لم يكن للفلتان الأمني الذي استشرى في كل المناطق تقريباً، أن يبلغ هذا المستوى الخطير، لو لم يكن مستنداً الى فلتان أفدح خطراً وابعد اثراً هو الفلتان السياسي. وكالعادة، للفلتان السياسي اساساً أسباب داخلية واخرى خارجية. ولذلك جاءت نتائجه بذلك الحجم المقلق، الذي وصل الى حد «فقدان السيطرة» على الأرض، من مدينة طرابلس «عاصمة» تيار المستقبل والسنَّة في الشمال، الى «عاصمة» الشيعة في الضاحية الجنوبية من بيروت.والفلتان السياسي المذكور، لم يترك حقلاً دون ان يبلغه، وخصوصاً في الاونة الاخيرة. لنأخذ الجدل حول الوضع السوري. إنّه جدل الانقسام الكامل، الذي لا بوصلة توجه مساره، لا في المجال القومي ولا في المجال الوطني. وكذلك لا ضوابط جدية للسيطرة على تداعياته الأمنية التي حصلت، والتي يمكن أن تحصل. ولنأخذ الصراع الدائر حول سلاح المقاومة. ألم يبلغ الفلتان حد تجرؤ عملاء موصوفين للعدو الاسرائيلي، على طعن كل قيم المقاومة وتضحيات شهدائها وانجازات ابطالها؟ ألم يصبح في مكرورنا اليومي، من المواقف والتصريحات، تحويل العدو الى صديق والصديق الى عدو، فيما يتكفل فلتان سياسي من نوع آخر في تمييع قضية التعامل مع العدو، ومعاقبة من مارسوا فعل الخيانة الوطنية؟
ونصل الى قانون الانتخاب! يا للبازار الكريه الذي نعيشه، إذ تصبح «النسبية» جريمة، ويصبح احترام النصوص الدستورية بدعة، والفجور سيد الموقف. ألا يدرك المروجون لقانون «اللقاء الأرثوذكسي» أنهم، شاؤوا أم أبوا، يضعون اللبنات «الشرعية» الاولى في مشاريع الفدرالية، او حتى التقسيم، اذا وصلت التسويات والمساومات، كما هو متوقع، وكما حصل في مراحل سابقة، حد الاستعصاء او الاستحالة؟ ثم ألا يدفع المناخ السائد في المنطقة إلى مواصلة وتعميق عمليات الفرز المذهبي، بكل ما تحمله من مخاطر حقيقية على وحدة بلدان المنطقة، ولبنان بين أكثرها وَهْناً وهشاشة وتشرذماً؟ وليس نهاية المطاف، في هذا المسار، الارتهان للخارج عبر علاقة تتعمق وتتوسع بحيث يكاد اللبنانيون يصبحون جاليات تابعة لهذه الدولة او المرجعية او تلك؟
ويتصل بذلك اتصالاً وثيقاً الامعان في انتهاك الدستور والقانون: في الموازنة وتوزيع بنودها، وفي المهل، وفي الهدر المنظم، والفئوي والتحاصصي. وفي تعطيل الرقابة واصول عقد النفقات والمحاسبة، وفي إحالة هيئات الرقابة على سبات طويل، او على شاهد زور لا تُقدم بعض تقاريرها ولا تؤخر.
ويقترن بكل ذلك او ينجم عنه فلتان اقتصادي: بدءاً من فلتان الأسعار وإجحاف الضرائب وجشع الاحتكار، وصولاً الى سوء استخدام السلطة في عمليات النهب والسرقة والاعتداء على الاملاك العامة والبيئة... مروراً بفوضى البناء والكسارات. ولن ينفع إزاء كل ذلك، تطبيق قانون منع التدخين في الاماكن العامة، الذي يجسد ايضاً في هذه المرحلة، رغبتنا في إضفاء سمة الحداثة والعصرنة على ما نعتمده من انظمة متخلفة، وما نواصله من ممارسات، تؤشر كلتاهما الى اننا نفضل شريعة الغاب، ونعجز عن احترام او التزام ابسط الانجازات والمبادئ الحضارية والانسانية والادارية والمؤسساتية.
ويصيب الفلتان حتى المؤسسات والبنى التي انشأتها الجهود الشعبية للتصدي للخلل في النظام ولفئوية وجموح اصحاب المصلحة في تجديده وتأبيده: فهل للعمال والمستخدمين والموظفين اليوم اتحاد عمالي يحمل مطالبهم ويدافع عن بعض حقوقهم ومكتسباتهم؟ ألا يسابق الاتحاد القائم اصحاب العمل وممثليهم في السلطة على مواجهة المطالب المشروعة في تصحيح الاجر وفي بعض ضمانات العمل وما بعده؟ الا يضرب الفساد او التبعية بعض البدائل التي كانت يوماً محط الآمال، فينطبق عليها قول الشاعر العراقي احمد الصافي النجفي، الذي اتى ليصلح مجتمعه «فلم أصلحه، بل أفسدت نفسي»؟!
ولا داعي إلى الاستفاضة في كشف النتائج الخطيرة التي ترتبت على كل ذلك: من الانحدار المتواصل للبنان الى مستوى الدول الفاشلة، مروراً بشبه انهيار الدولة ومؤسساتها وهيبتها لمصلحة الدويلات المذهبية والقبضايات والعصابات... وصولاً الى «بروفات» محاولات الاغتيال بانتظار الظرف المناسب لتنفيذها على نحو كامل!
لقد استشعر المعنيون والمسؤولون بأنّ سيف الفوضى قد وصل الى أعناقهم، فأخبرونا أنهم قد «رفعوا الغطاء» عن المرتكبين. ويفيد ذلك بأنّهم هم من كان يغطي او يستخدم، او حتى يخترع، هؤلاء المرتكبين.
طبعاً، ليس على المواطن ان يسأل، وهو الذي يدفع الثمن من امنه وكرامته ولقمة عيشه ومتطلبات عائلته. يستطيع فقط أن يفكر في الهجرة، لكنّه حتى هناك، وهنا طبعاً، سيبقى ضحية عصبية هي بالتأكيد اقرب الى الفتنة منها الى الإيمان والتدين.
يستشري هذا الفلتان السياسي والامني والاقتصادي في ظل الاوضاع المتوترة على المستوى الاقليمي، وخصوصاً في سوريا. وهو يستشري ايضاً بسبب غياب الضوابط والرقابة والمساءلة الرسمية والشعبية. وتبرز اليوم الحاجة، اكثر من اي وقت سابق، الى قيام البديل السياسي ــ الشعبي، الذي ينبغي ان يُذكِّر ويُنذر ويتساءل ويحتج، باسم مصلحة لبنان، الذي لا ينبغي ان يبقى وطناً قيد الدرس والتهديد والضياع. وباسم مصلحة اللبنانين الذين يجب ان يصبحوا مواطنين متساوين، لا رعايا طوائف ومذاهب او قبائل وجاليات يتخاصمون ويتصارعون فتتبدد إنجازات حققها غيورون وابطال ورواد من ابناء شعبنا رغماً عن نظامه وحكامه!
* كاتب وسياسي لبناني