجات الحورانية سار من الشمال إلى الجنوب، لكي يستقر في السلط، بينما تتبدى المؤابية أكثر ما تتبدى في لهجة الكرك. وربما يكون ذلك عائداً إلى الأدوار المديدة التي لعبتها المدينتان كمركزين سياسيين.
لا توجد، بالنسبة لعلماء اللغويات، اختلافات بين اللهجات الحورانية (السائدة بين جنوبي دمشق حتى شمالي مؤاب) تسمح بتصنيفها خارج عائلة واحدة. وبينما يلمس أبناء المناطق الحورانية الفروقات الطفيفة بين لهجة إربد وجوارها وبين لهجة السلطية، فإنّ غير الأردني يصعب عليه التمييز بينهما، وهو يحتاج إلى تركيز ومعرفة لكي يلاحظ الاختلافات التي تميّز اللهجة المؤابية الكركية التي تظهر التفريق الجنسوي المضاعف للمخاطَب (بفتح الطاء). فالحوراني يقول للمرأة: «عندتِشْ» بينما يقول لها الكركي: «عندكي». وربما يكون الأصل في ذلك، ترسّخ حضور المرأة المؤابية أكثر من شقيقتها الحورانية.
إلا أنّ من علامات اندماج الكركي أردنياً، تخليه عن استخدام فروقات اللهجة المؤابية، لصالح التوافق مع اللهجة الحورانية. وهو ما ينطبق على أهالي الحواضر الفلسطينية المندمجين سياسياً واجتماعياً في عمان، ذلك أنّهم يتخلّون عن لهجاتهم لصالح الحورانية العمانية.
لهجة عمان الاندماجية هي تركيب حوراني خاص مستحدث من اللهجة السلطية مع مؤثرات اللهجة النابلسية المدينية المحدثة. وقد اخذت اللهجة العمانية المنحى الحوراني العام وتمسكت بالقاف (الملفوظة كالجيم المصرية)، وأحرف العلة، بينما أخذت من اللهجة النابلسية الأحرف الصامتة. ويحتاج تأثير نابلس ــ الذي لم يتح لمدينة فلسطينية أخرى ــ في التكوين الاجتماعي والسياسي والثقافي الأردني الحديث، إلى وقفة دراسية.
وللدكتورة الور، اكتشافات ميدانية في حقل دراستها، يتضمنها بحث غير منشور، سأركّز على أهم استنتاجاته ذات البعد السياسي. وهي:
1 ـ اللهجة العمانية المستحدثة ــ والتي لا يشمل استخدامها كل سكان عمان ــ أصبحت عضواً اصيلاً في عائلة اللهجات الحورانية. وبنشوء هذه اللهجة المدينية اكتملت عمان كواحدة من حواضر الشام الكبرى؛ دمشق، بيروت، القدس... التي طورت كل منها لهجتها الخاصة بها سابقاً. ويمكن القول إنّ الحورانية العمانية هي لهجة الاندماج اللهجوي الأردني.
2 ـ أن اللهجة العمانية هي، للأسف، لهجة الذكور المندمجين في الحياة السياسية. ومن علامات اندماجهم لفظ القاف الحورانية (كالجيم المصرية). وهو ما لا ينطبق على النساء المهمشات سياسياً، فيلفظن القاف (آ) متمثلات اللهجات الشامية والمدنية الفلسطينية واللبنانية، ويتبعن المؤثرات الأخرى لهذه اللهجات. فطريقة لفظ القاف تحكم منحى اللهجة كله.
3 ـ ولأنّ النساء ــ اللواتي بقين خارج دائرة الاندماج والنفوذ السياسيين ــ يقمن بعمل سياسي رئيسي هو تربية الأطفال، فإنهن يعرقلن التطور الطبيعي للهجة العمانية الحورانية، ويتركن لدى أطفالهن الذكور، خلائط لهجوية قد تعرقل اندماجهم وتطورهم السياسي. وهم يسعون لمغالبة تلك الخلائط بشيء من الصعوبة، ويضطرون لاستخدام لهجتين، واحدة مع اندادهم الذكور وأخرى مع الصبايا.
4 ـ قبل أن نعظ النساء بالأهمية السياسية القصوى للاندماج اللهجوي، علينا أولاً أن نساعدهن، بجد، على الاندماج السياسي، وعندها سيلفظن القاف الحورانية ــ المؤابية الجميلة مثل الرجال، ويسهمن بالاندماج اللهجوي الذي لا مفر منه لتوحيد التكوين الوطني الثقافي وإغناء الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي والعاطفي وخلق الفضاء العام المديني الموحد وتطوير الدراما والأغنية... الخ.



جوزيف مسعد... الضحية جلاّداً



أعادني جوزيف مسعد إلى خريف 1995، حين نشرت مقالاً بعنوان «من هو الأردني؟» ردّ عليه الملك حسين بنفسه في خطاب، قال فيه: «هناك مَن يسأل مَن هو الأردني. وأنا أسأل: ما هو الأردن؟». ثم استرسل قائلاً إن الأردن لا شيء في الأصل، إنما صنعه الهاشميون. وهذه هي بالضبط الأطروحة الرئيسية لمسعد، في رسالته للدكتوراه، المدعية أنّ الكيان الأردني والهوية الأردنية، لا شيء بالأصل بل صنعهما البريطانيون، كما في مقاله المشوّش («الأردن بين الوطنية والشوفينية»، الأخبار، 10 أيلول 2012).
في صيف العام التالي، أي في 1996، استغلّ مدير الاستخبارات، سميح البطيخي، حملة الاعتقالات التي أعقبت انتفاضة الخبز في محافظات الجنوب، ليعتقلني، لكنني حوكمت، آنذاك، أمام محكمة أمن الدولة، بتهمة «إطالة اللسان على جلالة الملك»، وقدّم المدعي العام العسكري، نص مقالي «مَن هو الأردني؟»، كمستند لتجريمي بالتهمة المذكورة.
ولم يكتف أولئك الذين أغضبتهم جراءتي في طرح «سؤال المليون» في الأردن، بما عانيته من مطاردة وسجن ومحاكمة طويلة مضنية، ففي آب 1998، أرسلوا إلي أربعة قبضايات انهالوا علي بالضرب المبرّح أمام منزلي بعمان، ولاذوا بالفرار، بينما أجرى الأطباء لي جملة من العمليات المعقدة في الأمعاء التي أصابها التجلّط جراء الضرب «الفني» المستهدف القتل، انتهت باستئصال حوالى 240 سنتمتراً من أمعائي الدقيقة، قضيت، بعدها، زهاء شهرين في غرفة العناية الحثيثة في مستشفى لوزميلا في جبل اللويبدة بعمان.
مسعد، كما المدعي العام العسكري وأولئك الذين أرسلوا القبضايات لقتلي، أرّقهم أن يخرج صوت من بين صفوف المفقَرين والمهمّشين، ليقول: لا. لستم أميركا ولسنا الهنود الحمر! لم أطالب، ولم يطالب أي وطني أردني يوماً بطرد الأردنيين ـ الفلسطينيين أو الفلسطينيين من البلاد، بل بتنظيم العلاقة الثنائية، قانونياً لوقف الهجرات الطوعية المتلاحقة من فلسطين صوب الأردن، وسياسياً بتأسيسها على التصدي لإسرائيل والمشروع الصهيوني، واجتماعياً بكشف تلطي البرجوازية الفلسطينية، وراء قضية الشعب الفلسطيني، لمنع الصراع الاجتماعي وتحطيم وحدة الكادحين في البلاد.
تغيب عن مسعد، في سرديته حول الوطنية الأردنية، محورية المواجهة مع المشروع الصهيوني. وهو ينسى أو يتناسى أنّه يتحدث عن لاجئين ونازحين من وطن مغتَصب ومحتَلّ. لذلك، فهو ينسب ظهور النقاشات الخاصة بالهوية الأردنية، إلى مناخ الحريات الليبرالية منذ 1989. وهذا غير صحيح.
يصوّر مسعد ذلك المناخ كأنّه هبط من السماء أو جاء كمنحة من الملك، متجاهلاً أنّ انتفاضة نيسان 1989 في المحافظات، هي التي كسرت الأحكام العرفية، وسمحت بالهامش الليبرالي الذي أتاح الطرح العلني للعديد من القضايا بالفعل، لكن إشكالية العلاقة الأردنية ـ الفلسطينية، لم تُطرَح إلا بعد اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 1993، وأساسها القبول بكيان فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، والمعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية الموقعة في وادي عربة في 1994، التي تضمن البند الثامن منها توطين اللاجئين والنازحين في الأردن.
قبل ذلك، كان يُنظر إلى فلسطينيي الأردن كما ينظرون إلى أنفسهم ـ رغم كونهم مواطنين كاملي الحقوق ـ على أنّ وجودهم السياسي يرتبط بالتحرير أو بالحل الشامل الذي يتضمن حق العودة حكماً، لكن اتضح، وقتذاك، أنّ النظامين الفلسطيني والأردني معاً، تخلّيا عن ذلك الحق، بل وأخذت تُطرَح مشاريع لإقامة كونفدرالية ثنائية بين الأردن والكيان الفلسطيني، بل وثلاثية (اقتصادية) تشمل إسرائيل، وتحت قيادتها. وفي مواجهة هذا المناخ بالذات، كُتب مقال «من هو الأردني؟» للتعبير عن كينونة وطنية أردنية ترفض معاهدة وادي عربة والتوطين والكونفدرالية.
لا تكفي هذه المساحة لتفنيد ادعاءات مسعد أو تصحيح الأخطاء الابتدائية التي وقع فيها لإنشاء سرديته حول الأردن. وهي سردية تسعى إلى الآتي:
أولاً، نفي وجود الأردن قبل الانتداب وقيام الإمارة، ككيان من كيانات الشام، بل إنه يورد إشارات عديدة حول ارتباك البريطانيين في تسمية الإمارة الوليدة. وكأن مشكلة الوجود هي مشكلة الاسم!
ثانياً، نفي وجود الشعب الأردني حتى قبل الهجرات الفلسطينية اعتباراً من 1948. وهو يعدّ الأردن بلد مهاجرين «سوريين وفلسطينيين وعراقيين وحجازيين ولبنانيين وأرمن وأكراد وأتراك وتوانسة ومغاربة... الخ. إضافةً إلى الشركس والشيشان! ومع هؤلاء وجد سكان «محليون» وبدو رحّل. وبالمناسبة، يستعيد مسعد، هنا، خطاب الرئيس بيل كلينتون في البرلمان الأردني في 1994، حين عدّ الأردن، كالولايات المتحدة، بلد مهاجرين (وفي ذهنه، بالطبع، المصير المحتوم للهنود الحمر). ويتجاهل مسعد أن كل التنويعات التي ذكرها لا تمثّل 3 إلى 5 بالمئة من الأردنيين لما قبل الهجرات الفلسطينية الكبرى. لكن الأهم من الأرقام والنسب، أنّ جميع أولئك المذكورين أعلاه، وفدوا إلى البلاد في ظروف طبيعية، واندمجوا في هويتها السياسية بلا لبس، بينما الهجرات الفلسطينية لما بعد 1948، نجمت عن التطهير العرقي الذي مارسه الصهاينة في فلسطين المحتلة. ويتمتع هؤلاء الذين لهم وضع خاص في القانون الدولي، كلاجئين ونازحين، بحق العودة إلى بلادهم، وفق القرارات الدولية.
ثالثاً، بناء حكاية عن مظلومية الأردنيين ـ الفلسطينيين الذين يجري تصويرهم ككتلة تخضع للقمع السياسي والأيديولوجي من قبل الدولة الأردنية.
رابعاً، الخلط المتعمد بين الأردنيين ـ الفلسطينيين، وجلّهم من اللاجئين والنازحين، وبين الهجرات الفلسطينية اللاحقة الطوعية لمواطني السلطة الفلسطينية ممن يحتفظون بحقوق الإقامة في الضفة الغربية، ويستطيعون العودة إليها في اي وقت، لكنّهم يفضلون، لأسباب مختلفة، الإقامة في الأردن. وقد بلغ عدد هؤلاء، في تشرين الثاني 2011 مليوناً وبضعة آلاف، وفقاً لتعداد صادر حينه في وثيقة رسمية عن وزارة الداخلية. وتطالب الولايات المتحدة وأوساط برجوازية وإسلامية، بتجنيسهم أيضاً، بما يؤمن أغلبية ديموغرافية لديموقراطية الوطن البديل.
خامساً، إنكار واقع معروف للجميع، وهو واقع سيطرة الأردنيين ـ الفلسطينيين على الشركات الكبرى والمتوسطة والصغيرة في البلاد. إنّ أسماء أعضاء مجالس الشركات المساهمة والشركاء في الشركات الخاصة وأصحاب المؤسسات الفردية، متاحة على الشبكة العنكبوتية. ويمكن لمسعد او سواه، إجراء إحصاء بنفسه للتأكد من صحة النسب التي اعتمدناها لأصول البرجوازيين في مقال سابق.
ما هي الخلاصة التي يريد مسعد التوصل إليها؟ إنها كالتالي: الأردن أرض (خلاء تاريخي) بلا هوية ولا شعب، لشعب بلا أرض! يعني أنّ مسعد يستعيد، إزاء الأردن، فحوى النظرية الصهيونية إزاء فلسطين. هكذا يتحوّل الضحية إلى جلّاد؛ يستنسخ الأولُ الثاني، أيديولوجية ومشروعاً.
عرف الأردن الحالي ـ أو أجزاء منه ـ أسماء عدة عبر التاريخ: ممالك عمون ومؤاب وآدوم، ثم «عبر الأردن» كما في التوراة، ثم «الولاية العربية» وفق التقسيمات الإدارية البيزنطية، و«جند الأردن» و«البلقاء» و«مملكة الكرك» في العصور الإسلامية، و«إمارة شرق الأردن» الصليبية. وفي 1878، صدر فرمان عثماني بتأسيس ولاية عمان او معمورة الحميدية ـــ على أراضي الأردن الحالية ـ لكن مشكلة الاسم مطروحة في كل بلاد الشام؛ فسوريا الحالية أخذت اسم الكل للجزء، ولبنان أطلق اسم الجبل على أراض تتجاوز حدوده، ولم يكن اسم فلسطين مرتبطاً بالبلد الحالي؛ ففي التقسيمات الإدارية البيزنطية، كان اسم فلسطين مقتصراً على أجزاء من فلسطين الحالية، وفي الفترة العثمانية، لم تًعرَف فلسطين كولاية واحدة، بل تبعت تقسيمات إدارية ربطتها بدمشق والبلقاء وصيدا. وهكذا.
إذاً، فلنترك مشكلة الاسم جانباً، ولنركّز على المضمون الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الخاص لكيان شرق الأردن، الذي شغل في التاريخ ما يمكننا أن نسميه منطقة حوران الكبرى. وهي تمتد من جنوبي دمشق حتى جنوبي البلقاء، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالمنطقة المؤابية ـ الآدومية حتى العقبة، وتشكلان معاً كياناً جيو ــ اجتماعياً سياسياً واحداً، تكمن ميزته الأساسية في أنّه يمثّل جزيرة رطبة طولية على سيف الصحراء، مما اضطر العشائر المستقرة فيها استقراراً فلاحياً، إلى الاحتفاظ بتنظيمها العشائري البدوي، لكي تحمي نفسها من هجرات عشائر جديدة. وبذلك، عرف الإقليم خصوصيته في تركيب اجتماعي خاص منحه شخصيته السياسية.
تترك العشائر المستقرة في الجزيرة الرطبة الحورانية المؤابية الآدومية، اقتصاد الإبل والترحال، إلى زراعة القمح وتربية الأغنام، وتتحوّل إلى عشائر ذات تركيبات متنوعة من أنصاف البدو ـ أنصاف الفلاحين. عشائر منظمة على أسس قرابية أو تحالفات قرابية وعلى التضامن والمساواتية ـ بما يضمن قدرتها على التحشيد القتالي ـ لكنها، في الوقت نفسه، تتكون من عائلات فلاحية. وقد طبع ذلك شخصية الإقليم الأردني وأهله الذين يعتبرهم اهل نجد والحجاز، فلاحين، بينما يعتبرهم أهل الساحل والمراكز المدينية في فلسطين وسوريا، بدواً.
تسود في الإقليم الأردني، لهجتان من العائلة اللهجوية نفسها، هما اللهجة الحورانية وشقيقتها اللهجة المؤابية. وتسود في الأردن الحالي اللهجة الحورانية المعدّلة التي تتميز، كلياً، عن اللهجات الفلسطينية والسورية واللبنانية. ولم يعرف الإقليم، حتى ثلاثينيات القرن العشرين، الملكية الخاصة للأرض، مما خصّب تربة الاتجاهات الاجتماعية المساواتية في ثقافته السياسية الحديثة وميّزها عن التنظيم التجاري في دمشق وشبه الإقطاعي في فلسطين. وتشارك سكان الإقليم الأساليب الانتاجية الزراعية نفسها، والعادات الغذائية القائمة على القمح ومنتجاته والحليب ومنتجاته. ويميل قسم من الشرق أردنيين، الأقرب إلى تخوم الصحراء إلى البداوة، بينما يميل القسم الآخر منهم، في المرتفعات الرطبة، إلى الفلاحة، لكن توجد بين القسمين روابط اقتصادية واجتماعية وسياسية عضوية هي التي جعلت انتظام عشائر الأردن ـ بكل تنويعاتها ـ في جسم سياسي واحد، ممكناً. وهو الجسم الذي يشكل العصب الأساسي للدولة الأردنية.
يُخطئ مسعد حين يعتبر الإمارة الأردنية، ناشئة عن اتفاقية سايكس بيكو في 1916. ففي تلك الاتفاقية كان الأردن جزءاً من سوريا الداخلية الممتدة من جنوب الأردن إلى دمشق وحمص وحماة وحلب، والمخصصة، جميعها، لإقامة الدولة العربية الموعودة للهاشميين، لكن الاستعمارين البريطاني والفرنسي، أعادا، في معاهدة سان ريمو في 1920، رسم خريطة بلاد الشام من جديد، فجرى فصل شرقي الأردن، تحت الانتداب البريطاني، عن الداخل السوري الذي جرى ربطه بالساحل في إطار سوريا الحالية.
ولدى تنفيذ سان ريمو على الأرض من قبل الفرنسيين الذين احتلوا «حصتهم» من سوريا الداخلية، وطردوا فيصل الأول منها، بقي شرق الأردن ينظر إلى نفسه كجزء من المملكة الفيصلية. وهذا ما يوضحه مؤتمر الوطنيين الشرق أردنيين في «أم قيس» في شمالي الأردن في 1920، وحضره ممثلون عن الجزء الذي غنمه الفرنسيون من حوران، وطالب بقيام دولة عربية مستقلة في شرق الأردن، لا صلة لها بحكومة فلسطين، ترث المملكة الفيصلية، وتسعى إلى استعادة المغصوب منها. وعلى هذا الأساس، جرى اختيار العلم السوري ذي النجمة، علماً لشرق الأردن. وهو، بالمناسبة، علم الأردن الحالي. وحتى نهاية أربعينيات القرن العشرين، كان النشيد المعتمد في المدارس الأردنية هو:
«أنتِ سوريا بلادي// انتِ عنوان الفخامهْ// كلُّ من يأتيكِ يوما // طامعا يلقى حمامهْ».
على هذا، فإن الجماهير الشرق أردنية المدرّبة، ثقافياً، على الولاء لسوريا الأم، كانت تنتزع شارة الحدود في خمسينيات القرن العشرين، ليس لأنها لا تدرك هويتها، كما يدعي مسعد، بل لأنها تدركها إدراكاً عميقاً. الشرق أردنيون، بخلاف الفلسطينيين واللبنانيين معاً، لا يرون في هويتهم الكيانية ما يتناقض مع الهوية السورية الجامعة. ويعود ذلك، في رأيي، إضافةً إلى ما ذكرناه سابقاً، إلى أن الشرق أردنيين ـ المنتظمين في دولة وطنية ـ ينظرون إلى الجمهورية العربية السورية، كما إلى العراق، كمثلث كيانات مركزية في الهلال الخصيب. وقد شهد هذا المثلث، علاقات ثنائية كان الأردن، الطرف الدائم فيها (مع سوريا حافظ الأسد ومع عراق صدام حسين). وإذا ما ضبطت التوقعات الحالية بنشوء تحالف بين دمشق وبغداد، فإنّ انضمام عمّان إلى هذا التحالف، سيكون استحقاقاً جيوسياسياً لا مفرّ منه. والتحدي الماثل أمام هذا الاستحقاق إنما يكمن في مشروع الوطن البديل الذي يرتدي، اليوم، قناعاً إسلامياً. في المقابل، فإنّ ظهور الوطنية الأردنية، الآن، على المسرح الإقليمي (من خلال مشروع الدولة الوطنية الاجتماعية والمجابهة مع المشروع الإخواني والحيلولة دون التورّط في الحرب السورية) يمثّل رافعة أساسية لوحدة الهلال الخصيب.
حتى في أسوأ الأوقات، أيام الصدام بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، كان في هذا الجيش فلسطينيون وفي الفصائل أردنيون. ولم تسجل، في سير المعارك كلها وما تبعها، حادثة قتل او اعتداء واحدة، قام بها مدنيون ضد مدنيين من الطرفين. ولم يعرف الأردن، الاضطهاد على أساس الأصل أبداً، وأدار المجتمع انقسامه بصورة متحضرة، بينما سعى النظام، بصورة مثابرة، إلى اجتذاب الفلسطينيين إلى صفوفه، ومنحهم الإغراءات للانضواء تحت جناحه.
فلسطينيو الأردن يحملون جنسيته، ولهم كامل الحقوق الدستورية، وكوتا معروفة في الحقائب الوزارية والمناصب الحكومية والبرلمان. وصحيح أنّها لا تساوي نسبتهم من بين المواطنين (حوالى 40 بالمئة) لكن علينا أن نتذكر هنا أنّ الدولة الأردنية تأسست قبل نحو 30 عاماً من قدوم أول هجرة فلسطينية، وأنّ هناك جملة من التعقيدات المحلية والإقليمية، التي تحول دون زيادة حصة الأردنيين ـ الفلسطينيين السياسية عن الحد الذي يصل بنا إلى الوطن البديل، وخصوصاً أن معظم الاستثمارات والثروات في البلاد يملكها فلسطينيون ـ ولا نقول «الفلسطينيون».
مؤسسة واحدة في البلاد لا يمثل فيها الأردنيون ـ الفلسطينيون حضوراً ذا معنى، هي المؤسسة العسكرية. ويعود ذلك إلى أسباب تاريخية واجتماعية. ففي مواجهات 1970 مع الفصائل الفلسطينية، انشق معظم الضباط والجنود من أصل فلسطيني والتحقوا بفتح، بينما حالت الفرص المتاحة للعمل برواتب مجزية في القطاع الخاص والخليج، والعوامل النفسية الناتجة عن أحداث 1970، دون انخراط الأردنيين ـ الفلسطينيين في الجيش الأردني، الذي حاول استقطابهم (بنسبة 15 بالمئة على الأقل من إجمالي التجنيد) لكن من دون جدوى.
لا ترفض الحركة الوطنية الشرق أردنية، منح المزيد من الفرص السياسية للأردنيين ـ الفلسطينيين، لكن ليس على أساس المحاصصة بل على أساس المواطنة. وهي ترى ضرورة مراعاة ما يلي: (1) وقف الهجرة الناعمة المستمرة من الضفة الغربية، وخصوصاً وقف التجنيس السياسي المستهدف تحويل الأردنيين ـ الفلسطينيين، بصورة مصطنعة، إلى أغلبية في البلاد؛ (2) وقف السياسات النيوليبرالية ومراجعة الخصخصة واستعادة دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي؛ (3) تنمية المحافظات؛ (4) تحديد هوية الدولة على أساس الديموقراطية الاجتماعية.
تكفل هذه الحزمة من السياسات، تحييد التشكّل الوطني الداخلي عن الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية، وإعادة دمج الفئات السكانية على أسس تنموية واجتماعية لا اثنية، وبالتالي تمكين الفئات الشعبية من كل الأصول من المشاركة في ديموقراطية لا يسيطر عليها التحشيد الديموغرافي السياسي ولا أصحاب الثروات.
أخيراً، كلمة بشأن رئيس الوزراء الأردني الراحل وصفي التل، الذي يعيب مسعد على اليساريين الأردنيين تحويله إلى رمز، رغم أنّه «يميني». حسناً! وصفي التل رمز وطني أردني ماثل. وكل ما فعله اليساريون ـ وأنا منهم ـ هو السعي إلى اكتشاف الرجل وتجربته، والسر وراء رمزيته لدى الجماهير الشرق أردنية.
جدّد وصفي التل، في الستينيات، الدولة الأردنية بالكامل، ونقلها من تكوين الإمارة التقليدي إلى دولة حديثة، من خلال حزمة متكاملة من السياسات والإجراءات، منها استئصال الفساد، وتنظيم الإدارة، وبناء القطاع العام الاقتصادي، وتطوير الريف ودعم الزراعة، وتحسين الخدمات العامة، وتنظيم المالية العامة وإنشاء البنك المركزي الأردني، والتوسع في التعليم العام وتأسيس أول جامعة في البلاد، ووقف العشوائية في عمل الأجهزة الأمنية، ودمج العديد من كوادر المعارضة في إدارات الدولة، وتوزير أبناء العشائر والفلاحين، بدلاً من أبناء الأرستقراطية القديمة. وقد أدى كل ذلك وسواه إلى نهضة شاملة في حياة الكادحين في البلاد.
إلى ذلك، كان وصفي التل قومياً عربياً (انزاح، لاحقاً، إلى قومي سوري) وكانت له تجربة قتالية في فلسطين ورؤية استراتيجية دفاعية في مواجهة إسرائيل، شرحناها، كما شرحنا ظروف الصدام مع المنظمات الفلسطينية في 1970 (في مقال بعنوان «قراءة جديدة في تجربة وصفي التل: الدولة والمقاومة»، 27 تموز 2012).