في المأثور الشعبي أنّ «الغرض مرض». لكن ما يدور من «حوار» في الإعلام وفي المنتديات وفي اللجان النيابية، بشأن قانون الانتخاب العتيد قد تعدى كل ذلك إلى ما بات يشابه «عصفورية» جوّالة! ويزيد في الطين بلة أنّ المتحاورين هم «فرسان التشريع» في لبنان، أي نواب الأمة (أي أمة؟!)، أي أعضاء المجلس النيابي. ويصفعك في تصريحاتهم ومواقفهم ذلك التجاهل التام للدستور اللبناني، مصدر التشريع في شأن قانون الانتخاب وسواه: بل إنّ المبالغة من قبل البعض إنما تشي بنوع من الجهل التام ليس فقط بروحية المواد الدستورية، بل أيضاً بنصوصها البسيطة والصريحة والحاسمة. ولا ينطبق هذا الجهل على نواب جدد أو ثانويين فحسب، بل أيضاً على رؤساء كتل لم يكلفوا انفسهم حتى عناء الاطلاع على النصوص الدستورية. إذ إنّ البازار العجيب، الرائج والمتكرر الآن، الذي في المرحلة المعاصرة يتداخل الدستور مع وثيقة «الطائف»، يقود إلى استنتاجات وخلاصات ما أنزل بها الدستور ولا «الطائف» من سلطان: كلٌّ يقرأ «الطائف» على هواه، ويفسر أو يتجاهل أو يجهل الدستور على مزاجه ومصالحه. ولا رادع من الشطط والغلط، لا عقاب أو محاسبة أو رأي عام...يقضي مبدأ تطور الأمم والشعوب المتمدنة أو التي هي على شيء من الانتساب إلى العصر ومتغيراته وضروراته، أن تتطوّر القوانين وتتعصرن وتتقدم وتتحسن... لكن هذا الأمر في لبنان ترف بعيد المنال ولا يخطر ببال. ولذلك تسير الأمور في اتجاه معاكس تماماً. ويصبح تخفيف الخسائر، وفرملة الاندفاعة إلى الخلف، هما جلّ ما يتمناه دعاة التغيير والتقدم. ذلك أنّه من دورة انتخابات إلى دورة تليها، يكاد الصراع المجنون والمسعور على المواقع والكراسي يعود بنا إلى «ترتيبات (أو تعليمات) شكيب أفندي» لعام 1845، وانتخابات «مشايخ الصلح» من قبل داوود باشا في 1864، مع فارق لمصلحة هذه الأخيرة لجهة أنّ الأموات لم يكونوا ينتخبون، وكذلك لجهة التساهل في شأن التمثيل، إذ كان يُنْتخب «شيخ الصلح» حتى من صفوف الأقلية، لا من صفوف الأكثرية دائماً!
لن نكرر هنا إذاً التذكير بعدم تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية المنصوص عليها في المادة 95 من الدستور اللبناني. ولن نكرر ما يتكامل معها من نصوص في المادتين 22 و24 لجهة التوصل من قبل «مجلس المناصفة» في 1992، إلى ضرورة وضع قانون لانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي. إن مثل هذا التكرار هو أمر خارج «العصفورية» الجوالة الناشطة حالياً. وهو أيضاً مقطوع الصلة بما يتهدد لبنان، في تمادي انقساماته الداخلية وتعاظمها، وفي تفاقم التناقضات الوافدة إليه من الجوار السوري والعربي، من احتمال تداعي وحدته الداخلية الهشة واستقراره المؤقت وغير الحصين.
نتجاوز عن هذا الحديث، رغم أنّ ما أقر في «الطائف» في 1989، ومن ثم في الدستور عام 1990، لم يأت من فراغ. فهو قد نجم عن تجربة الحرب الأهلية المريرة: عن أحد أهم أسبابها وعن أحد أهم شروط تفادي تكرارها. وهو كان ينبغي أن يبقى حاضراً في الذهن وفي الممارسة، وخصوصاً بعد خيبات نتائج الحرب الأهلية وخيبات ما بعدها وحتى اللحظة الراهنة: خسارة الامتيازات، سقوط المراهنة على الخارج، الاختلال السياسي والديموغرافي، الفشل السياسي والأمني والاقتصادي...
لكنّنا لا نستطيع تجاوز بديهيات أخرى من نوع ذلك التزوير الفظيع لاتفاق «الطائف» لجهة قانون الانتخاب وحجم الدوائر، ما دام «الطائف» قد ترك وراءه نصوصاً حاسمة لجهة اعتماد المحافظات الخمس ولجهة «النسبية بين المناطق». ولو أخذنا، تجاوزاً، بمسألة إعادة النظر في المحافظات الخمس، وهي أصلاً إعادة نظر إدارية وليست انتخابية، فهو من المعقول أن يصل تعدادها إلى 61 أو إلى 50 محافظة! ويتصل بذلك سؤال آخر، ولو تلطى أصحابه خلف النسبية العامة: هل من العقلانية والمصلحة الوطنية في شيء، أن نبني لبنة تقسيمية جديدة في واقعنا المريض، عبر دعوة كل أتباع مذهب إلى انتخاب ممثليهم دون سواهم؟ لقد حاول أذكياء «المشروع الأرثوذكسي» أن يوحدوا اللبنانيين في انقساماتهم! جمعوا عنواني النسبية والمذهبية في مشروع واحد: النسبية لإرضاء فريق الثامن من آذار، والمذهبية لإرضاء دعاة انتخاب النواب من قبل أبناء ملتهم، لا من قبل أبناء الملل الأخرى. بعد سقوط النسبية المتوقع والحتمي، سيفضي هذا المشروع إلى استعادة قانون الستين، وبصيغة اكثر سوءاً على الأرجح!
لقد عارض الدستور اللبناني، في أكثر من مادة وعبارة ونص، الحالة الطائفية بالحالة الوطنية. وهو وضع الصيغ والآليات لتحقيق ذلك، كما ذكرنا. أما ما يحصل اليوم، فهو انتكاسة مروعة تقودها قوى فقدت كل حسّ بالمصلحة الوطنية لحساب المصلحة الفئوية. إننا في الغالب الأعم، بإزاء مواقف ومواقع لا يعنيها شأن الوطن ووحدته وتقدمه واستقراره في شيء. إنها تعمل فقط وفق اعتبارات خاصة أو اعتبارات خارجية. وهي في مواقفها وسلوكها إنما تُعَمِّق من أزمة لبنان واللبنانيين. وقد دلت الممارسات التي استشرت في الأشهر الأخيرة، أي فلتان وفوضى واشتباكات وسرقات وخطف وتهديدات... على احتمال بلوغ لبنان نقطة الخطر الشديد. أما احتمال الانحدار إلى الاسوأ، فذلك، للأسف، قائم ارتباطاً بتَرجُّح تدهور الوضع في الشقيقة سوريا نحو الاسوأ، نتيجة انعدام الأفق السياسي ونتيجة السعي لتغيير معادلات الوضع في سوريا وفي المنطقة عموماً بوسائط التفتيت والصراعات الدينية والمذهبية والإتنية...
أما الرقابة الشعبية خارج استقطابي الصراع ومرجعياتهما في الخارج، فشبه معدومة. لا بل إنّ أحزاباً عريقة عُقدت عليها آمال التغيير وتقديم البدائل الإنقاذية، تنحدر بعض ممارسات قيادييها إلى ما يشابه أساليب القوى التقليدية وسقطاتها! ألم يجر أخيراً في أحد الاحزاب العريقة، في نشوئه وفي دعوته الى التغيير، الاعتداء على الهيئة القضائية من قبل الهيئة التنفيذية؟! ألم تُستخدم اساليب الفصل والافتراء وعدم احترام قواعد العمل والهيئات والنظام الداخلي؟!
الأزمة عامة: إنّها أزمة القديم و«الجديد» في آن واحد!
* كاتب وسياسي لبناني