رغم أنه من المبكر الحكم على الربيع العربي، الذي لم يتجاوز عمره السنتين، ومحاولة معرفة إن كان هذا الربيع قد حقق تقدماً على النظم التي جرى إسقاطها أم لا، إلا أن ثمة مؤشرات برزت حتى اللحظة، تجعلنا نرى أن الأمر ممكن، وإن بحده الأدنى. يبدو واضحاً جداً أنّ ثمة تبايناً بين ما حققه الربيع العربي على صعيدي الداخل والخارج. فعلى الصعيد الداخلي، لا شك أن السيرورة فتحت وحُقّق تقدم ملحوظ باتجاه كسر احتكار السلطة لمصلحة تداولها، التي يستحيل بعد اليوم أن تكون من نصيب حزب واحد إلا من خلال صناديق الاقتراع، فثمة انتخابات حرة جرت، ومراحل انتقالية هي في طور الاستمرار، دون أن يعني الأمر أنّ النتائج مضمونة، فصناديق الاقتراع لا تختصر الديموقراطية، وتلك الأخيرة لا تعني شيئاً دون تحقيق نمو سياسي/ اقتصادي يحقق مطالب الطبقات المفقرة اقتصادياً، والشعب الذي يتطلع إلى إعادة إحياء الحياة السياسية، وإلى المشاركة الفعالة في صناعة القرار، لكن هنا لدينا خطر الأحزاب الإسلامية التي تسلّمت السلطة، لأنّها أحزاب شمولية البنية والتفكير، وقد تعمل على إعادة فرض الاستبداد وفق صيغ معينة، لكن يبقى أمر نجاحها أو فشلها مرهوناً، بمدى قدرة الإسلاميين على تجاوز إرثهم الشمولي، وهو ما تقف تجربتهم ضده حتى اللحظة، أو بقدرة التيارات الأخرى على ممارسة حقوقها الديموقراطية والدفاع عنها بوجه الإسلاميين، أو أيّة قوة تسعى إلى الهيمنة على الحياة السياسية. بمعنى أنّه يجب استمرار الثورة بوسائل أخرى، عبر العمل على البنى التحتية الاجتماعية، وإعادة تفعيل الحياة السياسية، وترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان على مستوى الوعي الشعبي، لا على صعيد مؤسسات الدولة فحسب، لمنع الإسلاميين أو أية إيديولوجيا أخرى من تبرير العسف باسمها. وهنا يمكن تسجيل إيجابية تتمثل في انخراط الإسلاميين في الدولة والحكم، إذ رغم الخطر الذي يمثّله هؤلاء، ورغم التهويل من عملية تسلّمهم السلطة، إلا أن تلك الأخيرة بالضرورة ستغيّرهم، وتعيدهم إلى التعامل مع الواقع كما هو، أي إن تسلّمهم السلطة هذا سينزلهم من فضاء الأسطورة إلى أرض الواقع، وسيسهم في عقلنة خطابهم، وهو أمر بدأ يظهر فعلياً في تصرفات الإخوان، وخاصة السلفيين منهم، الذين كانوا يرفضون الانتخابات من أساسها، فأضحوا أول المشاركين فيها!على الصعيد الخارجي، يمكن القول إنّه حتى اللحظة لم يحصل أي تقدم يذكر، لا على صعيد الحضور الإقليمي/ الدولي لأي من بلدان الربيع العربي، ولا على صعيد التخلص من إرث الاستبداد في مجال السياسات الخارجية وتبعية مؤسسات الأمن والجيش للخارج، أي تلك العلاقات التي كانت تقف ضد إرادة الشعب في الداخل، وخاصة المنعكسة في الأداء الاقتصادي داخلاً وسلبياً على القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل خارجاً، إضافة إلى اندراج المؤسسات الأمنية في سياق محاربة الإرهاب على الطريقة الأميركية، إذ نجد أنّ أولوية السلطات التي حكمت بعد الاستبداد تركزت على تحقيق النجاح اقتصادياً من أبوابه السهلة، أي الاتجاه نحو المساعدات الخارجية والاقتراض، بعيداً عن السعي إلى ترسيخ أسس اقتصادية، تكون منطلقاً لبناء اقتصاد عصري يؤسس لسياسة مستقلة. وإذا عرفنا أنّ الأمرين (مساعدات ــ اقتراض) مرتبطان برهن القرار السياسي ومصادرته، وتحقيق أجندة الغرب أمنياً، فسنجد أنّ الأمر انعكس بوضوح في الموقف من إسرائيل والاتفاقات الموقعة معها، وهو ما ينعكس فشلاً ذريعاً على هذا الصعيد.
في تأمل دائرتي الداخل والخارج السابقتي الذكر، سنجد أنّهما مرتبطتان بالعامل الاقتصادي، الذي يستغله الخارج لإدارة السلطة داخلاً، وسياستها خارجاً، مع وجود عنصر فعال واحد فقط أعيد إلى الشعب وهو تداول السلطة وفتح الحياة السياسية، الأمر الذي يعطينا مؤشراً حول وعورة الطريق التي تنتظر هذه البلدان، فالثورة الآن بدأت، وأكبر خطر يتمثل في التوهم بأنّ الثورة حققت أهدافها، لأنّه الطريق الأوحد نحو إعادة الدكتاتورية، وإن بطرق ناعمة، قد تكون الديموقراطية المفرغة من وعيها والمختزلة بمجرد صناديق اقتراع إحداها.
على صعيد آخر، فإنّ تأمل دور الخارج في إدارة الداخل عن طريق الاقتصاد والمساعدات والعلاقة الاستخبارية السرية مع الجيش والمؤسسات الأمنية، قد يمثّل مفتاحاً لسر «السهولة» التي جرى بها تغيير نظم خلال أشهر، و«على نحو سلمي»، فيما كان «الحل العسكري» هو السبيل لتغيير نظم كانت خارج المنظومة الأميركية بالمعنى الأمني المباشر، ولهذا حديث آخر.
* شاعر وكاتب سوري