يستطيع أعضاء في أمانة 14 آذار وآخرون أمثالهم في سواها، أن يهنّئوا أنفسهم بسبب ما يحصل في الشقيقة سوريا، وبسبب تعثّر تأليف الحكومة الجديدة برئاسة النائب نجيب ميقاتي. ويزيد في اغتباطهم أنّ ضجيج الاحتجاجات والاضطرابات في دمشق، خصوصاً، قد حجب الضوء عما يتكشّف من فضائح جديدة تطاول شخصيات وقوى تحالف 14 آذار في مسلسل ويكيليكس الذي تنشره «الأخبار»، الذي يتناول مراحل احتدام الصراع في لبنان، في السنوات السبع الماضية. والواقع أنّ كشف طبيعة وحجم العلاقات ما بين «الفريق السيادي» اللبناني، مع واشنطن خصوصاً (فضلاً عن المملكة العربية السعودية وفرنسا...)، هو الوجه الآخر لارتياح هذا الفريق للأحداث الجارية في سوريا. ففي الحالتين، تتكرّس معادلة تبعية الداخل للخارج في حالتي الخلاف والخصومة أو الاتفاق والتحالف.الخطير في الأمر هو أنّ هذه الفضائح تمرّ دون أدنى تأثير: فلا الرأي العام يحاسب، ولا القضاء يتحرّك، ولا المعنيون بالمعلومات والتقارير الفضائحية المتلاحقة، يجرون أيّ مراجعة أو نقد ذاتي، أو حتى مجرّد إبداء تفسير أو تبرير. حتى من كلّفوا أنفسهم عناء التوضيح، لم يتناولوا سوى التفاصيل والجزئيات، أما جوهر العلاقة مع طرف خارجي و«التخابر» مع هذا الطرف سياسياً وأمنياً، وخصوصاً إذا كان شريكاً في عدوان أو داعماً له، فلم يخطر ببال أحد.
وليس من الصعب الاستنتاج، بسبب عدم مساءلة المجتمع أو السلطة أو القضاء أو الذات، من أنّ ما كان بالأمس، مستمرّ اليوم، وسيُستأنف في المستقبل، مع قليل أو كثير من الحذر سواء بالنسبة إلى الطرف الخارجي، أو بالنسبة إلى الطرف الداخلي. ويزيد في الطين بلّة أنّ هذه الاكتشافات والانكشافات الفضائحية، ليست خارج التوقّعات. وهي تكاد لا تفاجئ أحداً في لبنان، إلا لجهة الاختراق الذي تعرّضت له وزارة الخارجية الأميركية. واستناداً إلى ذلك نستطيع أن نقرّر، بضمير خال من أيّ حرج، أنّ الاتصالات مع الدول الخارجية وممثليها مستمرّة والتقارير كذلك، ومع هذين كلّ أشكال المعلومات والتحريض والوشاية وتبييض الوجه والتسابق على نيل البركة والدعم والرضى.
يجب القول في خطورة ذلك أيضاً، إنّ الفريق المعني، لا يجد تناقضاً ما بين تقديمه التقارير والمعلومات والنصائح والطلبات لجهات خارجية، وادّعائه اليومي بأنّه إنما يمارس ذلك في مجرى دفاعه عن لبنان وسيادته ووحدته واستقراره وازدهاره. ولقد حاول البعض في الماضي رفع العلاقة مع الخارج إلى مستوى المهمة الوطنية الكبرى. ألم يقل أحد أركان «الجهة اللبنانية» في الماضي إنّ لبنان «إذا استقلّ اهتزّ وإذا استُتبع اعتز»؟ والواقع أنّ إقامة علاقة تعارف وتعاون مع القوى الخارجية، هي ليس فقط، إحدى علامات الشطارة اللبنانية التي يفاخر أصحابها بها، بل هي ثقافة أيضاً، جرى بناؤها وترسيخها وتعميمها، فأصبحت، فعلاً، أحد مكوّنات ومميّزات السياسة التقليدية اللبنانية.
لكنّ هذا الواقع المعيب لم يأتِ عفواً، ولا هو مجرّد نزوة ولو تكرّرت لأكثر من مرّة، ومن جانب أكثر من فريق. إنّ مصدر هذا الخلل كامن في النظام السياسي اللبناني نفسه. ولا بأس من تكرار أنّ هذا النظام يقسّم اللبنانيين، ويرسّخ في ما بينهم علاقة صراع وتنافس على الدور والنفوذ والثروة. وهذا الصراع يدفع كتلهم ومجموعاتهم إلى طلب الدعم من الخارج للاستقواء أو للدفاع عن وضع قائم. وبذلك يصبح الخارج مرجعية، إذ تتعطّل مرجعية الدولة اللبنانية وتنقسم مؤسساتها أو تُشل. ولا يندر، في مجرى ذلك، أن يبلغ النزاع حدّ الصراع العنيف والدامي، في حروب أهلية قد تمتدّ ساخنة سنوات طويلة، ثم تهدأ، بينما يبقى، بالتأكيد، الجمر تحت الرماد، ينتظر جولة جديدة بسبب احتدام وتفاعل تناقضات الداخل والخارج، العربي أو الإقليمي أو الدولي.
ومن نتائج ذلك، بعد العجز عن بناء دولة موحّدة وحصينة، وبعد الافتقار إلى امتلاك وحدة وطنية راسخة وأمينة، أن تنضوي الكتل اللبنانية المتصارعة في محاور وصراعات المحيط القريب والبعيد. ودائماً وفق اعتبارات خاصة لا عامة، فئوية لا وطنية. ويتصل بذلك أو ينجم عنه تغذية أو توسّل نزعات وغرائز أوّلية بدائية، ذات طابع طائفي أو مذهبي أو عرقي، كما يتمخّض ذلك عن منظومات عجيبة من المحفّزات والقيم الغريبة التي تصبّ جميعاً في جنون، يحلو للبعض أن يسمّيه، بادّعاء أو بوقاحة، «الفرادة» اللبنانية، أو «لبنان الوطن الرسالة في هذا العالم»!
ولقد عاش لبنان واللبنانيون مجدّداً في الشهرين الماضيين، نتائج هذا الواقع المشوّه الذي يتخبّط فيه بلدهم. لقد ازداد القلق، وكثرت التساؤلات، وتحرّكت، على أوسع نطاق، محاولات تأمين منافذ إلى بلاد الله الواسعة طلباً للأمان لا للرزق فحسب. وطبعاً، تراجعت معظم المؤشرات الاقتصادية، وإن كان أصحاب الاحتكار قد أطلقوا العنان لجشعهم، ودائماً دون حسيب أو رقيب أو ضمير.
وفي العودة إلى الاضطرابات في سوريا وانعكاساتها على لبنان، وبعيداً عما سيق من الاتهامات بالتدخل الأمني من جانب البعض في الشأن الداخلي السوري، فإنّ من نتائج التشوّه والخلل اللبنانيين، تمني البعض أن لا تقف المشاكل السورية عند حدّ، ولو هي بلغت الحرب الأهلية أو ما يضاهيها خطورة. لا يعبأ هؤلاء بالثمن الذي سيدفعه لبنان نتيجة ذلك، ولا طبعاً بمشاعر الأخوّة والشراكة. ما يحرّكهم فقط هو اعتبارات فئوية، واصطفافات في جبهات ومحاور أثبتت على الأقل بالنسبة إليهم، أنّها لا تسمن ولا تغني في المراحل الحاسمة والصعبة والمصيرية.
للأسف، لا يقتصر هذا المنطق الفئوي المدمّر على فريق دون سواه، وإن تباينت درجة الخطورة في النتائج تبعاً للطرف الخارجي عندما يكون صديقاً أو عدوّاً، عربياً أو أجنبياً. وبأشكال مختلفة أيضاً، مارست القوى غير التقليدية نسبة خطيرة من الالتحاق والارتهان، وإن جرى ذلك تحت شعارات أممية أو قومية... أو روحية أو مذهبية.
ولقد أدّى ذلك إلى جملة معوقات خطيرة تحول، منفردةً ومجتمعة، دون بناء دولة حقيقية، ووحدة وطنية راسخة، ومواطَنة تساوي بين اللبنانيين دون تمييز ومفاضلة وانتقاص من حقوق أو واجبات. وكان من نتائج ذلك أيضاً، أن تباينت المفاهيم وتضاربت المرجعيات وانعدم التمييز بين العدو والصديق، وبين الخائن والوطني، والبطل والمجرم، والمرتكب والمستقيم.
وتمضي أوضاعنا في هذا الانحدار، فيما تتلاحق المنعطفات والتحوّلات الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان والمنطقة، وإذ تسجّل حركة الاحتجاجات الشعبية، في كلّ البلدان العربية التي شهدتها، نجاحات كليّة أو جزئية، يباهي حراس النظام الطائفي بأنّهم قد حصّنوه طويلاً بالكثير من عناصر المناعة ضدّ التغيير، وضدّ التقدّم، وضدّ العصر. ونستطيع أن نشهد بأنّ في هذا الادّعاء كثيراً من الواقعية، لكنّ المعاناة تكبر باستمرار، وتكبر مع هذه المعاناة الأسئلة والتأفّف والقلق المتعدّد الأشكال والاتجاهات.
ويقودنا ذلك إلى طرح السؤال الكبير أيضاً، الذي يتردّد همساً أو علانية: أين أصبح التحرّك تحت شعار إسقاط نظام الطائفية السياسية؟ لماذا يتولّد انطباع متزايد، بأنّ هذا التحرّك قد توقّف كلياً أو جزئياً؟ لقد استجاب مواطنون بعشرات الآلاف، في العاصمة ومدن أخرى، لدعوات التظاهر والاحتجاج، وبحماسة بعثت أوسع الآمال في النفوس، بإمكان النهوض بعد تراجعات وخيبات متلاحقة.
وإذا كانت تلك الأسئلة موجّهة، بالدرجة الأولى، إلى الذين بادروا بإطلاق التحرّك من المجموعات الشبابية، فهي موجّهة قبل ذلك وبعده إلى قوى التغيير ورموزه وشخصياته التقليدية، التي عليها ألّا تكتفي بالمراقبة أو الدعم أو المشاركة. إنّ فعل ومشروع التغيير في لبنان يتطلّب صياغة جديدة ومبادرات جديدة. وهذا يستدعي، بسبب ما ذكرناه من تخلّف النظام السياسي اللبناني وتعاظم التشوّهات السياسية والاجتماعية النفسية التي تركها في الجسد اللبناني، مساهمات خلاقة من جانب القوى المعنية، وخصوصاً منها ذات الهمّة والتجربة والقدرة.
إنّه آوان العمل مجدّداً، على تأكيد ريادة الشعب اللبناني، لكن هذه المرّة بالتخلّص من ديموقراطيته المشوّهة التي بدت في وقت من الأوقات علامة تميّز أو حتى تفوّق أو تقدّم! إنّ السؤال الذي يُطرح اليوم، ليس «ما العمل؟»، لكن «متى يبدأ العمل؟».
* كاتب وسياسي لبناني