تمضي الثورة في تونس في طريقها من إنجاز إلى آخر. وتفرّ العوائق هاربة أمام حركة الشعب الموحّد المدنيّة السلميّة. ينهار الحاجز تلو الآخر لمسمع خطوات الثورة وهي تتقدم. لقد انتقلت الثورة المجيدة بالبلد من الزمن العادي إلى زمن آخر، كما تنتقل الأجسام إلى سرعة الضوء، فيتغيّر الزمن. تمر أحداث يفترض أن تمتد حتى يشيخ أثناء تغيّرها البشر، لكنّها لحظات في عمر التونسيين الذين يمضون الآن بسرعة الضوء. تتوالى الأحداث في تونس، ويتغيّر مفهوم الزمن. إنّه زمن الثورات.هرب الرئيس على عجل، مخلّفاً وراءه مبنى هرمياً مقلوباً. فالهرم في هذه الأنظمة يقف على رأسه. هرب الرأس، فتمايل الهرم مترنّحاً، ثم راح يتداعى. الأجهزة الأمنية كبيرة وعاتية، إنّها مؤلفة من 130 ألف رجل أمن ( 1.3 لكل 100 مواطن). كان يمكنها من دون شك أن تقمع وأن تتصدى دفاعاً عن النظام بـ«أنجع» مما فعلت. لكنّها فقدت توازنها، فهي من دون رأس لا تدرك حتى ذاتها. ينهار تماسكها الداخلي الذي كان يمر فيها كالعصب من الرأس. فجأة أصبح كلّ رجل أمن وحده، شعر بأنّه وحده أمام الحشود وارتبك، فبحث أولاً عن نجاته كفرد.
عيّن رئيس الحكومة (المسمى عند المغاربة الوزير الأول) نفسه رئيساً خلفاً لوليّ الأمر، الذي غادر لا يلوي على شيء. فاستمرت التظاهرات. بعد أقل من 24 ساعة عاد المجلس الدستوري وعيّنه رئيساً للوزراء في حكومة مؤقتة، تدير البلاد بعد الانتخابات. وعرفت البلدان العربية عن ظهر قلب البند 56 والبند 57 من الدستور والفرق بينهما. أصبح كلّ مواطن خبيراً قانونياً. واستمرت التظاهرات. فانسحب وزراء النقابات قبل عقد أول اجتماع (الاتحاد العام التونسي للشغل). واستمرت التظاهرات، فاستقال الوزير الأول وغيره من الوزراء من صفوف حزب التجمع الدستوري الحاكم. جرى كلّ هذا في أربعة أيام بين 14 (يوم خلع الرئيس) و19 يناير/ كانون الثاني، الفاتح في عقد الثورات المقبل.
واستمرت التظاهرات مطالبة باستقالة الحكومة أو بتغيير بنيتها كاملة، كي تغدو حكومة وحدة وطنية. ولا تزال التظاهرات مستمرة. لقد تفاوتت آراء الأحزاب بين مَن يعتبر هذه الحكومة إنجازاً، ومرحلة ضرورية، ومَن يرفض وجود ممثلي الحزب الحاكم فيها. وفي جميع الحالات، يجري النقاش بحضارية لافتة، من دون تخوين، ومن دون عنف.
بعد كلّ تراجع لبقايا المؤسسة الحاكمة، تتقدم الحركة الشعبية خطوة إلى الأمام. كلّ تراجع هو تقدم، كلّ تنازل تضطر إليه المؤسسة الحاكمة هو إنجاز للثورة. إنّ عدم اكتفاء الحركة الشعبية به، والتطلع إلى غيره لحظة تحقيقه، لا يعني أنّه ليس إنجازاً.
حين يخوض المجتمع نضالاً ضد قادة لا يقبل بهم، فإنّ أيّ تنازل يقدّمه هؤلاء لإرضاء الجماهير يُعدّ ضعفاً، ويشجع الناس والحركة الشعبية على المطالبة بالمزيد. ومهما قدم هؤلاء القادة غير المرغوب فيهم من تنازلات، فلن يرضى الناس بأقل من ذهابهم. أما حين يكون النظام مقبولاً فيمكنه إقناع الناس بالنزول عند مطالبهم، وأحياناً قليلة يمكنه إقناعهم حتى بعدم تمكّنه من تلبية مطالبهم... وطبعاً كل شيء بمقدار.

تجربة التحرر

حققت الثورة إنجازاً بعد آخر من دون قيادة مركزية. وبعد تردد انضمت الأحزاب السياسية للحركة الشعبية. جرى ذلك بوضوح فقط بعد مغادرة بن علي. لم تثق الأحزاب بدايةً بديمومة الثورة، فضلاً عن انتصارها. وقد كانت محكومة بعقلية السياسة الحزبية اليومية في فترة الجَزْر، وتعتبر كلّ إنجاز كافياً. فهي تأبى التعوّد على إيقاع الثورات. لكنّ الحركة الشعبية تتجاوز الإنجاز، وتنتقل إلى آخر. وظلّت على ذلك إلى أن قرّرت الأحزاب السير على إيقاع الشارع، وكان عديد من نشطائها في الشارع أصلاً.
رغم غياب مؤسسات الأحزاب عن الاحتجاج، يمكن ملاحظة أنّه لم تبق سنوات العمل الحزبي الطويل وعمل اتحاد النقابات المعروف باسم «الاتحاد العام للشغل ومنظمات حقوق الإنسان»، دون أثر على الجملة السياسية التي ينطق بها المواطن التونسي. ويكشف خطاب الاحتجاج وممارسته عن تجربة متراكمة، ومخزون نضالي، وذاكرة كامنة وفاعلة في النفس، يعيها الإنسان أو لا يعيها، لكنّها فاعلة في التمييز بين ما يجوز وما لا يجوز، وفي رفض الظلم، وفي السلوك واللغة المسيّسة.
في هذه الأثناء، صدر عن الحكومة المؤقتة في جلسة واحدة من القرارات ما يحتاج إلى عهود في بعض الدول. وتحررت وحدات مجتمعية كاملة، بشكل يذكّر بالثورات الكبرى (ومنها ثورة تونس التي سوف يتذكرها الناس كثورة كبرى). في كل زاوية وحيّ وناحية ومؤسسة، نشبت ثورة. قامت اللجان الشعبية لحماية الأحياء. تمرد الصحافيون وطردوا الإدارات في العديد من وسائل الإعلام وقرروا أن يديروها بأنفسهم. أصبح الإعلام التونسي فضاء الحوار المدني العقلاني الحيوي الذي لا يهدأ. إنّه الحوار الجاري بين مواطنين، وفعاليات، ونُخَب حول ماضي تونس ومستقبلها وحول مطالب الثورة. لم تعد التعددية مقتصرة على الفضائيات. ومَن يشاهد القنوات التلفزيونية التونسية، في هذه الأيام، يرى بأمّ العين مجتمعاً مدنياً وفضاءً عاماً في حالة تواصل وحوار عقلاني بين المواطنين.
رغم طول المدة وانضمام فئات واسعة من الجمهور، لم يتولّد عنف فوضوي أو انتقامي، ولا حتى على هوامش الحركة. وظلت الحركة الشعبية منضبطة بل ازدادت تنظيماً. وتم تجاوز حالات العنف القليلة إلى تنظيم وانضباط على درجة أرقى.
تحسم الثورة مسألة السلطة. وقد حسمت الثورة التونسية مصير النظام. يجب أن يغادر النظام الحاكم بأسره، لا تكفي مغادرة الرئيس.
يجب منع الحزب الحاكم من العودة إلى تسيير البلاد بوسائل أخرى. هنالك فرق بين منع الحزب الحاكم من العودة إلى السيطرة بوسائل أخرى وبين الاجتثاث. لا يقود الاجتثاث إلى الديموقراطية تماماً كما لم يقد إليها في العراق. الاجتثاث هو نفي لملايين من أبناء الشعب ممّن انتسبوا إلى الحزب والشرطة والجيش في ظروف أخرى، لكنّهم ليسوا كلّهم مجرمين. المجرمون فقط يجب أن يحاكموا. ويجب أن يحاكموا بموجب القانون والأدلة، لا بموجب الشائعات.
لا يجوز الانتقال من العجز الكامل أمام الاستبداد إلى الاستقواء الكامل والشامل عند التمكُّن، فمثل هذا الاستقواء يمثّل مزاجاً لنوع جديد من الاستبداد الذي قد يسقط نتيجته الأبرياء. وبعدما حسمت مسألة النظام القائم، يجب تحديد طبيعة النظام القادم. يتطلب ذلك مرحلة انتقالية.
لا تتسم المرحلة الانتقالية بالوضوح. فهي ليست انتقالاً من الأسود إلى الأبيض، لكن وجهة التطور واضحة. يضعف نفوذ النُخَب القديمة وتتقدم نُخَب جديدة. ويفتح مجال واسع للانتهازيين. لا مساومة في حسم نهاية نظام الاستبداد السابق، ولكن يدور صراع وتفاوض واتفاقيات بين القوى المختلفة على طبيعة النظام القادم.
الأمر الرئيسي هو إشراك القوى السياسية الرئيسية، تلك التي كانت محظورة وتلك التي كانت قانونية. والمطلوب هو الإجماع على قواعد اللعبة القادمة بين أولئك المختلفين على أمور كثيرة أخرى. مَن يسمح له بدخول التنافس الانتخابي الحكم... إلخ، هو مَن يوافق على قواعده وأسسه. من أجل ذلك يلزم دستور جديد، وربما جمعية تأسيسية جديدة.
يجب أن يكون واضحاً أنّ الثورة هي من أجل التحرر والديموقراطية، وهذا يعني أنّ أيّ حزب يرغب في المشاركة كتيار رئيسي، يجب أن يعترف بهذه الأهداف. والتحرر يشمل الحقوق المدنية المكتسبة للرجل والمرأة. ولا يجوز التفريط بهذه الحقوق أو طرح علامة استفهام عليها تحت شعارات إيديولوجية. لن يقبل الشعب في تونس أن تعيده إيديولوجية أيّ حزب إلى الوراء، وسيكون على جميع الأحزاب النظر جيداً في وجوه المتظاهرين ودراسة ما جرى. سوف يرون مواطنين من كل الاتجاهات والطبقات. لم يخرجوا من أجل إيصال حزب بإيديولوجيته إلى الحكم، بل خرجوا من أجل الحرية والكرامة والحقوق الاجتماعية والحقوق المدنية. وسوف يكون على كل الأحزاب أن تعدِّل نفسها لتقبل بهذه المبادئ الديموقراطية، إذا رغبت في أن تشارك في إدارة البلاد والتناوب على السلطة.
الكلمة المفتاح هي المسؤولية في الحفاظ على منجزات الثورة وقيادتها عبر المخاطر الداخلية والخارجية. ليس من مصلحة الثورة أن تسوء علاقاتها مع دول الجوار العربية وغير العربية. وحتى لو سُمعت تصريحات غير مقبولة من هذا الزعيم العربي أو ذاك، فإنّ مصلحة الثورة حالياً هي عدم توتير العلاقات مع أحد، لأنّ الحفاظ على منجزات الثورة والوصول بها إلى التحول الديموقراطي الآمن يتطلب أن لا تتعرض إلى هزات من الخارج على المستوى الأمني والاستثماري.

الإعلام الجديد

في ظروف احتكار الحقيقة والسيطرة الكاملة على وسائل الإعلام من قبل الاستبداد، ساهمت الفضائيات العربية كما ساهم الإعلام الاجتماعي في نشر النقد والاحتجاج والشعور بعدم الرضى. وتتميز وسائل الإعلام الاجتماعية بأنّها فعالة لا يقتصر فيها المشارك على التلقي. كما أنّها تحمل طابعاً «نادوياً» أو «منتدوياً» (من نادٍ ومنتدى)، تنشأ فيه مجموعات تضامن، وجماعات متجانسة، أو مختلفة المشارب، وصداقات متنوعة، وتتطور استخدامات جديدة للغة، الأمر الذي يُشعِر المستخدِم بالانتماء إلى جماعة يسود فيها تعريف خاص بها للمصطلحات والمفاهيم، وما هو مقبول وغير مقبول. ولا شك أنّ هذا المجتمع الشبابي هو الذي قدم نفسه كعالَم قيمي وكمحفِّز جماعي في ظل أزمة الأحزاب في ظل الدكتاتورية، وفي ظروف كبت الإعلام. لقد حلّت المنتديات هذه، كما حلّ توحيد استخدام تعابير خاصة والاصطلاح عليها باللغة الدارجة والفصحى محل الزي الرسمي لحركات الشباب. وحلَّ الحوار الذي ينتج مسلّمات وموافقات حول الذوق والحس بالظلم والقبح والعدل والجمال محل التعبئة الإيديولوجية.
هذا مهم، ومهم جداً. ولا يقل أهمية أن نمتنع عن أسطرته. فالإعلام الجديد هو جزء من الواقع الجديد الذي يجري فيه العمل السياسي. وهو يفعل فعل النار في الهشيم عند أجيال كاملة. وهو يتغلب على الحَجْر الإعلامي لبلاد بأكملها. ولكن لو جلس الجميع وراقب الحاسوب أو شارك في الشبكات الاجتماعية لما نشبت تظاهرات احتجاجية. إنّها وسائل اتصال، وسائل في إنتاج الوعي وفي إنتاج الجماعة الاحتجاجية. ولكن مجرد المشاركة فيها ليس فعلاً ثورياً، ولا فعل احتجاج، ولا يسقِط نظاماً.
لقد عمّمت شبكات الإنترنت صورة البوعزيزي وهو يحترق، كما عمّمت صور الغضب والاحتجاج من سيدي بوزيد. ثم حصل التعاضد. رأى أهالي كل منطقة احتجاج المناطق الأخرى وصمودها في زمن حقيقي، فشعروا بأنّهم ليسوا وحدهم بل جزء من شعب عظيم يتحرك. وهكذا نشأ «الزمن الوطني المتجانس». ويمنح الشعور بالانتماء إلى حركة شعبية عظيمة صاحبه من الشجاعة والإقدام ما يحرك الجبال. يمر الشعب التونسي بتجربة عظيمة اسمها التحرّر. وهي تجربة يتسامى فيها الناس فوق ضيق الأفق والمصلحة الشخصية، وحتى فوق الجريمة. إنّها لحظة اكتظاظ الحيّز العام بالمواطنين، لحظة التسييس الشامل، وشعور كل فرد بأنّه مسؤول كمواطن، إنها لحظة المواطنة في تونس، التي قد تغدو دولة المواطنين العربية الأولى. وامتدت جسور «المواطنية» والمشاعر الوطنية إلى رجالات الجيش والشرطة.

تونسة العرب

وفيما يستكثر البعض على العرب أن تكون لديهم ثورة ديموقراطية شعبية فيشددون على فرادتها وعدم تكرارها، وفيما يعزو البعض خصوصيتها إلى قربها من أوروبا، تتصاعد الهتافات من تونس باللغة العربية. ونكتشف فيها أثراً من هتافات الفلسطينيين، ومن هتافات تظاهرات التضامن مع العراق. ويكتشف العالم جملة سياسية عربية متماسكة لدى المثقفين والنشطاء التوانسة الذين يملأون الشاشات. ويتكلم الناس عموماً لغة سياسية عربية مثقفة، وتبدو عليهم آثار عهود من المعارضة والتسييس. ولا يبدو عليهم أثر تناقض بين الخصوصية التونسية والقضايا العربية.
هؤلاء الذين يخيّروننا بين القضية المحلية والهوية العربية، هم أيضاً مَن خيّرنا بين استمرار الاستبداد وقبول التدخل الأجنبي لفرض الديموقراطية، وقد فشلوا فشلاً ذريعاً. في تونس ديموقراطية شعبية من دون تدخل أجنبي. وقطعت الثورة الشعبية قول كل خطيب.
إن الذي صنع شعاراً مجرداً عن قضية عربية عامة وحاول فرضها على خصوصية الأقطار من دون أن يربطها بقضايا هذه الأقطار لم يصنع ثورة. وكذلك لم يصنع ثورة أولئك الذين وجدوا تناقضاً بين الاهتمام بقضايا البلد وعروبته، بل صنعها ناس يريدون التخلّص من الطغيان، ويؤكدون انتماءهم أيضاً إلى القضايا العربية، ويهتفون ضد السياسة الغربية وفقدان السيادة الوطنية.
وتأثر العرب بالثورة كأنّها ثورتهم، وتساءلوا جميعاً متى سيحل التحوّل في بلادنا؟ واشتدت الرغبة إلى درجة أن يحرق مواطنون عرب في دول عديدة أنفسهم احتجاجاً. وفي ما عدا دلالتها العميقة على الحاجة الملحّة إلى التغيير عربياً وعلى تأثر العرب وجدانياً بما يجري في أي بلد عربي، فإنّ الظاهرة تدل على أنّ الإعلام عمّم فهماً خاطئاً وساذجاً أنّ سبب الثورة هو إحراق شاب لنفسه. للثورة ألف سبب، لكن إحراق شاب لنفسه ليس أحدها. كان يمكن أن يشعل الثورة عامل مباشر آخر. وحيث لم تنضج الظروف لها، لا يكفي لإطلاقها شبان عدّة يحرقون أنفسهم. كان يمكن أن يبقى محمد بوعزيزي شاباً مجهولاً أحرق نفسه لو لم تنشب انتفاضة سيدي بوزيد. وحتى انتفاضة سيدي بوزيد كان يمكن أن تبقى انتفاضة في ناحية اشتعلت وهدأت أو احتواها النظام بمطالب. وكان يمكن أن تبقى انتفاضة خبز مطلبية يلتفّ عليها النظام بتلبية بعض مطالبها، أو بقمعها أو غير ذلك. لكن المجتمع كان جاهزاً للثورة، والجيش لم يكن جاهزاً لإطلاق النار عليها. الثورة الممتدة هي التي حوّلت انتفاضة في ناحية إلى ثورة شعبية لها مطالب سياسية. وليس إحراق شاب لنفسه، ولا انتفاضة الخبز هي سببها، بل لها ألف سبب وسبب في العلاقة بين الدولة والمجتمع، أنضجت الظروف للثورة. وسوف تعلن عن نفسها في دول عربية أخرى بأشكال أخرى، وربما تعوقها هنالك عوائق، غير قائمة في الحالة التونسية. لكن الظرف العام قائم وكذلك الرغبة العربية العامة بالتغيير، ولا بد أن يتفاعل البعدان ليتخذ التغيير الثوري فيها أشكالاً وألواناً لا تخطر حالياً على بال أحد، لكنّها قادمة. فالعقد القادم هو عقد التونسة، تونسة العرب.

* مفكر عربي