في الوقت الذي يولج فيه العالم العربي في حقبة جديدة لم تتحدّد معالمها بعد، وفي زمن تسوده حالة ذعر وقلق في أوساط الصهيونيّة العالميّة جرّاء قلب النظام المصري، تطلع علينا حركة آل الحريري بمهرجان سنوي مُجترّ ومُكرّر (يذكّر بمؤتمرات حزب حسني مبارك الحاكم). لو أنّ أموال الحريري (وأموال آل سعود الداعمة) تنضب، لوصلت الحقيقة ناصعة إلى تلك السلالة الطامعة. لو أنّ هناك من يصارح شيوخ الحريريّة بأننا ضقنا ذرعاً بمهرجانهم السنويّ، وبالطقوس شبه الدينيّة التي تصاحب زيارات دوريّة للضريح البشع المزروع في قلب العاصمة، لكانوا خفّفوا من فظاظة الدعاية السياسيّة. هم يحبّون الحياة ــ يقولون ــ ويقتاتون على ست سنوات مستمرّة من النحيب والعويل والبكاء والرثاء.
ست سنوات من الاستغلال الرخيص لموت وكيل للنظام السعودي في لبنان. لو أنّ هناك من يصارح آل الحريري لقال لهم (ولهنّ) إنّ هناك من الشعب اللبناني من لم يشعر بالأسى لموت رفيق الحريري ــ هذه هي الحقيقة وآن أوان إعلانها مع أنّ أبرياء قضوا في التفجير المروّع. هناك منّا من يريد تحرير «عيد الحب» (وهو مناسبة تجاريّة) من العويل الحريري السنوي الذي ضيّق لنا فسحة فرح وحبور. هناك من شك (كاذباً) أنّ السيئ الذكر، الحريري، كان ضالعاً في مؤامرة إسرائيليّة بعنوان القرار 1559، وزال الشك بيقين اعتراف سعد الحريري في تسريبات محطة «الجديد». تأبى عائلة الحريري إلا أن تجعل من أفراح اللبنانيّين واللبنانيّات وأعيادهم مناسبات للشكوى والأنين والعزاء. قل هم يعيشون على العزاء والرثاء والتفجّع. لا زاد لهم غير ذلك.
هذه السنة، طلعت شلّة 14 آذار بأطروحة جديدة. أوهموا أنفسهم (من غير أن يصدّقوا أنفسهم) أنّ «ثورة (حرّاس) الأرز» هي التي ألهمت الثورات في العالم العربي وفي إيران ــ حسب قول مروان حمادة، هذا الذي جال على عواصم غربيّة، عارضاً خريطة لشبكة اتصالات مقاومة إسرائيل، لعلّ وعسى هناك من يرى ويسمع (خارج إسرائيل، طبعاً لأن 14 آذار ترى ــ إذا سُئلت ــ أن إسرائيل هي عدوّ. أما كون أصدقاء إسرائيل هم أصدقاء 14 آذار، وكون أعداء إسرائيل هم أعداء 14 آذار فهذه صدفة من الصدف). يريد مروان حمادة أن يصدّق أنّ تحالفه مع تيري رود لارسن وجيفري فيلتمان يمثّل تطلّعات الشعب العربي (دون أن ننسى مدائح حمادة هذا للنظام السوري عبر العقود ــ لا السنوات). يبدو أنّ انتفاضات العالم العربي تحرج هذه المجموعة الطائفيّة المتنافرة. سقوط زين العابدين بن علي، وبعده مبارك، مثّل إحراجاً لحركة هي جزء من المنظومة العربيّة الرسميّة التي تخضع للسيطرة السعوديّة المطلقة. الارتباك كان سمة الموسم. نسوا أننا نذكر أنّ واحداً من آخر زوّار حسني مبارك كان أمين الجميّل الذي عاد بتطمين أنّ مبارك «يؤيّد الديموقراطيّة في لبنان». في مفهوم 14 آذار، يصبح مبارك حجّة في الديموقراطيّة، ويصبح آل سعود حجّة في العروبة، ويصبح جون بولتون نصير الحق العربي. عقاب صقر، الذي لم تكن السنة الماضية رحيمة معه لكثرة ما فشل في إثبات اتهاماته ومزاعمه في مؤتمرات صحافيّة لا تنتهي، طلع بفكرة مُبتكرة: أن سقوط حسني مبارك هو إحراج لـ8 آذار، لا لـ14 آذار، مع أن الطاغية كان راعياً أساسياً لفريق عقاب صقر. حجّة صقر أن سقوط نظام الحزب الواحد يضرّ بفريق الممانعة، لا بفريق الحريري. قد يكون كلام صقر صائباً: ربما عنى أنّ سقوط الطاغية مُبارك لا يضرّ الفريق المُتحالف مع أنظمة في السعوديّة والإمارات والبحرين وعمان ـــــ وهي أنظمة لا تعترف بالأحزاب أصلاً. لعلّ الأمير الذي دعا صقر إلى الرقص في مهرجان «الجنادريّة» الأخير هو أيضاً مُلهم للديموقراطيّة في طول العالم العربي وعرضه. صقر عاد من الجنادريّة مُعجباً بتعدّد الأحزاب في السعوديّة، فجنح ديموقراطيّاً.
ولكن تتوقّع الكثير من هذه الحركة التي ابتُلي بها الشعب اللبناني والسوري والفلسطيني (يخطئ من يظن أو تظن أنّ تآمر رفيق الحريري وورثته السياسيّين كان محصوراً بمسخ الوطن فقط). وليد جنبلاط أفرغ رصاص أمشاط عدّة من مسدّسه في الهواء احتفاءً بسقوط مبارك. ولكن هل نسي الشعب في لبنان زيارات جنبلاط إلى مصر وثناءه على مبارك وعلى «محور الاعتدال»، كما كان يسمّيه؟ مسكين وليد جنبلاط: سيقضي عمراً يفتقر فيه إلى ثقة إحد به. لا اليمين يثق به ولا اليسار: لا 8 آذار ستثق به ولا 14 آذار. لكن أن تظهر جيزيل خوري (التي لا تزال تروّج كذبة أنّ «نيويورك تايمز» أعطتها جائزة أفضل إعلاميّة في العالم العربي ــ الخبر، مثل الجائزة، مُختلق من أساسه على يد من يحاول أن يعوّض عن خدمات دعائيّة لآل سعود وحلفائه في المنطقة العربيّة) وأن تتبنّى وتعظ الانتفاضة المصريّة، فهذا أكثر من قدرة المرء على التحمّل. جيزيل خوري؟ التي سخّرت برنامجها «استديو آل سعود» في محطّة الأمير عزّوز وبرامج سابقة لها من أجل الترويج لحسني مبارك ونظامه ولأحمد أبو الغيط وسياسات مصر المُوالية لإسرائيل؟ إن علاقة جيزيل خوري وما تمثّل من ترويج لنظام مبارك هو مثل علاقة محمّد دحلان ــ ضيفها الفلسطيني المفضّل ــ بالمقاومة. أو قل (وقولي) هو مثل علاقة محمّد عبد الحميد بيضون بالنزاهة والصدقيّة، أو مثل علاقة المفتي قبّاني بتدقيق الحسابات، مثلاً.
أما فؤاد السنيورة، فهو اليتيم الأوّل لسقوط حسني مبارك. لا شك في ذلك. صحيح ــ على ما تذكر الصحف ــ أن حكومة حسني مبارك واستخباراته كانت ناشطة جداً في الساحة اللبنانيّة. الوزير أحمد أبو الغيط (الذي أمر البعثات الدبلوماسيّة المصريّة حول العالم بالتجسّس على الجاليات المصريّة أثناء الانتفاضة المصريّة، كما ذكرت صحيفة «الشروق») تماهى في تصريحاته مع الحركة الحريريّة وبات يتحدّث عن حقوق «أهل السنّة» في لبنان، مع أنّ سنواته في الحكم أظهرت هوساً بمصالح أهل الصهيونيّة في الشرق الأوسط. كما أنّ التهويل بالخطر الإيراني كان همّاً مشتركاً بين فريقيْن يناصبان العداء لكل أشكال المقاومة ضد إسرائيل. السنيورة كان من المارّين المداومين على الحكومة المصريّة يتزوّد ــ مثله مثل سعد الحريري ــ بنصائح وإرشادات وأوامر من الطاغية مُبارك. لماذا يفترض فريق الحريري أنّ الأرشيف قد أتلف لمصلحتهم؟ (مثل أرشيف جريدة «الشرق الأوسط» الذي زال منه في أسبوع مديح سابق لنظام مبارك من رئيس تحرير الجريدة الذي لم يكتب مدائح عن شخص ــ خارج آل سعود ــ مثلما كتب عن مبارك). السنيورة طلع في موقعه الخاص على الإنترنت ــ وهو موقع يمثّل مفخرة لـ«أهل السنّة» (والعبارة باتت عنواناً للداعين إلى الدولة المدنيّة في لبنان) ببيان خاص يرثي فيه طغيان حكم حسني مبارك.
والطريف أن السنيورة هذا نوّه بنضال حسني مبارك ضد إسرائيل (أي قبل نحو أربعين سنة، وطلع بنظريّة أن عبور القناة كان من إنجاز حسني وجمال مبارك معاً). هنا الطرفة: يريد السنيورة الذي كان متحالفاً مع حليف نتنياهو الوثيق أن يرى أنّ حليفه الطاغية المصري يشاركه العداء لإسرائيل، مع أن العداء لإسرائيل لم يبدر عن السنيورة منذ نحو أربعين سنة، أو أكثر بقليل أو كثير. لكن، لماذا اختار السنيورة أن يغوص في الماضي ليذكر أمجاد مبارك، وقد سها عن عقود من التحالف بين مبارك والعدوان الإسرائيلي، وخصوصاً في عدوان غزة؟ غير أنّ السنيورة كان على الأقل أكثر صدقاً من الباقين في 14 آذار الذين كادوا أن يجعلوا من مبارك راعياً لفريق 8 آذار. غير أننا نسأل السنيورة: هل كانت حرب أكتوبر 1973 هي سبب حلفك مع مبارك؟ أم هناك ما طرأ بعد عقود من تلك الحرب؟
انتفاضة مصر كانت صريحة في عزوها شرارتها الأولى إلى جهود الأبطال في تونس. أي أنّ الشباب في مصر هم أدرى بشعابهم (وشعابهنّ). محمد البوعزيزي هو المُلهم الحقيقي لثورة تونس ومصر (إضافة إلى خالد سعيد)، لا سعد أو نادر أو أحمد الحريري، والسيئ الذكر، رفيق الحريري لا يعني شيئاً لمن لم يقبض منه أو من أولاده مالاً أو صندوقاً من «المونة» الموسميّة. ورموز الانتفاضتيْن هم غير رموز انتفاضة آل الحريري. وهناك ما هو أبلغ. لم تُلهم حركة آل الحريري أحداً خارج بلاط قريطم وبلاط آل سعود وبلاط آل نهيان وبلاط جمال مبارك المندثر. هل هناك في 14 آذار من اقتنع ــ دون تأثير المخدّرات أو الكحول ــ بأن سمير جعجع ونصير الأسعد وأمين الجميّل وسولانج الجميّل ومحمّد كبّارة ألهموا بالفعل ولو للحظة أحداً في الشعب العربي؟
إن شعراء حركة 14 آذار الطائفيّة هم من أمثال يحيى جابر ويوسف بزّي ونديم قطيش، فيما ألهمت انتفاضتيْ مصر وتونس أشعار أبو القاسم الشابي (الذي قال: «كرهت القصور وقطّانها» ــ لماذا لا نذكر له إلا قصيدة واحدة؟) وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي. زخرت صفحات إعلام الحريري بقصائد و«ملاحم» ورسائل عاطفيّة عن رفيق الحريري، ولا يذكر أحدٌ منها كلمة واحدة. شعر تكسّب آل الحريري وآل سعود لم ينتج قصيدة واحدة ناجحة، إلا إذا عددنا كتاب منير الحافي عن «إنجازات» الملك السعودي في لبنان ملحمة شعريّة. صاغت الانتفاضة التونسيّة الشعار البسيط، لكن العميق: «الشعب يريد إسقاط النظام». وردّد هذا الشعار من بعده الشعب المصري في انتفاضته. أما في الحركة الحريريّة، فقد هتفت الجموع في مهرجان الـ«بيال»: بالروح، بالدم، نفديك يا سعد». والشعار المُفضّل لجمهور الحريري بات «دم السنّة عم يغلي غلي». شتّان بين الحركتيْن وشتّان بين شعارات الحركتيْن.
قامت حركة 14 آذار على أكتاف دنانير عائلتَي الحريري وسعود، فيما قامت الانتفاضتان في تونس ومصر على أكتاف سواعد الناس العاديّين الذين واللواتي تطوّعوا بمالهم الخاص من أجل إسناد الثورة. حركة 14 آذار كانت تنفق الأموال لجذب الناس إلى المهرجانات الطائفيّة المُتكرّرة، فيما تبرّع الشعب المصري بقوته وعرق جبينه لإنجاح هدف التحرّك الشعبي.
قامت الانتفاضة المصريّة في قلب ميدان التحرير: وقد كسب الميدان اسمه من شعارات مرحلة تبنّت هدف التحرير من الاستعمار ومن الاحتلالات الإسرائيليّة. كان لتمثال عبد المنعم رياض وقع خاص عند الجماهير في مصر. أما في حركة 14 آذار، فقد تبوأ زياد الحمصي موقعاً خاصاً وقام جمهور «المستقبل» بتظاهرات في البقاع لمناصرته. والخطة الدفاعيّة لـ14 آذار تتضمّن وضع كل إمكانات المقاومة في تصرّف غسان الجد (أصبح نهاد المشنوق فجأة من المطالبين بنزع سلاح المقاومة، هذا الذي كتب مدائح عنها بعد عدوان تمّوز، لكنّه مثل غيره يُمسي على موقف، ويصبح على آخر، كل ذلك بأمر سعودي أو حريري ــ لا فرق).
عبد المنعم رياض: نموذج من التفاني والعطاء والمقاومة، فيما تمثّل حركة 14 آذار نبذاً لكل معاني المقاومة والتضحية (على العكس، يريد آل الحريري من اللبنانيّين واللبنانيّات أن يضحّوا لتراكم العائلة المزيد من الكنوز على ظهر شعب مسخ الوطن). عبد المنعم رياض كان من واضعي خطة تحرير الأراضي العربيّة المُحتلّة، فيما يلفّ فريق الحريري ويدور في مختلف الأصقاع والأنحاء لمنع أي مقاومة ضد إسرائيل. وهل هناك من يسأل السنيورة عن جدوى مقاومته «الدبلوماسيّة» التي هلّل لها وزمّر؟ وماذا فعلت دموعه التي قال عنها إنّها أقوى من صواريخ مقاومة إسرائيل؟
كانت الانتفاضتان المصريّة والتونسيّة مُوجّهتين ضد نموذجين من الطغاة الذين يحظون بدعم قويّ من الولايات المتحدة، فيما حظيت حركة 14 آذار بالرعاية نفسها التي كان يتمتّع بها الطغاة الذين ثار ويثور الشعب العربي عليهم. حركة 14 آذار كانت بنات أفكار جيفري فيلتمان وجون بولتون، فيما أحدثت انتفاضتا الشعبين التونسي والمصري هلعاً وذعراً في قلوب الإسرائيليّين. إسرائيل كانت راضية ومتحمّسة لانتفاضة 14 آذار، فيما عملت بجدّ لإفشال انتفاضة الشعب المصري. الـ«نيويورك تايمز» نشرت مقالة تفصيليّة ورد فيها أنّ الملك السعودي ونتنياهو كانا الحليفين الأقوى لحسني مبارك، وقد ضغطا بشدّة على إدارة أوباما لحماية نظامه حرصاً على أمن احتلال إسرائيل. قامت الانتفاضات في تونس وفي مصر على حكم العائلة وعلى فساد العائلة وعلى التوريث، لكن حركة 14 آذار، كما قال الرفيق خالد صاغيّة هذا الأسبوع، هي حكم العائلة إذ يتحدّث سعد الحريري عن مصر، فيما «يكون ابن عمّته الأوّل أميناً عاماً لحزبه، وابن عمّته الثاني مستشاره، وعمّته مرشّحة على لوائحه الانتخابيّة». حركة 14 آذار كوكتيل من سلالات حاكمة أو مُتزعّمة ويريدون أن نصدّق أنّ شعاراتهم تتواءم مع شعارات الشبيبة في تونس وفي مصر؟ وهل ارتباطات آل الحريري الخارجيّة في العالم العربي، مع ما يُسمّى معسكر الاعتدال، إلا مع سلالات حاكمة، فقدت 14 آذار منها عائلة مبارك وعائلة بن علي؟ من الغريب كيف أنّ الأمانة العامة لآل الحريري لم تصمت أمام الحدث التونسي والمصري لما فيهما من إحراج لهم (كما يمثّل القمع في إيران وفي سوريا إحراجاً لـ8 آذار).
انتفاضتا مصر وتونس جاءتا في أعقاب حركات عمّاليّة ناشطة (قدّر الخبير في شؤون مصر، الزميل جول بينن، أنّ نحو 200000 عامل مصري شاركوا عام 2007 فقط في إضرابات واحتجاجات). أما الحريريّة، فقد استعانت بيساريّين سابقين، مثل محمّد كشلي، من أجل تدجين الحركة العمّاليّة في لبنان (وساعدها في المهمّة حركة أمل والحزب القومي والنظام السوري).
انتفاضتا مصر وتونس اندلعتا باسم الجياع والمسحوقين والمعدمين، فيما قامت حركة 14 آذار باسم أصحاب المليارات والعقارات في لبنان وفي دول التلوّث النفطي التي ترعى آل الحريري في لبنان.
حتى السياسة الخارجيّة للانتفاضتيْن تتناقض كلياً مع سياسات محور حسني مبارك الذي ينتمي إليه فريق 14 آذار. الشعب التونسي لم يكد ينتهي من قلب نظام زين العابدين بن علي حتى هتف: «الشعب يريد تحرير فلسطين». كذلك انتفاضة مصر كانت واضحة ــ رغم تركيزها على أولويّات السياسات الداخليّة ــ في التنديد والهتاف ضد ارتباطات حسني مبارك بأميركا وإسرائيل. لا تستطيع حركة 14 آذار أن توفّق بين ارتباطها العضوي بحكومات الطغيان العربيّة التي تدور في فلك النظام السعودي ونظام حسني مبارك، وبين محاولتها تصنّع التبنّي لقضيّة الانتفاضات العربيّة.
طبعاً، الموضوع ليس محصوراً بـ14 آذار. هذا موسم اللحاق بانتفاضات الشعب العربي. الإعلام السعودي ناصر بهمّة وانحياز مفضوح نظام حسني مبارك، وحاول أن يروّج لنظريّة إعلام حسني مبارك أنّ انتفاضة مصر هي نتاج لمؤامرة من إسرائيل وحماس وأميركا وحزب الله. لكن إعلام السلالات الحاكمة هرع بعد سقوط مبارك كي يكسب بعض التعاطف مع الشعوب العربيّة التي واظب على خذلانها عبر السنوات والعقود. يسارعون إلى النفاق كأنّ الناس نسوا مواقفهم السابقة (هل ننسى كيف غطّت رندة أبو العزم في محطة الأمير «عزّوز» انتفاضة الشعب المصري، وكيف لاحقت المتظاهرين متهمة إيّاهم بإيواء «البلطجيّة»؟).
حركة 14 آذار مرتبطة بمال الحريري وبالتحريض المذهبي والطائفي الرخيص الذي لم يفارق صعود عائلة الحريري في لبنان، بالتناسق مع مخطّطات آل سعود. عرّى سقوط نظام مبارك النظام العربي الرسمي: تبيّن أنّ إسرائيل كانت ولا تزال عضواً سريّاً وأساسيّاً في الجامعة العربيّة. كان الملك السعودي ونتنياهو يتصلان يوميّاً بالرئيس الأميركي في محاولة للحفاظ على نظام مبارك، وقد يؤدّي ذلك إلى تقريب العلاقة (الوثيقة اليوم) بين دول الخليج ودولة العدوّ الإسرائيلي (استضافت قطر أخيراً فريقاً رياضياً إسرائيلياً في مباراة المبارزة بالسيف، وعلاقة الحكومات الخليجيّة بإسرائيل أكثر من وديّة وفق ما تسرّب من «ويكيليكس»). وآل الحريري أداة صغيرة، وصغيرة جدّاً، في محور دول النفط. كذلك كانت العلاقة بين إعلام الحريري ونظام بن علي وثيقة جداً، وكانت نشرة «المستقبل» تفرد مساحات واسعة لمقالات ترويجيّة عن محاسن نظام بن علي.
هناك بعض أوجه شبه بين 14 آذار والشريحة اليمينيّة في تحرّكات انتفاضة مصر ــ وهذه الشريحة اليمينيّة موجودة في كل حركة شعبيّة سياسيّة. هؤلاء الذين يؤكّدون للرجل الأبيض أنهم «حضاريّون» ــ كما فعل وائل غنيم في صحيفة أميركيّة، وهؤلاء الذين يرفعون شعارات بالإنكليزيّة لعل الرجل الأبيض يلحظها، هؤلاء إخوة لزمرة 14 آذار. لكن انتفاضتيْ مصر وتونس هما حركتان شعبيّتان استطاعتا أن تقلبا نظاميْن يتمتعان بدعم الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. انتفاضتا مصر وتونس تحدّتا الطغاة، وآل الحريري (ومن يلحقهم) نتاج لنظام الطغيان العربي. لكن النظام الطائفي في لبنان منع آل الحريري من فرض نظام طغيان، رغم محاولات الحريري الأب قمع حريّات التعبير. لكن إذا أرادت حركة 14 آذار أن تعزّي نفسها، فهي تستطيع أن تتعزّى بأنّ طغاة الخليج لا يزالون متربّعين على عروشهم. وهذا عزاء كبير في الأيام الصعبة التي فقد فيها فريق الحريري حبيبه حسني مبارك. لكن الحدث جلل. ابكِ يا سنيورة: سقط حسني مبارك، وقد تبكي غداً على سقوط حليف طاغية آخر.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)