هذه الأسئلة في ورقتين، ننشر نصهما في ما يأتي
احتمالات الوحدة والانفصال
أرست الثّورة الشّعبية في اليمن مجموعة معطيات، تختلف عن الحراك الذي شهدتْه السّاحة اليمنيّة خلال السّنوات القليلة السّابقة. فمنذ بدْء الاحتجاجات السّلمية، التي عمّت مختلف أرجاء اليمن، اتّحد اليمنيّون على اختلاف مشاكلهم وقضاياهم وانتماءاتهم، تحت شعار «إسقاط النّظام».
وخلقت هذه الحالة الثّورية معادلةً جديدة ثنائيّة الأطراف على السّاحة اليمنيّة، يمثّل الشّعب بغالبيّة أطيافه وفئاته على الامتداد الجغرافي للبلاد طرفها الأول، وطرفها المقابل النّظام، الذي بدأ يفقد تدريجاً قدرته على التحكّم في مفاصل الحياة السّياسيّة والعامّة.
وبعدما أصبح مطلب التّغيير أقوى، يوماً بعد يوم، رغم مظاهر الحشد والتّعبئة التي ينتجها النّظام، بدأت النّخبة الحاكمة تبحث عن بدائل تمكّنها من تفادي ما آلت إليه الحالة المصريّة والتّونسيّة.
وقد غابت القضايا الأساسيّة والفرعيّة الخلافيّة عن النقاشات، خلال الثورة، دون أن يعني ذلك خبو جذوتها في التّفكير الجمعي أو النخبوي. ومع ظهور معالم مرحلة مستقبلية تبنيها الإرادة الشعبية، أُثيرت أسئلة عدّة عن مستقبل هذه القضايا الخلافيّة، ومستقبل تفاعلاتها ضمن النّسق السياسي المقبل.
ومثّلت «القضيّة الجنوبية» أبرز القضايا المثيرة للتّساؤلات الاستشرافية بعد مطالب الحراك الجنوبي السّلمي، السّابق للثورة الشعبية، بـ«فكّ الارتباط» وإنهاء عقد الوحدة التي أقيمت عام 1990. وتنطلق النّخب اليمنية «الجنوبيّة»، في الطرح السابق، من فكرة أنّ الوحدة لم تكن جاذبة، وأنّ الإقصاءَ والتهميش اللذيْن نهجهما نظام علي عبد الله صالح، أسهما في تبلور واقع شعبي ونخبوي مؤيّد لفكّ الارتباط، وإنتاج شخصية مستقلّة عن الشّمال.
انطلاقاً من المدخل السابق، فإنّ تقديم رؤية استشرافيّة عن واقع العلاقات بين «شطريْ» اليمن، في المرحلة المقبلة، يتطلّب تسليط الضّوء على مكامن الخلل واستقراء واقع التهميش والإقصاء الذي أنتج هذه الرّغبة الانفصاليّة. رغبة قد تسهم أدبيات المرحلة الجديدة في تجاوزها وإعادة إنتاج محفّزات للمحافظة على وحدة اليمن السّياسية والجغرافية.
القضية الجنوبية
تُعدّ القضيّة الجنوبية قضيّة سياسية حقوقية، ذات أبعاد اقتصادية واجتماعيّة مختلفة، تهمّ أغلبية أبناء الجنوب، الذين أنتجوا حراكاً اجتماعياً، تبَلور بعد عام 2006 في شكل حراك سياسي سلمي، ضدّ واقع التهميش والإقصاء. ونتيجة قصور استجابة النظام وقمعه وعنفه الدموي ضدّ الحراك السلمي، رفعت النّخب السّياسية سقف مطالبها إلى حدّه الأقصى المتمثل في «فكّ الارتباط».
قبل شهر من تاريخ إعلان الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990، التقت قيادتا الجنوب والشّمال في مدينة صنعاء، لترتيب إنتاج قيادة موحّدة لليمن. واتُّفق، بحسب المادّة 2 من اتّفاقيّة الوحدة، على تأليف مجلس رئاسة يتكوّن من 5 أشخاص ينتخبون رئيساً للمجلس من بينهم. وروعي الانحدار المناطقي وانتماءات أعضاء المجلس القبلية (راجع الجدول رقم 1).
لكن تمخّضت عن الحرب اليمنية عام 1994 تعديلات دستورية قضت بإلغاء مجلس الرّئاسة وتولّي صالح منصب رئيس الجمهورية، الذي تركّزت بيده صلاحيّات شبه مطلقة. ورغم أنّ الرّئيس صالح عيّن اللواء عبد ربه منصور هادي (جنوبي) نائباً لرئيس الجمهورية، عمل على تركيز السّلطة والتمثيل والنّفوذ في أسرته وقبيلته. وانعكس ذلك على السّلطات الثلاث. فعلى مستوى السّلطة التّشريعيّة، تراجع التّمثيل الجنوبي بدرجات كبيرة، عمّا نصّت عليه اتّفاقية الوحدة عام 1990، التي حدّدت حجم التّمثيل بنسبة 54% للشّمال و46% للجنوب. والجدول التالي يحدّد بوضوح حجم إقصاء الجنوب وتهميشه (راجع الجدول رقم 2).
لم يقتصر التهميش على التّمثيل في السّلطة التشريعيّة، بل امتدّ إلى مختلف النّواحي الإداريّة والعسكرية. فقبل الحراك الجنوبي في 2006، عُيّن ثلاثة محافظين شماليّين لثلاث محافظات جنوبية، من أصل خمس، وهي حضرموت، لحج، والمهرة. وبعد عام 2007، أصبح جميع محافظي المحافظات الجنوبية من الشمال. أمّا في المؤسّسة العسكريّة فنجد أنّ نسبة الجنوبيّين تقدَّر بـ12.3 %.
بدأ التحرّك الجنوبي ضدّ حالة التهميش والإقصاء منذ عام 1998، إذ شهدت حضرموت أوّل تظاهرة احتجاجيّة قُمعت بالقوّة المسلّحة. وتجدّدت التظاهرات في 2000، وشاركت فيها الأحزاب السّياسية المعارضة، وبعض منظّمات المجتمع الأهلي، الأمر الذي أجبر السّلطة على الاعتراف بوجود «قضيّة جنوبية»، ووعدت باتّخاذ تدابير سياسيّة واجتماعية لحلّها. إلّا أنّ المعالجة الحكوميّة لم تتعدّ تأليف لجان وعقْد لقاءات دون خطوات تنفيذيّة جدّية.
ونتيجة لفشل المعالجة الحكوميّة، بدأ ما أطلق عليه لاحقاً تسمية «الحراك الجنوبي» في 2007، وأخذ طابعاً سلمياً، رافعاً سقف مطالبه إلى ضرورة إنهاء آثار حرب 1994، والعودة إلى المجلس الرّئاسي. اختلط هذا المطلب بمطالبَ اجتماعيّة، كالبطالة والفساد وغيرها، وهو ما أسهم في تبلور رأي عام «جنوبي» تضامني مع هذه الاحتجاجات. بعدها، بدأت القضيّة الجنوبية تتجلى في شكل صراع سياسي، سمته الأساسيّة الفشل في بناء الدولة المعاصرة، وغياب العدل عن توزيع الثروة والسّلطة. لذلك، ساد نزوع لدى الجنوبيّين إلى أنّ «فكّ الارتباط» هو ضرورة حتميّة وشرط للتّخلّص من الإقصاء الاجتماعي والسياسي الذي فرضه نظام علي عبد الله صالح.
الثورة اليمنية واحتمالات الوحدة والانفصال
تنطلق غالبية النّخب الجنوبية من أنّ الثّورة الشّعبية ضدّ نظام علي عبد الله صالح برهنت مشروعيّة المطالب الجنوبيّة. فقد تمحورت حول رفض التفرّد والمركزة اللتين اتّبعهما النظام اليمني. لذلك يرى معظم هؤلاء أنّ «فكّ الارتباط» سيبقى خياراً لأبناء الجنوب، حتى بعد نجاح الثورة، على أساس أنّ هذا الخيار أصبح مطلباً شعبياً، ومعطىً لا مفر منه، بعد سنوات طويلة من الإقصاء والتهميش والإلغاء.
ورغم واقعيّة هذا الطرّح، يقوم أساساً على مصالحَ سياسيّة تطوّرت لدى بعض النّخب والقيادات الجنوبية. فقد أنتجت الثورة حالة وطنية شاملة وتنسيقاً أفقيّاً بين الفئات الشّبابية في مختلف أنحاء اليمن، وتوحّدت تحت شعار واحد هو «إسقاط النّظام»، ولم ترافقها أدبيات أو دعوات انفصاليّة. وهو ما أسهم في نجاحها وتجلّيها بالشّكل السّلمي الحضاري الحاصل حالياً، رغم محاولات النّظام استنهاض انتماءات فرعيّة (قبلية، مناطقية، طائفيّة). لذلك، فإنّ السيناريوهات التي ستحكم العلاقة بين الجنوب والشّمال، ستقوم على ركيزة أساسيّة هي: كيف يمكن أن تكون الوحدة جاذبة؟ وعليه ستكون المرحلة الانتقاليّة هي المدخل باتجاه تفعيل ذلك أو تكريس الوضع الرّاهن.
مجلس رئاسي
يتحدّد هذا السّيناريو بمحاكاة المعطيات التي أنتجت اتفاقيّة الوحدة في 22 أيار/ مايو 1990، عبْر تأليف مجلس رئاسي، خلال المرحلة الانتقاليّة، يراعي التّمثيل بحسب البعديْن الجغرافي والدّيموغرافي. وعليه، تصبح اتّفاقية الوحدة، بجميع موادّها، هي المرتكز لدستور جديد، يضمن بموادّه المشاركة السّياسيّة والانخراط الفعلي للجنوب، في الحياة السّياسيّة والعامّة. بعدها، تُجرى الانتخابات البرلمانيّة وفق نظام النّسبيّة، الذي سيعكس حجم التّمثيل الشّعبي الجنوبي، خاصّة أنّ التّجربة الحزبيّة في الجنوب هي تجربة متأصّلة، منذ سبعينيات القرن الماضي.
انطلاقاً من ذلك، تكون التّحالفات الانتخابيّة والحزبيّة في البرلمان هي المعيار في تحديد شكل النّظام السّياسي المقبل. ويستطيع هذا السّيناريو، إذَا نُفّذ، التخلّص من آثار حرب 1994، وما نجم عنها من تجاوزات دستوريّة وقانونية.
■ ■ ■
موقف الجيش والصراعات داخله
انطلقت الانتفاضة الشعبية اليمنية في شكل تجمّعات شبابية سلمية بزخم قوي مع مطلع شهر شباط/ فبراير، أيّ حين كان نموذجها المفضّل، وهو الثورة المصرية، حيّاً ينبض في اعتصامات دائمة في ميدان التحرير تتحوّل إلى تظاهرات مليونيّة.
وبدأ الرّئيس علي صالح بتقديم التّنازلات على الفور. فقد أعلن في الثاني من شباط/ فبراير عدم التّمديد لحكمه الحالي، وعدم الترشّح مرّةً أخرى، بالإضافة إلى عدم توريث الحكم لابنه، وإقالة محافظين، وتقديم مبادرة حول استفتاء على دستور جديد، قبل نهاية السّنة. لكن هذه التّنازلات لم تخفّف الضّغط المتنامي الذي يطالب بإسقاط
النّظام.
أخذ تصاعد الاحتجاجات الشّعبية في اليمن يستقطب أعداداً واسعة من المناهضين لنظام صالح على امتداد اليمن، يوماً بعد يوم. وحدثت الدّفعة الأكبر من الانضمام للثّورة ومطالبها، بعد المجزرة التي ارتُكبت ضدّ المحتجّين في ساحة «التّغيير»، يوم الجمعة الثامن عشر من آذار/ مارس وسقط ضحيّتها ما يزيد على خمسين قتيلاً. وكان الرّجل الأوّل في الجيش اليمني، علي محسن الأحمر، وقائد الفرقة الأولى والمنطقة العسكرية الشمالية الغربية، أبرز من أعلنوا وقوفهم مع الثّورة في العشرين من آذار/ مارس. كذلك صدرت التّصريحات بغرض حماية المحتجّين من اعتداء النظام عليهم. وانضمّ إلى الثورة أيضاً، كلّ من قائد المنطقة العسكريّة الشّرقية اللواء محمد علي محسن «ابن عمّ الرّئيس»، والعميد حميد القشيبي قائد اللواء 310 في محافظة عمران، وقائد المنطقة العسكرية المركزية اللواء سيف البقري، مع عدد واسع من ضبّاط آخرين. وانشقّ قائد القاعدة الجويّة في اللواء 67 بمحافظة الحديدة، العميد الركن أحمد السنحاني، وهو أوّل انشقاق في القوّات الجويّة اليمنية، بالإضافة إلى اللواءيْن 61 و62 التابعيْن للحرس الجمهوري في مديرية أرحب، التّابعة لمحافظة صنعاء.
واستمرّ الضّغط الشّعبي على صالح الذي بدا أنّه يخسر عناصر قوّته بالتدريج، (استقالات من الحزب والحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية... وتخلّي عشائر حليفة عنه، وإعلانها الولاء للثورة في زيارات متتالية لميدان التغيير) ما جعله في موقف دفاعي، إلى درجة تردّد أنباء واسعة داخل اليمن وخارجه، في الثالث والعشرين من آذار/ مارس، أنّه اتُّفق على مرحلة انتقالية بنقل الصّلاحيات إلى نائب رئيس ومنه إلى مجلس رئاسي، وأنّ صالح سيسلّم السّلطة خلال ساعات.
وأعلنت المعارضة اليمنيّة يوم الأحد السّابع والعشرين من آذار /مارس أنّ المفاوضات بشأن نقل السلطة قد توقّفت. كذلك أعلن صالح، في اليوم التالي، أنّه صامد في وجه الاحتجاجات، وأنّ غالبية الشّعب تؤيّده. وقد ترافق مع ذلك طلب حزب المؤتمر الشعبي الحاكم أن يظلّ صالح رئيساً حتى نهاية ولايته في 2013. وعادت المواقف للتّصلّب والوقوف أمام عمليّة التّحوّل السياسي السّلمي، ما أثار مخاوف من سيناريو آخر، هو الصِّدام والانقسام في البلد.
وليست عوامل الصّدام والانقسام التي يمكن ملاحظتها في الحالة اليمنيّة بعيدة عن الجيش والقوّات المسلّحة نفسها، التي يُعدّ الرّئيس صالح قائدها الأعلى. فلم يهدأْ الوضع السّياسي في اليمن منذ توحيد البلاد في مطلع التّسعينات، إذ شهدت البلاد حرباً أهليّة بين الشّمال والجنوب في أواسط التّسعينيات، ومواجهات عسكرية مع قوى سلفيّة جهادية، أضف إلى ذلك حروب صعدة. وهذه كلّها، كان لها انعكاسات على المشهد السياسي في البلاد، إذ تولّدت صراعات، كان من أبرزها الخلاف المتنامي بين الرّجل الأقوى في الجيش علي محسن الأحمر والرئيس علي صالح. فرغم أنّ محسن كان داعماً رئيسياً لصالح، طوال الفترات السابقة، أصبحت ملامح القطيعة والصّراع واضحة بينهما خلال العقد الأخير. فقد ظهرت، منذ سنوات، مخطّطات توريث الحكم لأحمد، ابن الرئيس، واستفراد صالح وأبنائه بمفاصل السّلطة، الأمر الذي جعل علي محسن يقف ضدّه، لذا عمل صالح وابنه أحمد على كسر شوكة الفرقة المدرّعة الأولى، عبر إنهاكها في حروب «غير ملزمة» في صعدة.
بالإضافة إلى أنّه حين أيّد عددٌ كبير من ضبّاط الجيش ثورة الشباب، وساندوا مطالبهم أمام السلطة، وأعلنوا حمايتهم للمحتجّين، في العشرين من آذار /مارس؛ أتى ردّ فعل مباشر من النظام، عبر خطاب وزير الدّفاع محمد ناصر علي في 21 آذار/ مارس، الذي أعلن أنّ الجيش سيساند الرّئيس صالح ضدّ «أيّ انقلاب على الدّيموقراطية». لكنْ، هناك شكوكٌ في مدى تأثير هذا البيان من وزير الدفاع في خيارات الجيش، على أساس أنّ الشّخصيات النّافذة والقويّة في الجيش هي التي أعلنت انضمامها إلى الثّوّار.
والجيش اليمني ثاني أكبر قوّة عسكرية في الجزيرة العربية بعد السّعودية، ويبلغ عدد المنتسبين المحترفين في الجيش نحو 89500 ألف جندي وضابط، يتوزّعون على النحو الآتي: سلاح البرّ 66000، البحرية7000، والقوّات الجويّة 5000، الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة 11500 جندي. وفي أيلول/ سبتمبر 2007، أعلنت الحكومة إعادة الخدمة العسكريّة الإلزامية. وتمثّل ميزانية الجيش في اليمن نحو 40 في المئة من الميزانية الحكومية العامّة، وهي نسبة كبيرة جداً على المستوى العالمي. وفي اليمن قوّات شبه عسكريّة يبلغ عددها نحو 71000 جندي، منهم 50 ألف جندي في الأمن المركزي.
وتبرز في حالة اليمن ظاهرة تعيين قيادات عسكرية وأمنيّة على أساس عائلي، لضمان الولاء الشّخصي للرّئيس. وأبرز هذه القيادات أحمد علي عبد الله صالح، «ابن الرئيس»، وهو قائد الحرس الجمهوري والقوّات الخاصّة، وخالد علي عبد الله صالح، «الابن الآخر للرئيس»، وقائد القوّات الجبلية المدرّعة، ويحيى محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرّئيس» رئيس أركان الأمن المركزي، وطارق محمد عبد الله صالح «ابن أخي الرئيس» وقائد الحرس الخاصّ، وعمار محمد عبد الله صالح الأحمر، «ابن أخ الرّئيس» ومسؤول جهاز الأمن القومي، ومحمد صالح عبد الله الأحمر «أخ غير شقيق للرّئيس»، وقائد القوّات الجوّية. لقد جرت محاولة فريدة في اليمن لضمان ولاء الجيش عبر العصبيّة العائليّة مباشرة. ومن خلال الخريطة السّياسية التي ارتسمت في الجيش، بعد انضمام قيادات بارزة فيه إلى الثّورة، يبدو أنّ هذه العصبيات لم تضمن إلّا ولاء الموالين للنظام أصلاً.
ويتبين اليوم أنّ اعتماد صالح على الأقارب في الجيش والأجهزة الأمنيّة لم يكن بالضّرورة عامل ثبات واستقرار له. فأخطرُ تهديد له يأتيه اليوم من اللواء علي محسن الأحمر، الذي وصفته وثيقة دبلوماسية أميركية في 2005 سرّبها موقع «ويكيليكس»، بأنّه الرّجل الأقوى في البلاد بعد صالح(1)، وكان سبب ذلك الصّراع الرّئيس هو التّوريث، كما ذكرنا.
يجري التمهيد لخطّة التّوريث منذ ما يقارب العشر سنوات. وفي سبيل ذلك، كانت تقوية الحرس الجمهوري الذي يرأسه أحمد، فقد تخصّصت هذه القوّة في مكافحة الإرهاب في اليمن، واستأثرت بغالبيّة المساعدات المالية الأميركية، التي نمت من 5 ملايين دولار في 2006 إلى 155 مليون دولار في 2010. فيما اقترحت وزارة الدفاع الأميركية في 2010 تقديم دعم بـ1.2 مليار دولار، تنفق على مدى خمس سنوات، لدعم جهود ما يسمّى مكافحة الإرهاب، وجرى العمل على تقديم تدريبات أميركية لها، في كنف السرّية، نتيجة السّخط الذي أثاره النّشاط الأميركي العسكري في المنطقة، مثل الهجمات الأميركية الجوية التي ضربت مناطق داخل اليمن في كانون الأول/ ديسمبر 2009. كذلك تتبنى قبائل وقيادات عسكرية موقفاً سلبياً من قوّة وحدات الحرس الجمهوري، لأنّها استُخدمتْ لصالح نفوذ ابن الرئيس، وأضعفت نفوذهم.
ورغم التدريبات الأميركية ومستوى الإنفاق المرتفع، أخذت بوادر ضعف الجيش اليمني تتبدّى. ويتّضح ذلك في حروب صعدة التي أنهكت الجيش (والتي اتُّهم ابن الرئيس أحمد بأنّه السبب في إطالتها بغرض إضعاف الجيش)، وعدم القدرة على حلّ النزاعات في مناطق اضطراب قبليّة، بالإضافة إلى تنامي وجود تنظيم القاعدة في اليمن، في السنوات الأخيرة. إذ وصل الأمر إلى ظهور علني لهذا التنظيم، في بعض المحافل في اليمن. وقد استخدمت هذه الصّراعات لضمان الدعم الأميركي لعلي عبد الله صالح، خوفاً من البديل، وهو سلفي جهادي في بعض المناطق، كما بدا للعيان في حينه.
وكانت معسكرات قد استسلمت بكاملها، في حروب صعدة، في مران ورازح وحرف سفيان، وسلمت كلّ ما فيها من أسلحة وعتاد لجماعة الحوثي، وسبب ذلك، كما يقول مئات من الجنود الأسرى لدى الجماعة، هو انقطاع المؤن عنهم، أسابيعَ، دون مبرّر. كذلك اتهم جنود آخرون سلاح الطّيران الذي يقوده الأخ غير الشّقيق للرّئيس اليمني، بقصفهم أحياناً أو عدم فكّ الحصار عنهم، في أكثر من مناسبة، في حرب صعدة الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك، كان صالح قد تدخّل في هيكليّة الجيش في السّنوات الأخيرة. فبعدما عيّن ابنه أحمد في قيادة الحرس الجمهوري بعد إزاحة أخيه غير الشّقيق علي صالح الأحمر، أجرى صالح «غربلة» في قيادات الجيش، تمهيداً لتوريث ابنه، فأبعد قيادات من المقرّبين من علي محسن الأحمر، وعيّن آخرين مقرّبين من ابنه أحمد. وأنشأ صالح فرقة المشاة الجبلية المدرّعة لتنافس الفرقة المدرعة الأولى التي يقودها علي محسن الأحمر.
ويبدو أنّ الخلاف بين الرّئيس صالح وعلي محسن كان قد وصل إلى درجة بالغة الخطورة، فقد كشفت وثائق «ويكيليكس» أنّ السّلطات اليمنية في حرب صعدة السّادسة، قدّمت معلومات مضلّلة لسلاح الجوّ السعودي، كاد على إثرها أن يقصف مقراً يوجد فيه اللواء علي محسن الأحمر، وهو ما أكّد أنّ صنعاء ترغب في التخلّص منه.
أبرزت الثورة حالة الشّقاق في الجيش المتمثّلة في مناوشات في حضرموت، حصلت أخيراً بين قطاع من الجيش موال لعلي بن محسن وقطاع من الحرس الجمهوري الموالي للرّئيس. وينذر تصلّب الرئيس والطبقة السياسيّة المحيطة، وتكتّل المعارضة في المقابل، بصدامات وانقسامات تحدث على مستوى واسع في البلد، إذا لم يستنتج الرّئيس ضرورة الاستقالة أمام التحرّك الشّعبي السّلمي. إنّ الرئيس هو الذي يقرّر النّقل السّلمي للسّلطة أو قيادة البلد إلى مغامرة عنيفة قبْل الرّحيل.
يمكن أن نضيف إلى ذلك خطر القبائل المسلّحة، فالوضع الملتهب أخيراً في اليمن شجّعها على التدخّل، كما حدث في 23 آذار/ مارس، حين طردت قبائل محافظة الجوف قوّات من الحرس الجمهوري في المحافظة، بعد معركة قصيرة بين الطّرفين. وكان ذلك رداً من القبائل على مشاهد القتل المروّعة التي تعرّض لها المعتصمون. كذلك حصل أخيراً تصعيدٌ خطير، يتمثّل في سيطرة مسلّحين على مدينة جعار ومناطقَ أخرى في محافظة أبين جنوب البلاد. ولا يزال الثوّار وطابع ثورتهم عوامل التهدئة الرّئيسة في البلد.
يتخوّف بعض شباب الثورة من أنّ انحياز علي محسن لها سوف يمسّ بمدنيّتها، ويؤدّي إلى اختطافها من العسكريّين. وذلك، عدا كون محسن أحد رموز المرحلة السّابقة. لكن حالة اليمن التي لا يطرح فيها الشّباب نظاماً ليحلّ محلّ نظام بقوّة الثّورة، كما في روسيا البلشفية أو الثورة الإيرانية، ويصعب توقّع انحياز الجيش بكامله لهم بسبب العصبيّات العائليّة التي تربط بعض قياداته بالرّئيس، فإنّ الحلّ الوحيد لحماية الثّورة من عنف الجيش والأجهزة الموالية هو انضمام جزء من الجيش إليها. ومن انضمّ وأعلن ولاءه للثورة هو فعلاً جزءٌ كبير من الجيش. والمطلوب هو تغلغل قيم الثّورة الدّيموقراطية في صفوفه، والتّفاهم مع قيادته على قواعد التّعاون.
وهنالك مخاوف أخرى بالنسبة إلى طبيعة تحرك الجيش، بعد انقسامه تجاه التحدّيات الماثلة في السّاحة اليمنية، وهي خطر الانفصال في الجنوب، وتنظيم القاعدة المسلّح، والتمرّد في صعدة. ولا تزال المعارك بين الجيش والحوثيّين، تتجدّد، حتى اللّحظة، بالإضافة إلى المناوشات بين القطاعات المسلّحة التي تتّخذ وضعاً كمونياً الآن، إلى الاحتجاجات القبلية المسلّحة. ويبدو لنا، أنّ هذه الصّراعات مؤجّلة إلى ما بعد رحيل علي صالح، إلّا إذا افتعل نظامه بعضها. أمّا بعد الرّحيل، فإنّ هذه الصّراعات سترتبط بالتفاهمات التي سيُتّفق عليها في المرحلة الانتقاليّة. ولا نبالغ في القول إنّ حلّها سوف يمثّل أوّل التحدّيات وأهمّها أمام النّظام الجديد، لأنّ التفاهم بشأنها هو شرط الاستقرار الذي سيساعد على التحوّل.
لم يقدّمْ ائتلاف شباب الثّورة رؤية واضحة لما يفترض أن تكون عليه الأمور إلى جانب مطلبهم الأساس، وهو رحيل صالح، كذلك فإنّ تعدّد الولاءات والانتماءات والقوى، في بلد يفتقر إلى التنظيم هو أمر يرشّح لأن يكون التّغيير المرتقب محفوفاً بالمخاطر. لكن البُشرى تكمن في ردّ فعل الشّباب الثوري الواعي والمدني تجاه الاستفزازات، وهم في بلد يملك شعبه الذي يعدّ 24 مليون نسمة، 60 مليون قطعة سلاح. ولدى الجيش القدرة، حتى بعد انقسامه، على أداء دور واعٍ في التّعامل مع قضايا مركّبة ومتنوّعة في البلد. ولذا من الضّروري تنسيق خطوات كلّ من الشّباب والجيش حتى تتألف القوّةُ والنّهج، القادران على نقل الثّورة اليمنيّة إلى برّ الأمان.
هامش
(1) http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast
2011/03/110327_yemen_saleh_interview.shtml