جان فهد: القضاء قضيّتنا
كيف كان للقضاء أن يُبرّد النفوس، فيداوي قلوبَ المهدورةِ حقوقهم وكراماتهم وحرماتهم وحريّاتهم ودمائهم، في ما لو بقي سفينةً بلا ربّان، من خارجه «أمواج بحر هائج» تتقاذفه، وتُمعن في هيكله تلويثاً وهتكاً وهدماً وتشويهاً، وفي باطنه تراخٍ و«خربطات» فاض كيلُها حتى بلغ «ظاهر الكوب والصفحة».
لم يكن الأعلى درجةً في السلّم القضائي من بين المرشحين لتولي الدفّة، ولكنك لن تجد من يُنكر أنه نعمةٌ تيسّرت، أو أنه قاضٍ «حتى العظم»، علماً ومراساً ومناقبيةً وإحاطةً بشؤون «العدلية» وإلماماً بما يستدعيه واقعها، أو أنه لا يقلّ شأناً أو ينقص قدرةً، أو أنه من أكثر الممتعضين من حال التراخي، أو أنه من «شيوخ» الصالحين في هذا الزمنٍ الأغبر الذي بلغ فيه «السيل الزبى»، أو أنه، وبالتالي، خير من يتسلم الزمام صادقاً مُصرّاً عاقد العزم ثابت الخطى، فيكسر حال المراوحة التي كادت توحي بأن الأمر يتجاوز حدّ العجز والتسليم إلى درْك القبول والرضى، أو أن وجهته هي برّ الخلاص، وأمله وإيمانه ورجاؤه أن يحلّ الشفاء في دار القضاء.
«القضاء قضيتنا» عبارةٌ لطالما نطق بها بعد أن كان قد اعتمدها منهجاً صادقاً وفلسفة حياة. ديدنه المطالبة برفعة القضاء مع اقتناعٍ راسخٍ بأن الرفعة تُكتسب ولا تُمنح، وأنها لخدمة الناس لا «للتريّس» على الناس، وأن تطهير الذات هو أول مفترضات اكتسابها، وأن الولاية، على طول مدتها، لا تغيّر شيئاً في واقع كون المسؤول مجرد مؤتمن وعابرٍ.
القضاء بالنسبة إليه خدمةٌ ورهنٌ للعمر وقضية ومسؤولية وشرف لا يرتبط بمنصب، وهو يدرك أن للمنصب فروضاً وأحكاماً، ويستدعي في ما يستدعي قلباً محباً مخلصاً حريصاً، ولكن في الآن عينه قوياً لا يهاب أو يجزع ولا يخاف لومة لائم. جاهزٌ هو على الدوام لأن يضرب منعاً للميوعة، ولأن يصلب من يستحق الصلب، لا انتقاماً، ولكن درءاً للمفاسد وحرصاً على الأمانة وعلى مصالح الناس وعلى هيبة الهيكل وكرامة الأشراف من القضاة العاملين والمتقاعدين الأحياء والشهداء.
طريقه جلجلة وحِمله جلل، وثقل الحمل يزداد بازدياد الوعي إلى جسامة المسؤوليات والعريض من الانتظارات، لكن «الإيمان ينقل الجبال» و«لله رجالٌ إذا أرادوا أراد»، أمّا الرجاء فلن يخيب وإنَّ غداً لناظره قريب.
محمد وسام المرتضى