تمثل الثورات الشعبية الحاصلة اليوم انقلاباً سلمياً كاملاً على أنظمة عسكرية استمرت تحكم الشعوب العربية منذ ما يقارب من ثمانية قرون، أي منذ تفكك نظام الخلافة في بغداد، ودخول العرب عصر المماليك. قد يبدو من الوهلة الأولى أنّ في ذلك كثيراً من المبالغة، لكن وقائع التاريخ القديم ـــــ الحديث تدحض ذلك الأمر. لذا كان من الضروري تسليط الضوء على حكم العسكر (عامل أساسي من عوامل الثورة) على نحو مستقل، لكي نفهم جذور الثورات العربية من جوانبها المختلفة، وما قد يتولد منها من أنظمة جديدة مدنية وديموقراطية في المستقبل.وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة، في البداية، ما بين ضفتي المتوسط، نجد أنّ الشعوب الأوروبية عرفت أنماطاً عديدة من أنظمة الحكم طوال تلك الفترة المديدة، منها القبلي والديني والملكي والجمهوري والعسكري والفاشي والنازي والشيوعي، وأخيراً حكومة الاتحاد الأوروبي. في المقابل، لم تشهد الشعوب العربية إلا نمطاً واحداً في أغلب الأحيان. فمنذ ما قبل عصر المماليك، ومن ثم طوال مدة السلطنة العثمانية، ومن بعد ذلك خلال عصر محمد علي وحقبة الاستعمار وعقود ما بعد الاستقلال، كان في معظم الأوقات على رأس الحكم في البلاد العربية قائد عسكري، يتغيّر لقبه من حكم لآخر.
تعود جذور الحكم العسكري إلى عشية الحملة الصليبية الأولى على المشرق في 1095. عندها، كان نظام الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر قد ضعفا وأصبحت السلطة فيهما بأيدي القادة العسكريين. لكن الخليفة كان لا يزال يحتفظ بالمقام الديني وشرعية تعيين السلطان والأمراء وتعيين القضاة. ولكن مع توسع الحروب الصليبية، انتقلت السلطة بالكامل إلى أيدي القادة العسكريين والأمراء الإقطاعيين المرابطين في المدن والثغور، وذلك للحاجة إلى صد الهجمات والجهاد. وقد ظل ذلك الوضع قائماً طوال فترة الحكم الأيوبي، حتى سقوط الخلافة العباسية وقيام دولة المماليك في مصر والشام في 1260. في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ الشعوب العربية، لم يكن لأي امرئ أن يتصوّر أنّ نمط الحكم «العسكري الإقطاعي» الذي أرساه المماليك البحرية، في منتصف القرن الثالث عشر، سيستمر، بشكل أو بآخر، إلى بدايات القرن الواحد والعشرين.
إذ مثل المماليك، طوال قرنين ونصف، أرستقراطية حاكمة، فكانت دولتهم دولة عسكرية تجمع قادتها المصلحة الشخصية وعصبية المجموعة، وهو ما كان يؤدي إلى اقتسام البلاد وخيراتها وسيطرة الأقوى على الحكم بين أفراد المجموعة. من الناحية الدينية، حصل المماليك على شرعية الحكم بوصفهم القوة الحربية التي فرضت سيطرتها على البلاد والعباد، ونهضت بمهمة الدفاع عن الدين والعرض ضد الصليبيين والمغول. أتاح لهم ذلك استغلال تلك الشرعية لتعزيز نفوذهم ومصادرة الممتلكات وفرض الضرائب المختلفة. وخلال فترة حكمهم جرى تطويع كل شيء لكي يتناسب مع مصالحهم ومع حاجتهم إلى استمرار النظام العسكري الإقطاعي الحاكم. ولم يكن الأمر يجري اعتباطاً، بل كان من خلال عمل دقيق بهدف التحكم بمختلف مفاصل ونواحي حياة الشعوب العربية حينئذ.
في تلك الفترة، تحوّل الكثير من الأراضي إلى «إقطاعات حربية»، لا يجبى خراجها ولا تفرض العشور عليها، بحجة الإعانة الحربية. أما من الناحية الاقتصادية، فقد كان احتكار التوابل القادمة من الشرق من قبل أمراء المماليك، وبيعها للتجار الأوروبيين، بالإضافة إلى التلاعب بالعملة وأوزانها، العمود الفقري لجني الأموال الطائلة. وأما القضاء في عصر المماليك فأصبحت الأحكام فيه تطبق وفق ما يتناسب مع مصلحة السلطة، كما كان يجري في أموال الأيتام والأوقاف. أما على مستوى الجيوش، فقد عمل المماليك على الإكثار من شراء العبيد وتربيتهم وتنشئتهم على الولاء للحاكم لكي يكونوا جيشه الخاص ويكونوا عوناً وسنداً يعتمد عليه للاحتفاظ بالإمارة أو صد العدوان الخارجي. وللقضاء على الخصوم، كان السلطان الجديد غالباً ما يعمد الى قتل أعوان السلطان السابق ويستولي على أموالهم. بسبب كل ذلك، غدا نظام حكم المماليك متجذراً في ثنايا المجتمع العربي، وأصبح من القوّة بحيث يستحيل تغييره. حتى حينما خسر المماليك معركتي مرج دابق (1516) والريدانية (1517) أمام جيوش سليم الأول، بقي وجودهم أساسياً لإدارة شؤون البلاد المصرية والعراقية خصوصاً، في ظل السلطنة العثمانية. هكذا كسبوا حوالى 300 سنة إضافية، أي حتى قيام دولة محمد علي باشا الذي كان على دراية كاملة بقوة المماليك وسطوتهم، فسعى إلى إبادتهم عن بكرة أبيهم كي يستطيع أن يرسي نظام حكم جديد. لكن للأسف، كان نظاماً عسكرياً هو الآخر وإن كان نمطاً مغايراً يأخذ من أوروبا التقدم العلمي والحربي والمدني، إذ كان يبقي نظام الحكم عسكرياً وديكتاتورياً بيده.
ومن لحظة قيام السلطنة العثمانية لغاية سقوطها، كان الكثير من حكام الولايات في بلاد مصر والشام والعراق قادة جند أو أمراء يعينهم السلطان أو الصدر الأعظم لإدارة شؤون البلاد الأمنية والمدنية ومن أجل جباية الضرائب ولتسيير فرق الجنود في زمن الحرب.
ولم يكن عهد الاستعمار في العالم العربي مختلفاً عما سبقه، فمعظم الحكام المعيّنين لإدارة الانتداب كانوا ضباطاً أو من ذوي خلفيات عسكرية، أكانوا أنكليزاً أو فرنسيين. وهذا أمر طبيعي في ظل الاحتلال. ولكن ما لم يكن طبيعياً أن يستمر الأمر بعد الاستقلال. إذ إنّ الشعوب العربية التي كانت تتطلع إلى بناء دول عصرية يسوسها القانون، تحوّلت معظم حركات التحرر فيها إلى انقلابات عسكرية بلباس الاشتراكية، تدير العباد ومقدرات البلاد، كما جرى في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن.
وإذا ما قمنا بالمقارنة، لوجدنا تطابقاً مذهلاً في نمط الحكم الذي مارسه الحكام العرب في العصر الحديث مع ما كان يمارسه المماليك في الزمن الغابر. استُبدلت اليوم التوابل بالوكالات الحصرية، واستبدل الإقطاع ببيع ممتلكات الدولة بأسعار رمزية تحت حجة استصلاح الأراضي أو تشجيع الاستثمار، فتحوّل الاقتصاد كلّه إلى اقتصاد ريعي لفئة صغيرة من العسكريين وأعوانهم وأبنائهم. وبدل التلاعب بالعملة الذهبية وأوزانها، أصبح التلاعب بالنقد والبورصة من بديهيات جني الثروات لدى الفئة الحاكمة. كما جرى استبدال ما كان يعرف بـ«المماليك الخاصة» بجهاز أمن الدولة الذي يسهر على قمع الناس وتثبيت الحكم، وزج كل مناوئ في السجن. أما حماية الدين والأمة من الأعداء، فقد تحوّلت إلى حماية الأمة من المتآمرين أو الرجعية أو الشيوعية أو الإخوان المسلمين أو الإرهابيين، أو غيرها من الفزاعات. هكذا أصبحت «محاكم الثورة» كمحكمة البغدادي في مصر، والمهداوي في العراق، تنزل حكم الإعدام باسم حماية الثورة من الأعداء الداخليين والخارجيين. أما القضاء فأصبح يؤمن مشروعية الحصول على أصوات الناخبين والثروة غير الشرعية وحمايتها قانونياً. وما أورده ابن خلدون (وهو من عاصر المماليك الجركسية) في الكتاب الأول من مقدمته، وهو كلام منسوب إلى أنو شروان، أنّ «الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج»، إلا أدق ما يعبر عن ثقافة حكم لم تزل قائمة إلى يومنا هذا.

زمن الثورة وما بعده

من هنا، كان لا بد من طرح سؤالين بديهيين مرتبطين بمستقبل الثورات العربية الحاصلة اليوم: لماذا استمر حكم العسكر عند الشعوب العربية لثمانية قرون؟ وهل تغيّرت الحال لكي تقوم الثورات بعد طول انتظار؟ لقد استمر حكم العسكر لثمانية قرون لأنّ الشعوب العربية بطبيعة تكوينها وثقافتها تمثّل أرضاً خصبة لبروز ظاهرة الحكم العسكري الديكتاتوري بأنماطه المختلفة. فالمنطق يقول إنّه لا يمكن أن يكون سبب استمرار تلك الظاهرة خارجياً، وإلا كان بالإمكان تجاوزها بتغيّر الظروف خلال تلك الفترة الطويلة. فإذاً، لا بد أن يكون السبب داخلياً بالاستناد إلى عوامل ذاتية دينية وسياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تحتم بروز هذه الظاهرة وتغذي بقاءها.
لقد تغيّرت الحال وقامت الثورة بسبب التبدل الحاصل في العوامل الذاتية التي تحتم بقاء حكم العسكر. لقد كانت الشعوب العربية تتطوّر ببطء شديد جداً، غير أنّه في العقود الأخيرة تسارعت وتيرة التبدل حتى أصبح تغيير نظام الحكم أمراً لا مفر منه. بمعنى آخر، لقد قامت الثورة عندما اكتملت حلقة التغيير ـــــ وبخاصة في السنوات الستين الماضية ـــــ وذلك بسبب تعاظم سطوة «الإقطاع العسكري» من جهة، وتبدل معيشة الناس وتطوّر فهمهم السياسي والديني، وتطلعهم إلى دولة عصرية تدير شؤونهم من جهة أخرى. فتغيّر الأنظمة يأتي عادة بتبدل حال الناس الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وبروز جيل جديد يحمل ثقافة جديدة، ومطالب حثيثة لتغيير الوضع القائم ـــــ أي حالة شعبية عامة ضد الحالة السابقة. وما الثورات الحاصلة إلا التجسيد الأولي لتلك الثقافة المدنية، وهو ما سيحتاج إلى أعوام طويلة لكي يزهر دولة ديموقراطية لا مكان فيها لحكم العسكر. وذلك لأنّ العسكر سيحاول العودة إلى الحكم أو التأثير على من هو قائم به، فلن يكون من السهل الانقلاب على ثمانية قرون. لكنّهم سيجدون كما هي الحال في تركيا اليوم، أنّ الزمن قد تغيّر وأنّ الناس قد تبدلوا، فيصلون في نهاية المطاف إلى اليقين بعدم قدرتهم على الإمساك بالحكم من جديد وضرورة بقائهم في الثكن.

* كاتب لبناني