«نحن لا نشحذ، بل نطالب بحقوقنا... كافي مآسي عوفوا الكراسي... لن نطالب بتغيير الحكومة نطالب بتغيير الشعب بتغيير الشعب الجوعان... نطالب بوزارة دولة لشؤون المزورين... نحتاج الكهرباء للاستمتاع بوعود الوزراء».هذه ليست شعارات مطلبية ترفع في مصر أو في تونس، بل هي تأتي اليوم من قلب العراق المحتل. لقد اجتاحت تظاهرات شعبية مدن العراق الرئيسية مطالبةً حكومة عملاء الاحتلال بتحسين مستوى المعيشة وتوفير الكهرباء والماء وفرص العمل وزيادة الأجور. يمكننا فهم كارثية الوضع المعيشي في العراق اليوم، حين نعلم أنّ مناطق واسعة من بغداد لا تحصل على أكثر من 4 ساعات من الكهرباء، فضلاً عن الانقطاع الكبير للمياه فيها.
لكن رغم كلّ ذلك، فقد أُقرّ عقد القمة العربية في 29 آذار المقبل في بغداد المحتلّة. ربما كان علينا تذكير الرؤساء والملوك العرب بأنّ عقد قمة عربية في عراق محتلّ لا يمكن أن يعد إلّا اعترافاً رسمياً من جانب الأنظمة العربية بشرعية كاذبة لحكم استعماري مباشر في العراق. لكن لا شرعية مبنية على دستور مطبوخ على أوزان طوائفية وعرقية استحدثها الاحتلال وعملاؤه أجبرت عراقيين، لا حول لهم ولا قوة، على مشاركة في انتخابات زُوّرت نتائجها في النهاية. الأمر ليس كما كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف منظراً من أريحيته الغربية في لندن في جريدة «القدس العربي» (8 شباط 2011، وأعادت «الأخبار» نشرها في 11 شباط 2011) بعنوان «من يعلّق الجرسَ في العراق؟»، معيّراً شعبه بأنّه «اقترع بكثافةٍ، ومرّتَينِ، لانتخاب هؤلاء الأوباش». نتساءل ماذا كان سيفعل شاعرنا لو كان يعيش في بغداد ولديه عائلة وهو يتعرّض للترغيب والترهيب من الميليشيات لانتخاب طرف معيّن من عملاء الاحتلال؟ ربما نسي سعدي يوسف أنّه لا شرعية لانتخابات تحت الاحتلال، وهو الذي لا يتذكّر الاحتلال إلا عندما ينزل الناس للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية، فيتساءل: «مَن يعلِّق الجرسَ، إذاً ؟»، وفي تساؤله: «أيكون أوباما أيضاً؟»، الاستنتاج المضمر.
إنّ أسوأ الكتابات السياسية يكتبها الشعراء. عندما يتفكّر الشعراء في الموقف السياسي عبر الترميز المجرّد فإنّ ذلك يؤدي إمّا إلى التفلسف الفارغ أو العنصرية البغيضة. أدونيس مثال ذلك عندما يكتب عن الحداثة مع «ثابته» و«متحوّله». أما سعدي يوسف فهو المثال الآخر عندما يكتب عن العراق. وهو هنا يتفوق على أدونيس بجدارة. لقد كان الأجدر بيوسف قراءة آخر تقرير لمنظمة «هيومن رايتس واتش»، المنشور بتاريخ 1 شباط 2011 عن السجون السرّية التابعة مباشرة لرئيس الوزراء المالكي. ويُقدّر التقرير وجود أكثر من 30000 معتقل عراقي في هذه السجون. هناك لا يوجد إلّا الاغتصاب والتعذيب والقتل. أمّا مساواته الضمنية بين أوباش السلطة والناس المضطهدين في قصائد، لإرضاء نخبوية مترفة، فموقف أقلّ ما يقال عنه أنّه سقوطه الأخلاقي المدوّي.
يجدر هنا تذكير بعض المثقفين العرب بأنّ المالكي، المدعوم إيرانياً وأميركياً، الذي تشدّقت في مدحه بعض الأقلام حول تمكّنه «بشكل غامض واستثنائي من ليّ الذراع الأميركية»، يفاوض اليوم الذراع تلك نفسها، وسرّاً، حول سبل تمديد وجود القوات الأميركية بعد نهاية العام الحالي. تقول ذلك محاضر آخر جلسة استماع للجنة الكونغرس للعلاقات الخارجية حول العراق (1 شباط 2011 ) التي جرى التكتّم عليها في الإعلام. تكلّم في الجلسة السفير الأميركي في العراق جيمس جيفري عن مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في نفط العراق. إنّ عراق اليوم منسيّ ومعتّم عليه إعلامياً في حمأة الثورة المصرية. فهو لديه رئيس وزراء خرق دستور بلاده بأن نقل مقدّرات البنك المركزي العراقي من سلطة البرلمان إلى سلطته المباشرة بحسب قرار للمحكمة الاتحادية العراقية. محكمة نذكر كيف أُثِّر عليها منذ أكثر من سنة للاختيار بينه وبين إيّاد علّاوي لمنصب رئيس الوزراء. وقد هدد المالكي في حديث لقناة «العراقية» بأنّه «إذا تراجعت الاتحادية عن قرارها فستخرب البلاد». تهديد ضمني من رئيس وزراء وحّد في شخصه ثلاثة مناصب وزارية حتى اليوم: فهو وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الأمن القومي، في الآن عينه. لكن الأمر ليس مستغرباً بالطبع حين يكون لدى المالكي ما يعرف «بوحدة عمليات بغداد» التي تأتمر منه مباشرة، واشتهرت بين العراقيين بارتكابها الفظائع تحت ستار محاربة القاعدة و«الإرهاب».
أما علّاوي، الذي ارتكب والأميركيين مآثم الفلوجة أيّام رئاسته للوزراء عام 2004 ويشهد عليها أطفال يولدون اليوم مشوّهين؛ إذ قُصفت مدينتهم حينها باليورانيوم المنضّب، فهو يعارض المالكي. لكنّه لا يعارض المالكي لأنّه أصبح فجأةً مناصراً للحرية والديموقراطية، بل لأن هذا الاخير لم ينصّبه حتى اليوم رئيساً «للمجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية». وهو ما كان يمكن أن يحقق لعلاوي حصةً من الاتفاقيات التي تبرم مع الشركات العالمية لنهب نفط العراق. إنها الخيانة بين خونة الوطن.
ليس كلّ ذلك على الأرجح ما يهمّ يوميات العراقي العادي حين نعلم أنّه، خلال شهر كانون الثاني الماضي وحده، قتل أكثر من 159 مواطناً عراقياً وأكثر من 100 عسكري عراقي في تفجيرات متنقلة. لكنّ القيادات الكردية مثلاً تركت كلّ ذلك لتطالب بمنصب نائب رابع لرئيس الوزراء للأكراد تتولّاه امرأة. وللصدف فإنّ حقوق المرأة لا تكون مناسبة إلّا حين تكون النائبة «ألا طالباني»، ابنة جلال طالباني، هي المرشّحة الأوفر حظاً. أمّا المالكي فقد وعد العراقيين خيراً بتوفير الكهرباء بحلول الشتاء... المقبل عام 2012.
أمّا الأميركيون، فهم لا يقومون إلّا بحساب كم صرفوا حتى اليوم على حروبهم التي لا تنشر إلّا الموت. فبحسب أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا جوزف ستيغليتز، فإنّ كلفة الحرب بلغت، بحساباته المتحفظة، أكثر من 3 تريليونات دولار، وفق ما أعلن في مقال نشره في جريدة «واشنطن بوست» (5 سبتمبر 2010). بالطبع يمكن الأميركيين أن يأملوا تعويض كلّ خسارتهم عبر وزير النفط العراقي «الملك» حسين الشهرستاني.
ومن خلال ما سبق، وبدل إقامة قمم عربية لن تنتج إلّا مواقف عمالة بعد 8 سنوات على الاحتلال، فإنّ الموقف الأخلاقي يفرض مقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والاستعمار الجديد والاستعمار المباشر المدمّر في العراق. استعمار يحصل بينما يُستكمل المسعى الإمبريالي لنهب الثروات وتصفية الشعوب بلعبة المرايا التي تسمّى تباعاً «عملية السلام» في فلسطين و«الانتقال السلمي للسلطة» في مصر و«العملية السياسية» في العراق. ربما يجب على القادة العرب تأمل إرادة الشعب العربي قبل ذهابهم إلى بغداد الشهر المقبل. لكنّ أثناء ذلك، فإنّ العراقيين لن ينتظروا من الفايسبوك أو من مثقفي العرب الخائبين معرفة ما عليهم فعله، إذ نقرأ الخبر الآتي: «تعرضت المنطقة الخضراء التي تضمّ السفارتين الأميركية والبريطانية والمباني الحكومية يوم 16 شباط 2011 لقصف صاروخي». إنّ ثورة العراق اليوم هي المقاومة حتى التحرير.

* باحث لبناني