بات إعلان استقلال دولة فلسطين طقساً من طقوس القيادات الفلسطينيّة الساقطة. فعلها الحاج أمين الحسيني وحكومة «عموم فلسطين»، بعد احتلال 1948، وفعلها ياسر عرفات في 1988، بعد إجهاض الثورة المسلّحة، وها هو ـــــ أكبر من سقط في مسيرة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ـــــ أبو مازن يضيف طقساً آخر من إعلان فارغ آخر، لاستقلال غير ناجز، وضمن شرنقة من التبعيّة المطلقة للاحتلال وراعيه. كيف تؤيّد مشروعاً أبدى سمير جعجع حماسةً ظاهرةً له؟ أبدى وليد جنبلاط حماسةً منقطعة النظير لمشروع أبي مازن، وزاد معزوفة أنور السادات عن ضرورة إنهاء الحروب مع إسرائيل، وحمّل اليمين الإسرائيلي و«الممانعين» ـــــ والممانعون بتعريف جنبلاط (أسير العقل الطائفي البغيض) هم من لم يناصروا إسرائيل في حربها على لبنان في 2006 وفي حربها على غزّة في 2008. تعلم أنّ المشروع أكثر من مشبوه، عندما يروّج له جنبلاط والحكومة السعوديّة وجوقة التطبيع العربي. حتى سعد الحريري قطع إجازته الممتدّة لشهور طويلة، كي يصدر بيان تأييد لأبي مازن ـــــ ومن دون أن يكون قد كتب البيان الصادر باسمه أو قرأه. عندما تُجمع قوى الرجعيّة العربيّة على تأييد مبادرة أبي مازن، تدرك أنّ المشروع لا يمكن أن يصبّ في مصلحة تحرير فلسطين (ولا حتى 22% من فلسطين، وخصوصاً أنّ عبّاس لم يذكر في خطبته في الأمم المتحدة أنّه يريد تحرير أقلّ من تلك النسبة الصغيرة من فلسطين، لأنّه في كلّ مفاوضاته السريّة مع إسرائيل قَبِل بمبدأ إبقاء إسرائيل نحو 10% من الضفّة الغربيّة).وراء إعلان الاستقلال ما وراءه. الحاج أمين الحسيني أعلن استقلالاً عن أرض فشل في الحفاظ عليها (أجل، يُلام هو لأنّه اعتمد، بغباء مفرط، على الأنظمة العربيّة، وفشل أيضاً في عدم تعبئة الشعب الفلسطيني ضد الخطر الصهيوني، كما أنّه فشل أيضاً في حقبة ما بعد النكبة). لم يعلن أحمد الشقيري استقلالاً: هو كان مشغولاً بإلقاء الخطب، وكتابة المذكّرات، والتبجّح من على المنابر. عنده، الخطب الرنّانة والنبرة الجهوريّة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين. أما ياسر عرفات، فكان أحرص على قشور إعلان الدولة والرئاسة، من حرصه على تحرير الأرض. هو صعد على ظهر المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة، وعندما شُحذت الهمم وتفجّرت الحماسة، عاد وأجهض الثورة بنفسه، وقاد شعبه إلى هاوية أوسلو. ياسر عرفات أعلن دولة في 1988، قبل بضع سنوات فقط من التوقيع على اتفاق أعاق تحرير الدولة، ولو على 22% من أرض فلسطين. إعلان الاستقلال في 1988 صاغه محمود درويش، وأكثر فيه من الإشادة بالأديان وبالإشارة إلى الملاحم. (هل سيعدّ فراس إبراهيم مسلسلاً عن إعلان الدولة؟).
لكنّ محمود عبّاس توصّل إلى قراره في خريف عمره (الزمني والسياسي). لم ينجح ذلك الرجل في بناء سيرة ذاتيّة ذات عناصر مقاومة أو نضال، فقرّر أن ينهي حياته السياسيّة بصرعة لا مخاطر فيها ـــــ له هو. الرجل لم يحد أبداً عن صراط ولائه للمصالح الإسرائيليّة والأميركيّة، حتى قبل اتفاق أوسلو. مثّل محمود عبّاس اللوبي الإسرائيلي في داخل حركة فتح ومنظمة التحرير، منذ منتصف السبعينيات. هو كان قبل ذلك معادياً لليهود ومن الذين ينكرون المحرقة (كل أصدقاء إسرائيل في العالم العربي من كارهي اليهود ومن النازيّين أيضاً، حتى لا ننسى أنور السادات). لكن عبّاس كان في الظلّ: هو لم يبتعد عن الأضواء، هي ابتعدت عنه. وهو ليس بعيداً عن الاهتمام بقشور السلطة ومنافعها (يُسأل عن ذلك ياسر محمود عبّاس). لا، هو ليس فوق الصغائر، على العكس من ذلك. من يقرأ مذكّراته عن حقبة أوسلو يدرك كم أنّ الصغائر تعني له. تباهى بأنّ هنري كيسنجر هنّأه على أفعاله. ولمَ لا يهنّئه الصهيوني كيسنجر، وكل الصهاينة على فاحشة أوسلو، وهي في مصلحة إسرائيل، وقد أمدّت في أجل الاحتلال والعدوان؟ كان محمود عبّاس يفتقر إلى القاعدة الشعبيّة والقاعدة الحزبيّة، وله من الكاريزما ما لدى الدواجن من الكاريزما. كان عرفات هو الذي يحميه ويبقيه في الظلّ، حفاظاً على صحته وحياته، وحفاظاً على سريّة المفاوضات التي كان يجريها. لم يدخل أبو مازن في أتون لبنان، أثناء الحرب الأهليّة، وفضّل أن يبقى في دمشق، ويهتم بشؤون ماليّة الثورة ومتابعة الشؤون الإسرائيليّة (أخطأ في كتابه عن حقبة أوسلو، وعزا مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لثيودور هرتزل مع أنّ قائلها هو إسرائيل زنجويل ـــــ وعبّاس هو خبير الشؤون الصهيونيّة في حركة فتح).
قد يكون أبو مازن في فعلته قد فاجأ شعبه، لكن ذلك ليس إطراءً له. لم يعتد الشعب الفلسطيني من أبي مازن إلا الرضوخ المطلق لمطالب المحتلّ الإسرائيلي وشروطه، ولراعيه الأميركي. لم يحد أبو مازن عن ولائه لداعم إسرائيل الأقوى. وهو مدين بالكثير لإدارة بوش وإدارة أوباما. هو لم يأتِ بإرادة شعبه أبداً، حتى إنّ المدير السابق للموساد، إفرايم هليفي، اعترف في كتابه «رجل في الظلّ» بأنّ الموساد كان وراء فكرة استحداث منصب رئيس وزراء في السلطة الفلسطينيّة، وذلك من أجل أضعاف سلطة ياسر عرفات. أي أنّ محمود عبّاس لم يصعد بضغط شعبي، أو بإرادة من قيادات في حركة فتح التي طالما نظرت إليه بعين الريبة. فمحمود عبّاس لم يأت من أجل تمثيل إرادة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، بل من أجل تقويض إرادة القرار الفلسطيني المُستقل عن الاحتلال الإسرائيلي.
علم أبو مازن، الذي اعتكف نحو سنتين قبل اغتيال عرفات، أنّ الشعب الفلسطيني ينظر إليه كحميد قرضاي فلسطين. وقد اعتكف أبو مازن بعدما أطلق ياسر عرفات عليه ذلك اللقب في اجتماع فتحاوي عام. شعر عباس بالإهانة، إلا أنّ اعتكافه لم يطل، إذ إنّ مخطّط إدارة بوش احتاج إلى خدماته، بعد اغتيال ياسر عرفات. لم يملك أبو مازن، بحكم ظروف انتقائه وتعيينه، حريّة الاعتراض أو القرار. صحيح أنّه جرّ ما بقي من حركة فتح معه، لكنّه لم يفعل ذلك بالإقناع، بل بتلك الوسيلة التي سمحت لعرفات بالصعود في داخل الحركة، منذ أواخر الستينيات. ابتاع أبو مازن ما بقي من الكوادر، ومن مترهّلي الثورة الذين قال فيهم مظفّر النوّاب ما يستحقّون من نعوت وأوصاف. والمخيّمات الفلسطينيّة تعاني حالة فقر شديد، ما يسمح لفريق السلطة بالتسرّب عبر العوز والفاقة. إذا كانت منظمة التحرير هي «الممثّل الشرعي والوحيد» (والصفة فيها من عدم الديموقراطيّة ما فيها، إلا أنّها صيغت من أجل تفويت مؤامرات إسرائيليّة ـــــ أردنيّة أرادت خطف سلطة التمثيل الوطني الفلسطيني)، فإنّ منظمة التحرير اليوم ـــــ عبر سيطرة السلطة الفلسطينيّة ـــــ أصبحت هي المُموّل الشرعي والوحيد في الساحة الفلسطينيّة. قدرة حماس على المنافسة ضعيفة، لأنّ الراعي الأميركي قرّر منذ عهد كيسنجر أنّ تمويل مقاومة إسرائيل هو تمويل إرهابي. أخافت أميركا بعد 11 أيلول الحكومات العربيّة وأثرياء العرب، فشحّت الأموال، ثم نضبت (وحدها الجبهة الديموقراطيّة حافظت على قرشها الأبيض، لكنّها لا تخيف أميركا ولا تهدّد إسرائيل، وهي كانت لسنوات مُدلّلة من عمر سليمان، حتى إنّ كتاب نايف حواتمة عن «اليسار العربي» أفرد صورة تجمعه بعمر سليمان، لعلّه يعتبره نبراساً لليسار العربي وشرطاً لنهوضه). وأموال الحكومات العربيّة والحكومات الأوروبيّة وأموال أميركا كلّها تصبّ برضى إسرائيل في خزانة سلام فيّاض وعباس. وكلام الإدارة الأميركيّة على محاربة الفساد والشفافيّة، لا ينطبق على أدوات أميركا في المنطقة: من قرضاي إلى علاوي إلى الحريريّة إلى أبي مازن وأولاده، أو روحي فتّوح وصناديق سيّارته. (ثم ماذا حدث في التحقيق الرسمي في تهريب روحي فتّوح؟ إنّ التحقيقات الرسميّة في مخالفات السلطة الفلسطينيّة وفسادها وأقطابها تشبه تحقيق وزارة الداخليّة في لبنان في أمر أحمد فتفت وتسليم ثكنة مرجعيون).
لكنّ أبا مازن قرّر إطلاق مبادرته لا كبديل عن المسيرة الاستسلاميّة التي أرسى قواعدها هو وياسر عرفات قبل أوسلو. على العكس، فإنّ مرحلة أوسلو ترتبط بدور أبي مازن بالتفاهم مع ياسر عرفات (لم يصبح لأبي مازن استقلاليته، إلا بعدما قدّم الموساد اقتراح خلق منصب رئيس الوزراء الفلسطيني التزاماً بمقاطعة عرفات من قبل إدارة بوش). لم يرد أبو مازن أبداً إنهاء العمليّة التفاوضيّة، على العكس، هو لا يتوقّف عن استجداء عودة المفاوضات مع الإسرائيليّين. وشرط تجميد الاستيطان (لماذا فات شرط تجميد الاستيطان عن مفاوضي أوسلو إذا كان عبّاس قد استفاق بعد 18 سنة على ذلك الشرط «المؤقّت»؟) لم يأت من عند أبو مازن وفريقه من مهرّجي التفاوض المحترفين ـــــ محترفي التهريج، لا التفاوض. (من يتفاءل خيراً عندما يرى أبا مازن محاطاً بياسر عبد ربّه، نجم الفضائيّات السعوديّة، وصائب عريقات ورياض المالكي؟). إنّ شرط تجميد الاستيطان انطلق من إدارة أوباما نفسها، لكنّها تحت ضغط صهاينة الكونغرس والقاعدة الماليّة للحزب الديموقراطي، ما لبثت أن تراجعت عن الشرط وطالبت السلطة (الفارغة) الفلسطينيّة بأن تتنازل عنه. لم يعد لأبي مازن ما يتخلّى عنه. ترك كل ما لديه على عتبة مفاوضاته المهينة مع إسرائيل.
لكن السؤال المطروح هو في توقيت إعلان عبّاس، ولماذا قرّر في خريف عمره وتنصيبه أن يعارض المشيئة الأميركيّة والإسرائيليّة. قد يكون التوقيت مناسبة كي تفرض إدارة أوباما و«الرباعيّة» عودة أكيدة ومضمونة للمفاوضات، وذلك ما يكثر الحديث عنه هذه الأيّام. قد تكون المسرحيّة محاولة لإسباغ حد، ولو يسير، من الشرعيّة السياسيّة، كي يتسنّى لإسرائيل استدراج السلطة الفلسطينيّة إلى تنازلات تاريخيّة (جديدة) تُضاف إلى سلسلة من التنازلات التي درجت عليها منظمة التحرير منذ خروجها من بيروت في 1982. وهل تكون المسرحيّة مناسبة من أجل أن يقطف أبو مازن ثمناً متأخراً لمسيرة سياسيّة، شابها منذ البداية التوق الشديد إلى إسعاد العدو، والحصول على رضاه؟ ولماذا يصرّ عباس على ربط مبادرة طلب الحصول على مقعد الدولة بإعلان مُتكرّر عن عدم جدوى أي مقاومة ضد إسرائيل؟ والأخطر، حتى لو كانت المبادرة مبنيّة على نيّة حسنة ـــــ وهي ليست كذلك ـــــ فإنّ أبا مازن صريح في عدم تقديمه أي بديل، إذا لم يلاقِ طلبه القبول الرسمي من مجلس الأمن. ثم ماذا لو حصلت فلسطين على المقعد المذكور؟ ماذا يعني ذلك؟
نستطيع أن نستشفّ نيات عبّاس من خلال خطابه الطويل في الأمم المتحدة. لم يعتد عبّاس على إدراج جرائم إسرائيل، وهو لم يفعل ذلك إلا جزئيّاً وفي قضايا تفصيليّة في الخطاب المذكور، الذي لا يتمتّع بأسلوب محمود درويش (في إعلان الاستقلال السابق). لعل فراس إبراهيم كتب خطابه لعدم توفّر الأصل. عبّاس اعتاد الحرص على مشاعر إسرائيل ـــــ حكومة وشعباً مُحتلاً. لم يذكر الخطاب أبداً السلسلة الطويلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة التي ارتكبتها حكومة العدوّ. مثله مثل عرفات، يتحاشى عبّاس أن يستفيض في تنوير الرأي العام العالمي عن التاريخ الحقيقي، غير الموجز وغير المُبتسر، لإسرائيل. ويختلف ذلك كليّاً عن مسلك حكومة الكيان الغاصب التي لا تفوّت فرصة لرواية تاريخ الحرب العالميّة الثانيّة (وكأنّ أدولف هتلر نشأ في قرية فلسطينيّة)، من أجل ربطه بتاريخ مُزوّر للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، مع إدراج سلسلة طويلة من الجرائم التي تعزوها إسرائيل للشعب الفلسطيني ومقاومته المستمرّة.
كذلك، فإنّ أبا مازن طمأن العدوّ على أكثر من صعيد. هو التزم بخيار اللاعنف، ولن يحيد عنه. لكنّه لا يعني ما يقول، فعندما يقول أبو مازن إنّه ينبذ العنف، هو يعني فقط أنّه ينبذ العنف ضد إسرائل فقط، لأنّه يمارس خيار العنف ضد الشعب الفلسطيني. وهو يكرّر ذلك الالتزام ضد العنف، أينما حلّ، وأمام الجمهور العربي والغربي، على حدّ سواء (درج ياسر عرفات على إهمال الجمهور العالمي غير العربي ـــــ وحده الرجل الأبيض حاز انتباهه). وقد انتهج عبّاس في خطابه منهج سلام فيّاض المستحدث، ويكمن ذلك النهج في التخلي عن أي عداء ضد إسرائيل (عداء غير عنفي طبعاً، لأنّ شلّة أوسلو، مثل شلّة 14 آذار في لبنان، ترفض العنف ضد العدوّ، ولو من باب الدفاع عن النفس، وتحت أي ظرف). ياسر عرفات، على علّاته، رفض بعناد أن يتخلّى عن خيار العنف ضد العدوّ، وإن كان قد عطّله وحجّمه وقوّضه وحاربه، في منعطفات مختلفة من تاريخ المقاومة الفلسطينيّة. ويركّز منهج سلام فيّاض على التمييز بين الإسرائيلي المحمود، وبين المستوطنين الذين تجب مقاطعتهم (وفيّاض يتلقّى المديح بصورة يوميّة من العواصم الغربيّة، بسبب ما يُنسب إليه من عبقريّة اقتصاديّة، مع أنّ النمو الاقتصادي في الضفة الغربيّة تدنّى في النصف الأوّل من 2011 من 8% إلى 4%، فيما بلغ مستوى النموّ الاقتصادي في غزة 28 في المئة، وفق أرقام البنك الدولي، علماً بأنّ معظم حجم النموّ في الضفة الغربيّة يعود للمساعدات الخارجيّة التي تهطل على خدم الاحتلال في رام الله). وحتى مقاطعة إسرائيل واقتصادها مرفوضة من قبل سلام فيّاض، وقد ابتدعت السلطة خدعة مقاطعة المستوطنات من أجل وأد المقاومة السلميّة، ضد الاحتلال الإسرائيلي. وليس رفض مقاطعة إسرائيل وبضائعها وشركائها الاقتصاديّين أمراً عفويّاً، بل هو جزء من الالتزامات التي تتوجّب على فريق رام الله، مقابل دعمه من قبل الاحتلال، وراعيه في واشنطن.
وظهر منهج أبو مازن في خطابه عندما تعهّد لإسرائيل بأنّه لن يطالب بعزلها أو بالتشكيك بشرعيّتها (وكأنّ التشكيك بشرعيّة الاحتلال هو من اختصاص أو صلاحيّة عباس فقط). كما أنّه ربط ذلك بنبذ العنف في كلّ أشكاله. أي أنّ أبا مازن يستجدي مفاوضات مع إسرائيل، فيما هو يقدّم ـــــ قبل ختام المفاوضات ـــــ تنازلات على كل ما لدى الشعب الفلسطيني من عناصر قوة وخيارات. فلم يبق إلا «التظاهرات السلميّة» التي وعد بأنّها لن تخرج عن السيطرة. ولقوّات أمن أبي مازن خبرة في قمع التظاهرات، وفي حماية أمن إسرائيل. وقد أشادت الحكومة الإسرائيليّة، وفق الصحف الإسرائيليّة، بقدرة عباس على السيطرة على وضع الشارع الفلسطيني في هذه الفترة الحرجة.
أكثر من ذلك، إنّ أبا مازن سيفرّط بمكامن القوّة المُفترضة في إعلان الدولة قبل إعلانها. روت مجلّة «إيكونومست» الرصينة أنّ المجموعة الأوروبيّة دخلت في مفاوضات مع السلطة الفلسطينيّة، للحصول على تعهّد رسمي بعدم مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة، أي أنّ السلطة تزهو بقدرات مفترضة (في العلن في خطب أمام الجمهور العربي)، فيما هي تفرّط بتلك القدرات في اجتماعات سريّة. وديدن النفاق لدى فريق سلطة رام الله برز في «الأوراق الفلسطينيّة» التي نشرتها «الجزيرة» (لكن المحطة عادت وتوقّفت عن الإشارة إليها، لأنّ انخراط الحكومة القطريّة في الثورة المضادة توافق مع توجّهات السلطة الفلسطينيّة). إنّ تلك الوثائق لم تظهر فقط تفريطاً في الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطيني، بل أظهرت على المستوى المهني تقصيراً وعدم كفاءة فظيعة من قبل فريق يتفاوض بالنيابة عن واحدة من أهم قضايا القرن العشرين. ثم ألم يستقل صائب عريقات من منصبه، بعدما تبيّن أنّ التسريب حدث من مكتبه هو؟ كيف عاد عن استقالته هكذا؟ لكن من يتعامل مع سلطة رام الله على أنّها مجموعة جديّة في أمر، أيّ أمر؟ والمحكمة الجنائيّة الدوليّة هي أداة بيد واشنطن، تحرّكها كما تحرّك الأمم المتحدة. وأبو مازن لن يقضّ مضاجع من جاء به إلى السلطة أساساً. ويضيف عباس إنّ الحصول على المقعد سيحوّل الأسرى الفلسطينيّين والفلسطينيّات إلى أسرى حرب، وكأنّ تغيير الصفة في القانون الدولي سيعني الكثير لدولة العدوّ التي امتهنت تجاهل القرارات الدوليّة والقانون الدولي. ثم لو كان أبو مازن حريصاً على وضع أسرى شعب فلسطين، لما قامت قوّات أمنه بتسليم مطلوبين فلسطينيّين، وبمساعدة إسرائيل على قتل مناضلين وأبرياء.
هناك ما هو مشبوه، وما هو مريب. يتم إعداد أمر ما. لن يصدر عن مطبخ أوسلو ما هو في مصلحة قضيّة فلسطين. هناك مماطلة واضحة في تقديم الطلب إلى الأمم المتحدة، وفي الإصرار على تصويت عاجل في مجلس الأمن. يفسح أبو مازن المجال أمام الراعي الأميركي كي يأخذ وقته ليضغط على الدول الأعضاء في مجلس الأمن، كي يُرفض طلب الانتساب، ومن دون فيتو مُحرج للإدارة الأميركيّة (يجب على القرّاء الاطّلاع على المقالة المتعلّقة بالضغوط الأميركيّة على أعضاء مجلس الأمن في 1947، من أجل تمرير قرار تقسيم فلسطين الجائر في كتاب وليد خالدي الموسوعي، «من الملجأ إلى الغزو»). كما أنّ السلطة الفلسطينيّة تكرّر قبولها بالعودة إلى المفاوضات المباشرة، بالإضافة إلى سلسلة من المفاوضات السريّة التي عقدها عبّاس مع مسؤولين إسرائيليّين في الأشهر الماضية.
سيذكر التاريخ الفلسطيني أبا مازن. سيذكر أنّه كان صنو أنطوان لحد في لبنان. سيذكر أنّه صعد إلى قيادة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بإرادة أعداء الشعب الفلسطيني واستمرّ في منصبه بالمال والخداع والقوّة المسلّحة (بإمداد إسرائيلي ـــــ عربي، وتمويل أميركي). وسيذكر التاريخ أنّ الشعب الفلسطيني الذي ولّد حركات وأفكاراً وشخصيّات خلّاقة، أنتج أسوأ نماذج لقادة الحركة الوطنيّة الأربعة، من الحاج أمين الحسيني إلى ياسر عرفات، وليس انتهاءً بذاك الذي يفتقر إلى القاعدة الشعبيّة. لكن مسيرة قضيّة فلسطين استمرّت لأكثر من قرن من الزمن، وهي تستمرّ. هي تمرّ بمنعطفات خطيرة، ومراحل متعدّدة، وتبقى جذوة الرفض والمقاومة. والهزيمة والتقصير يرتديان أزياء مختلفة، وعناوين متنوّعة ومزركشة. ثم ماذا يعني إعلان الدولة (للمرّة الثانية أو الثالثة) إذا كان المُعلن حليفاً للمحتلّ؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)