الرئيس نبيه بري، رئيس المجلس النيابي وحركة أمل، «بائس يائس وحالته بالويل». هذا ما كرّره في اليومين الماضيين تعبيراً عن الفشل المتمادي في تأليف الحكومة الجديدة، وعن فشله الشخصي في المساعدة على إخراج تشكيلتها إلى الضوء، بعدما «لم يبق شيء لم يعمله» من أجل ذلك.الرئيس بري كان قد «بشّر» الناس مراراً بقرب إعلان تركيبة الحكومة الجديدة. ولم ييأس من تكرار توقعاته الواثقة، رغم تعثّر تنفيذ ما سبقها. وهو في هذا الأمر وسواه، كان يحرص دائماً على أمرين. الأوّل، إبراز كونه أحد العارفين بخفايا الأمور. والثاني، تجديد وتأكيد حرصه على موقعه في النظام السياسي، بوصفه أحد أركانه وأحد أبرز حراسه، في الوقت عينه!
وفي السياق نفسه، كان الرئيس بري يجتهد دائماً في التفتيش عن مخارج، وصولاً إلى اشتقاق المعادلات، أو إعلانها، أو التصريح في شأن أمور، يكتفي آخرون بالتلميح إليها، في أوضح الحالات. وما زال الوسطان السياسي والشعبي، يذكران نظرية «السين ـــــ سين» التي تباهى بري بإعلان مرجعيتها في الشأن اللبناني عموماً، وفي مراحل تراكم أزماته، خصوصاً. كان بري، حينها، سبّاقاً في إعلان تبنّي ما تجسّده معادلة «السين ـــــ سين» من تبعية يمكن بواسطتها إنقاذ لبنان من جحيم الخلافات والمناكفات والصراعات والانقسامات، بين قواه وكتله السياسية المتنازعة. وقد تمكّن التعاون السوري ـــــ السعودي بالفعل، بعد قطيعة وخلاف، من تسهيل تأليف «حكومة الوحدة الوطنية»، بعد انتخابات نهاية ربيع 2009. وجرى لهذا الغرض، تذليل العقد والعقبات اللفظية والسياسية في بيانها الوزاري، وتلك القائمة أيضاً في التوازنات والنسب والأسماء والحقائب...
لكنّ الرئيس بري يتخلّى اليوم عن صراحته وجرأته، فلا يقول الأمور التي يواجهها الحكم في لبنان، في هذه المرحلة من تأزّم أوضاعه الداخلية، وتأزّم الوضع الإقليمي والعربي. أيضاً، هو لا يقول إنّ انهيار التفاهم السوري ـــــ السعودي، بعد الإصرار الأميركي على تفعيل وظيفة المحكمة الخاصة بلبنان وباغتيال الرئيس رفيق الحريري، قد انعكس مواجهةً في لبنان، ما زالت تتغذّى بعناصر جديدة كلّ يوم. وهو لا يقول إنّ واشنطن هي التي أطلقت هذه العملية، وأثناء وجود الملك السعودي للعلاج فيها، أواخر السنة الماضية، وإنّ من تولّى إعلان سقوط «السين ـــــ سين»، هما وزير خارجية المملكة الدائم سعود الفيصل، ورئيس وزراء لبنان المؤقت سعد الحريري. وحين يقول الرئيس بري إذاً، إنّ الأزمة «داخلية وسخيفة»، فهو لا يقول الحقيقة، وإلّا فعليه، أن «يبشّرنا»، بأنّ العلاقات السورية ـــــ السعودية بخير، أو بأنّ هذين البلدين لم يعودا ذوَي تأثير مهم وشبه حاسم في الوضع اللبناني، مما يستدعي سقوط أو نعي نظرية «السين ـــــ سين» من أساسها!
ولأنّ الرئيس بري من حراس النظام الأكثر حرصاً (رغم أنّه يبرّر ذلك بالدفاع عن مصالح من يمثّل، في سوق تخضع للبيع والشراء، وحتى يحين أوان تغيير النظام)، فهو لم يعلن سبب الأزمة الحقيقي، لا السبب «السخيف»، أي ذلك السبب الكامن في النظام السياسي الطائفي الذي بات عاجزاً حتى عن إدارة الأزمات اللبنانية، فيما هو يولّد المزيد منها، أو يفاقمها على نحو مطّرد. نقول ذلك، رغم أنّ رئيس حركة «أمل» هو رئيس السلطة التشريعية، وهو الذي يجب أن يشهد للدستور لا عليه، وفي ذلك لا يستطيع أن يكون مرتاح الضمير رغم ما يكرّره، دائماً، من أنّه حاول طرح البنود الدستورية للنقاش والتنفيذ، واصطدم برفض تام من جانب «الشركاء» الآخرين.
ولا بأس من العودة قليلاً إلى السبعينيات من القرن الماضي، لتلمّس الأساس السياسي والاجتماعي والإيديولوجي الذي يوجّه اليوم موقف رئيس حركة أمل، فضلاً عما يملكه الرجل من قدرة على المناورة، ومن شطارة عُرف بها، في الاستفادة من المناسبات والتناقضات والتحوّلات. في ذلك الوقت، استطاع حراس النظام الطائفي اللبناني تحقيق نجاح أكيد في احتواء جزء كبير من حركة الاعتراض السياسي الاجتماعي، عبر تصريفها في قناة تصبّ في مصلحة النظام وتوسّع الشراكة فيه، بدل أن يوظفها اليسار اللبناني في عملية جذرية لإضعاف، ومن ثمّ إلغاء المرتكز الطائفي للنظام السياسي اللبناني. لقد تجاوب «محرومون» كثر مع نداء سماحة الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر. وانتهى الأمر بتحقيق تعديل جدّي في نطاق التركيبة المذهبية للنظام، ما لبثت أن تكرّست على أوسع نطاق في اتفاق الطائف في 1989 وما بعده. وقد بلغ من أمر هذا التغيير في المعادلات، أن أطلق البعض على «حركة المحرومين» لقب حركة «الحارمين»، نظراً إلى تعزّز دورها في السلطة وفي التوازنات وفي الموازنات (!)، وخصوصاً في ظلّ الإدارة السورية للبنان بين 1990 و2005. وكان طبيعياً أن تنافس حركة أمل الحركة الوطنية، وأن تخوض أولى معاركها السياسية والعسكرية ضدّ القوى الأكثر جذرية في التحالف الوطني الذي كان يقوده الشهيد الكبير القائد كمال جنبلاط. ولم تهدأ الأمور إلا في بداية التسعينيات، بعد «اتفاق الطائف»، وبعدما تراجع دور القوى التقدّمية الديموقراطية، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية متصلة بصراعات وتحوّلات لبنان والمنطقة والعالم.
وظيفة هذه الاستعادة التاريخية، هي كشف جزء مهم من أساس ما يتخذ اليوم من مواقف، لم تعد الأزمات المتلاحقة والمتفاقمة تسمح بتكرارها، على الصيغة والمحتوى نفسه. إنّ لبنان التابع والطائفي والمذهبي، هو، بالمقدار نفسه، لبنان المنقسم والمنتقص الوحدة الوطنية والسيادة والاستقرار. وحدها الأنانيات الشخصية والفئوية، هي ما يحول دون تشخيص حقيقي للمرض اللبناني، من أجل علاجه أو من أجل استئصال أسبابه. ولو شئنا أن نقول كلامنا هذا بطريقة أخرى، لكرّرنا أنّ الطاقم الحاكم في لبنان، هو العقبة المستمرّة والعنيدة، أمام إنقاذ لبنان واللبنانيين من معاناة مفتوحة على أسوأ الاحتمالات: من الاقتتال والفتن والحروب الأهلية، إلى التشظي والتشرذم والضياع، إلى تبديد النجاحات والتضحيات والانتصارات، إلى أطماع الأعداء المتربّصين المجسّدين في قوى المشروع الصهيوني وحماته، إلى تفاقم الأزمات المعيشية والاجتماعية والخدماتية، ومعها البطالة والكساد والفساد والهجرة...
ليس الرئيس بري في موقع كشف إفلاس النظام، وإن كان يسعى دائماً إلى التخفيف من أزمات أطرافه أو حتى ضحاياه، ولا الطاقم الحاكم في موقع اجتراح تسوية تاريخية لإنقاذ لبنان من سرطان الطائفية والفتن والانقسام والتبعية... إنّ هذه المهمة هي ما يجب أن يتولّى السعي إلى القيام بها فريق وطني ينهض من جديد، بعد غياب وسبات وعجز ومراوحة. وهذا الفريق لن يكون فريقاً تقليدياً، إنّما يجب أن ينشأ بروح التحدّي والتجاوز والمبادرة التي تميّز حركة شعوبنا من أجل الحرية، في هذه المرحلة التاريخية، على نحو خاص. وقد أثبتت التحرّكات الشبابية والشعبية، في الشهرين الماضيين في لبنان، استعداداً واستجابة لا يجوز إهمالهما وعدم السعي إلى استكمالهما بحركة سياسية ـــــ شبابية ـــــ شعبية مثابرة، تمثّل استمراراً وتطويراً لحركة التقدّم والتغيير في لبنان. فالشعب اللبناني قدّم مساهمات وإنجازات مدهشة في حقول متعدّدة، وهو بذلك أسّس لكثير ممّا يجري اليوم من تحوّلات ومخاض، أدّيا إلى الكثير من النجاحات ويعدان بالمزيد منها رغم عدوان الخارج واستبداد الداخل أو معاندته.
* كاتب وسياسي لبناني