خلافاً لما اعتقده كثيرون، ولا سيما المقرّبون من النظام السوري (ممّن تصرّفوا على عادة اللبناني في أن يكون ملكياً أكثر من الملك)، تبدو الأمور في سوريا متجهة نحو مزيد من التأزّم. فالوضع السوري، بسبب التناقضات الداخلية، السياسية والاجتماعية، يتغذّى بمزيد من عناصر التوتر. والسلطة تحدّثت عن الحوار والإصلاح، لكن اختارت المعالجة الأمنية مدخلاً لذلك، مما ألقى بظلال كثيفة من الشكوك حول حقيقة قبولها للإصلاح، في المبدأ وفي الممارسة. في امتداد ذلك، دخل العامل الخارجي بقوّة على خط الأزمة السورية. ويتّضح مع كلّ طالع شمس أنّ ذلك الدخول لا يرمي إلى دعم المطالب الإصلاحية والتغييرية في الشقيقة الأقرب، بل هو يستهدف بعض سياسات النظام السوري المعترضة على عدد من جوانب المشاريع والخطط والسياسات الأميركية والإسرائيلية، حيال الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وحيال محاولات زيادة التأثير الأميركي في المنطقة، التي تتمّ بكلّ الوسائل بما فيها القوة والغزو والاحتلال.ويمثّل الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب لبحث الوضع في سوريا، الأحد الماضي، في القاهرة، عنصراً من عناصر التوتر المشار إليه. وهو يكتسب أهمية مضاعفة بسبب دلالاته وأهدافه والقرارات التي صدرت عنه. فالاجتماع الذي يبدو وكأنّه صحوة عربية متأخرة، أو محاولة ممارسة دور مفقود للجامعة العربية، ليس هو في الواقع كذلك. بكلامٍ آخر، لسنا أمام محاولة تعريب للأزمة السورية، يستهدف من خلال السعي إلى إيجاد حلّ لها، إعادة الحياة والاعتبار، أيضاً، للجامعة العربية. الصحيح أنّنا أمام استمرار محاولة تدويل الأزمة السورية، واستخدام الدور الرسمي العربي في محاولة تذليل العقبات التي تحول دون أن يكون ذلك التدويل مباشراً وفاعلاً، على غرار ما حصل ويحصل في ليبيا.
لسنا بحاجة إلى إعطاء براهين على أنّ دول مجلس التعاون الخليجي لا تتحرّك، حتى في الأمور الثانوية، بدون قرار من الإدارة الأميركية ومن حلفائها. ولسنا بحاجة إلى تذكير أحد، بأنّ الدول الأساسية في مجلس التعاون الخليجي (السعودية أوّلاً) لم تعمل يوماً من أجل الإصلاح، ولا مارسته، ولا قدّمت دعماً لدعاته. على العكس من ذلك، فتلك الدول، بمعظمها، تواصل أسوأ أنواع القمع والمنع والتمييز والتخلف في الداخل، وأسوأ أنواع التبعية والالتحاق بالخارج... ذلك على حساب كلّ القضايا العربية الأساسية: من قضية فلسطين، إلى قضية الثروات، إلى قضايا النمو والودائع والسلاح والأمن والاقتصاد والحريات...
ولقد كان الأجدى، طبعاً لولا أنّ الحرص على الإصلاح هو ما يحرّك قادة دول مجلس التعاون الخليجي، أن يبادر القادة الخليجيون إلى دعم الحوار في البحرين، بدل إرسال قوات «درع الجزيرة» لإخضاع الشعب البحريني ولدعم الحكم المتهاوي في «المنامة». وكان الأجدى، أيضاً، بالحلف الجديد بين سلطتي الرياض والدوحة تحت السقف والتوجيه الأميركي، أن يبادر إلى التحرّك لوقف المجزرة في اليمن، ليس فقط على قاعدة أنّ الأقربين أولى بالمعروف، بل لأنّ ما يعيشه اليمن من القتل والمجازر والانقسام والتدمير... إنّما هو أسوأ وأخطر بكثير مما تعانيه سوريا. على العكس من ذلك، استضافت قيادة المملكة السعودية الرئيس علي عبد الله صالح حتى شفائه تماماً، مزوّداً بعد لقاء الملك، بدعم عبّر عنه بالمزيد من استخدام القوة والعنف والإصرار على المناورة وكسب الوقت. إنّه يراهن على الموقفين الأميركي والسعودي للمضيّ في إرهاق الحركة الشعبية الاحتجاجية الهائلة والمدهشة، وفي دفع اليمنيين إلى الخيبة واليأس والتسليم بالأمر الواقع!
لا يتحرّك قادة دول «مجلس التعاون الخليجي» إذاً من أجل الإصلاح: لا في سوريا ولا في اليمن ولا في البحرين ولا مصر ولا... في السعودية التي لا تزال سلطاتها تعتقل النساء البحرينيات اللواتي يتمرّدن على قرارات جاهلية، من نوع منع المرأة من مجرّد قيادة سيارة حتى لو كانت مع محرم من أفراد عائلتها!
ولا يتحرّك هؤلاء في الأمور العامة، إلا بقرار أميركي! ذلك هو الواقع الذي يحكم مبادرة دول «مجلس التعاون الخليجي» في دعوتها إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب لبحث الوضع في سوريا. إنّ مجلس التعاون يحاول أخذ المبادرة في رفع الغطاء الرسمي العربي عن النظام السوري. وهو يحاول إحراج كلّ من القيادة الروسية والصينية، والتمهيد لجولة جديدة من الضغوط الأميركية والغربية على دمشق، يتمكّن معها مجلس الأمن من اتخاذ قرارات «حماية الشعب السوري»، ومن ترجمة تلك الحماية، إذا أمكن، بتدخل عسكري، في وقت لاحق.
ولو كان الأمر غير ذلك، لما صدرت قرارات المجلس الوزاري العربي وفق الصيغة التي أعلنت بعد الاجتماع. فالقرارات تستفزّ النظام السوري، إلى حدّ إعلان ممارسة وصاية عليه في مسائل المهلة القصيرة (أسبوعان)، وفي المكان (القاهرة)، وفي فرض المحاورين (دون تشاور معهم ومع السلطة) وفي رئاسة اللجنة المكلّفة التي تدير حرباً إعلامية فاضحة في انحيازها ضدّ النظام السوري...
ليس المشهد سوريالياً، بل هي سخريات القدر، أن يصبح «مجلس التعاون الخليجي» بقيادة المملكة العربية السعودية، هو من يواصل معركة الإصلاح والحريات في العالم العربي. يعود «فضل» أساسي في ذلك، للأسف، إلى ورثة مطلقي شعارات «الوحدة والحرية والاشتراكية» في أواسط القرن الماضي. أما التتمة ففي تتابع حلقات الضغط على النظام السوري، في الداخل ومن الخارج، من أجل إسقاطه، بعدما إرهاقه وإغراقه في مشاكله الداخلية، طيلة ما يزيد على السبعة أشهر. ولن نتوقّع، إذاً، إلا المزيد من أشكال الضغط المنسّق السياسي، الأمني، العربي والدولي، على دمشق. وكذلك المزيد من الصراع الداخلي الذي يتجه سريعاً نحو العنف المسلّح المقرون بانقسامات عصبية هي أيضاً، أداة رئيسية، في مخطط تفتيت دول المنطقة لمصلحة المشروع الصهيوني «اليهودي» في فلسطين!
لا بدّ من أن نلاحظ في سياق ذلك، نجاحات أميركية ــ خليجية، إضافية في مجال زيادة التأثير على الوضع العربي عموماً، والمصري، خصوصاً. يستخدم في ذلك المال والرشوة (كما في تونس ومصر). وتُستخدم المناورات والمرونة (كما في الأردن). كذلك تُستخدم التسويات (كما في صفقة تبادل الأسرى).. ذلك فضلاً عن الفبركات وحروب الاستخبارات سواء كان الإيراني مخطئاً ومستدرجاً، بريئاً ومظلوماً...
فهل، بعد ذلك، من خيارات أمام القوة المعترضة، جزئياً أو نسبياً على الخطة الأميركية. وهل يمكن، بالمقابل، كما يحاول الخصوم والأعداء، إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد؟ ذلك ما يجب أن تطرحه على نفسها وفي مداولاتها، أساساً، القيادة السورية. ونجاح أيّ استنتاج صحيح، مشروط، بعد ذلك، بالعودة إلى الحوار... إنّ سحب البساط من تحت أرجل المتربّصين، لا يمكن أن يتمّ إلا بالسعي الرسمي السوري نحو حوار حقيقي. ولن يحصل ذلك بغير «جنوح» فعلي، لجعل الحوار أداة فورية لتوسيع المشاركة في هم معالجة الأزمة الوطنية في سوريا. يحصل ذلك، مثلاً، من خلال لجنة طوارئ مؤقتة، تتابع شؤون البلاد السياسية والأمنية. في الوقت نفسه، تنشأ أيضاً لجان جدية هي الأخرى، لمتابعة سريعة لملف الإصلاحات بعيداً عن المناورة والشكليات وكسب الوقت.
لن يتردّد خصوم النظام السوري في معركتهم لإسقاطه. سيستخدمون كلّ الوسائل و«الأماكن» والقوى الضرورية لنجاح تلك المهمة. لا مخرج إلا بتصالح النظام مع القوى الإصلاحية السورية المستقلة والرافضة للتدخل الخارجي، وهي فعلاً، من يمثّل ضمير ومصالح أكثرية الشعب السوري. المردود ليس شكلياً: ولوج طريق الإصلاح وعدم التفريط بالاعتراض على الخطط الأميركية ــ الإسرائيلية في المنطقة واستعادة زمام المبادرة من القوى المعادية في داخل الوطن العربي وفي الخارج. تلك مهمة إنقاذية سورية وعربية في آن معاً!
* كاتب وسياسي لبناني