تبرز في مسألة الانسحاب الأميركي المرتقب من العراق قضيّة الاتفاقية الأمنية الموقعة بين بغداد وواشنطن، وموادها التي يعدّها البعض مجحفة بحق العراق. فالبصمة الأميركية المسيطرة واضحة في مواد عدّة تتعامل مع العراق كبلد ضعيف ودون إرادة وسيادة خاصة به. الاتفاقية تلك كانت محور مفاوضات منذ أشهر بين المالكي وأوباما لتعديلها على أمل إبقاء المزيد من الجنود في بلاد الرافدين، دون جدوى. في المقابل، تنظر طهران بعين الرضى إلى الانسحاب الذي يعزز قوتها في الخليج، برحيل عدوها الأبرز، ليترك لها المنطقة، لكن ليس قبل أن تدور معركة شد وجذب بين الطرفين، وخصوصاً أنّ الأميركيين لن يغادروا كلياً، وقد يعودون، كما يتمنى الساسة الجمهوريون

الاتفاقية الأمنية: حساب السلب والإيجاب



علاء اللامي *
كعادتها، لجأت الحكومة العراقية إلى ابتكار اسم آخر للاتفاقية الأمنية المعقودة بينها وبين سلطات الاحتلال. تكرر ذلك التكتيك مراراً، آخرها كان حين عمدت إلى استبدال اسم «عقود المشاركة في الإنتاج النفطي» سيئة السمعة عالمياً، باسم آخر هو «عقود التنقيب والإنتاج»! لكن، بعدما ساد اسم «الاتفاقية الأمنية» طيلة فترة التخطيط والتفاوض على ألسنة الجميع، بمن فيهم أقطاب الحكم، فقد غدا الاسم الآخر لا قيمة تداولية له. من ناحية أخرى، وفي ما يتعلق بالشكليات أيضاً، فربما تكون تلك الاتفاقية هي الوحيدة بين الاتفاقيات الدولية التي صدرت منها نسخ عدّة مختلفة عن بعضها إلى ذلك الحد أو ذاك، وبما يشي بأنّ ذلك الاختلاف مقصود، وأنّ هناك أطرافاً لها مصلحة في التشويش على النص الحقيقي لها. ذلك، رغم أنّ صحيفة الحكومة الرسمية «الصباح»، نشرت بتاريخ 19/1/2009 نصاً قالت إنّه النص الرسمي للاتفاقية، لكن النسخ المختلفة استمرت بالصدور، وبالتالي استمرت التشكيكات حتى بتلك النسخة. مع ذلك، سنركز في قراءتنا هذه على الأمور المركزية التي وردت في جميع النسخ الصادرة من الاتفاقية الأمنية. لنبدأ أولاً بإلقاء نظرة على سجل الإيجابيات المزعومة التي تتميّز بها الاتفاقية. هنا،لا نجد الكثير، مهما بحثنا في عشرات المقالات التي دبجها المدافعون عن الاتفاقية، وهم أنفسهم أولئك المدافعون عن خيار تغيير النظام السابق عبر الحرب والاحتلال، ربما باستثناء ما تكرر كثيراً من قبيل إنّها تضمن انسحاباً هادئاً وكاملاً لقوات الاحتلال، دون أن يتعرض البلد إلى الصوملة والتدمير الشامل. وكأنّ ما حدث على الأرض طوال سنوات الاحتلال الثماني، من تدمير وقتل ونهب، لم يكن كافياً شاملاً! هناك كلام طويل وعريض عما سيعود به الانسحاب من اتفاقيات تعاون ومساعدات أميركية كثيرة وواسعة، كما يزعمون، في ميادين الاقتصاد وبناء الجيش. والحال فالاعتراض ليس على الانسحاب بحد ذاته، بل على الطريقة والشروط التي سيتم بها، مما سيجعله أشبه بإعادة انتشار أو انسحاب محدود منه إلى الجلاء الكامل. ثم أين هي ثمار التعاون وإعادة الإعمار وبناء الجيش الجديد بعد ثماني سنوات وهي التي انتهت بفضائح السرقات الكبرى والنهب المنظم لثروات العراق وأرصدته في الداخل والخارج؟ أما في سجل السلبيات فـ«الخير» وفير: تطعن نصوص الاتفاقية في صميم، وبشكل لا لبس فيه، مزاعم السيادة الوطنية والاستقلال لدولة جمهورية العراق وتكشف أنّ النديّة الموحى بها في العديد من المواد زائفة وغير حقيقية. الأدلة على ذلك كثيرة منها، مثلاً:
- خرق السيادة الجوية العراقية خرقاً مباشراً من خلال تطبيق المادة التي تنص على وجوب التصريح «لطائرات حكومة الولايات المتحدة والطائرات المدنية التي تعمل بموجب عقد مع وزارة دفاع الولايات المتحدة حصراً، بالتحليق في الأجواء العراقية، والقيام بالتزود بالوقود جواً لأغراض تنفيذ هذا الاتفاق حصرياً». ولا يتطلب الأمر سوى إذن سنوي روتيني تصدره الحكومة العراقية للطائرات الأميركية.
- خرق السيادة البرية العراقية خرقاً مباشراً وفظاً، من خلال تطبيق المادة التي تنص على وجب أن تصرح الحكومة العراقية «للمركبات والسفن التي تستخدمها قوات الولايات المتحدة، أو تلك التي تدار لحسابها حصراً، أن تدخل وتخرج وتتحرك داخل الأراضي العراقية...».
تُرِكَت صيغة طلب المساعدة من قوات الاحتلال الذي تقدمه الحكومة العراقية عائمة، ليفهم منها أنّها أقرب إلى الوجوب المفروض على الطرف العراقي، وأنّها تتعلق بالحاضر، مثلما تتعلق بالمستقبل. فتلك الصيغة تخلو مثلاً من عبارات محددة تفيد في تفسير الجانب الأسلوبي والقانوني فيها كالقول «يحق للطرف العراقي أن يطلب من القوات الأميركية المساعدة في حالات معينة منها...»، بل وردت تلك المادة بالصيغة التالية: «تطلب حكومة العراق المساعدة المؤقتة من قوات الولايات المتحدة لمساندتها في جهودها من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار في العراق...». هذه العبارة العائمة يمكن أن تعني أنّه على الحكومة العراقية واجب طلب المساعدة الأميركية، وقد تعني أنّ طلب المساعدة من جانب الحكومة العراقية أمر مفروغ منه، ويتم تقديم المساعدة والقيام بالتدخل العسكري الأميركي فوراً، دون الحاجة إلى طلب رسمي مكتوب. على الأرض، وخلال التطبيق الفعلي للاتفاقية حتى الآن، فإنّ التفسير الأخير هو الذي ساد وطبق. بل شهدنا عمليات عسكرية كثيرة قامت بها قوات الاحتلال بمفردها، ودون أن يعلن عن صدور طلب عراقي رسمي وفي مناطق هادئة أمنياً تماماً، في الجنوب والفرات الوسط. عبارات عائمة وغامضة أخرى نجدها في الفقرة الخامسة من المادة الرابعة التي تنص على التالي: «يحتفظ الطرفان ــ الأميركي والعراقي ــ بحق الدفاع الشرعي عن النفس داخل العراق كما هو معروف في القانون العراقي النافذ». تلك الفقرة مثيرة للسخرية فعلاً، فهي تساوي بين المحتل والحاكم المحلي في ممارسة حق الدفاع عن النفس. وبما أنّ الفقرة لم توضح الطرف الذي يستهدف الحكومة المحلية والاحتلال بالهجوم ليمارسا حق الدفاع عن النفس ضده، فمن المنطقي أن يكون المقصود هو الطرف العراقي الداخلي المعارض للحكومة المحلية. بمعنى أنّ هناك تحالفاً عسكرياً حقيقياً، تؤكده هذه المادة، بين الاحتلال والحكومة العراقية المحلية ضد الطرف الشعبي العراقي الذي قد ينتفض أو يثور على الحكومة. يسجل المراقبون والمحللون لنصوص الاتفاقية نوعاً من التمييز القضائي الصريح، والأفضلية الواضحة، للطرف الأميركي على الطرف العراقي. فالمادة الرابعة تقرر أن «يكون للعراق الحق الأولي لممارسة الولاية القضائية على أفراد قوات الولايات المتحدة وأفراد العنصر المدني بشأن الجنايات الجسيمة والمتعمدة وطبقاً للفقرة الثامنة حين ترتكب تلك الجنايات خارج المنشآت والمساحات المتفق عليها وخارج حالة الواجب». لكن يبقى ذلك الحق محدوداً ومنقوصاً من الناحية الجغرافية، لأنّه يتعلق فقط بالجنايات الجسيمة والمتعمدة، خارج المنشآت والمساحات التي تسيطر عليها القوات الأميركية. بمعنى أنّها تستثني العسكري الأميركي إذا كان خارج حالة أداء الواجب. أي إنّ الجندي المقاتل يبقى خارج نطاق الولاية القضائية العراقية، ما دام مرتدياً بدلته العسكرية وحاملاً سلاحه، وأنّ السيادة العراقية لا تشمل تلك الأماكن، فهي سيادة ناقصة، وبما أنّ السيادة الناقصة لا تعريف لها في الفقه القانوني الدولي، فهي إذن فقدان سيادة والاحتلال مباشرة. وثانياً صيغة المادة غامضة بنحو مقصود لتكون فارغة المحتوى وغير قابلة للتطبيق، لأنّها تقتصر الأمر على «جنايات جسيمة ومتعمدة»، فكيف يمكن أياً كان أن يحدد المقصود بالجناية الجسيمة وحجمها، وكيف يتم التأكد من كونها مقصودة أو لا بوجود مفهوم «النيران الصديقة» والتبريرات العسكرية الأخرى لعمليات القتل المتعمد؟
في المادة الخامسة عشرة من الاتفاقية الأمنية نجد خرقاً لسيادة العراق الاقتصادية على أراضيه وثرواته. فجيش الاحتلال، خلال فترة الانسحاب، سيتصرف كدولة مستقلة من الناحية الاقتصادية، إذ تنص المادة على التالي: «يجوز لقوات الولايات المتحدة والمتعاقدين معها أن يستوردوا إلى العراق ويصدروا منه «مواد تم شراؤها في العراق» ويجوز لهم أن يعيدوا تصدير، وان ينقلوا ويستخدموا في العراق أي معدات أو تجهيزات أو مواد أو تكنولوجيا أو تدريب أو خدمات». واضح أنّ الصيغة العائمة والمفتوحة تسمح لجيش الاحتلال بالكثير من النهب والسرقة، دون محاسبة أحد على ذلك.
كذلك سكتت نصوص الاتفاقية سكوتاً مطبقاً على موضوع التعويضات التي على الطرف الغازي والمحتل أن يقدمها للطرف العراقي، خصوصاً الضحايا المدنيين الأفراد الذين قتل مئات الآلاف منهم باعتراف قوات الاحتلال، ولم يعوض على ذوي أحد منهم باستثناءات نادرة جداً (حين أثارت الجرائم المرتكبة أصداء إعلامية صاخبة). ولم يطلب من الجانب الأميركي التعويض عن التدمير الشامل الذي لحق بالبنية التحتية العراقية، وحوّل العراق إلى دولة تعيش في العصر الحجري كما سبق لبوش الأب أن توعد خلال حرب «عاصفة الصحراء». الأدهى والأمرّ من ذلك هو أنّ على العراق أن يدفع مئات الملايين للعديد من قتلى الجيش الأميركي، وعما سمي «احتجاز مواطنين أميركيين في العراق خلال تلك الحرب». لا جدال في أنّ تلك سابقة تاريخية، إذْ لم يحدث قط في تاريخ العالم أن قدم شعب أو بلد تعويضات لغزاة دمروا بلده وقتلوا قرابة المليون من سكانه.
* كاتب عراقي

■ ■ ■

استقطاب بين طهران وواشنطن



محمد صادق الحسيني *
ما يريده ويتمناه صاحب القرار الإيراني المكلف التعاطي مع الشأن العراقي هو انسحاب أميركي نام وكامل. غير أنّ رجال «دبلوماسية حياكة السجاد»، وهم الأدرى بما يحيط من صعوبات بصاحب القرار العراقي، يدركون تماماً أنّ مثل ذلك الهدف الأسمى قد لا يكون في متناول لاعبي السياسة العراقيين في أوقات الشد والجذب المحلية والإقليمية والدولية التي نعيشها.
لذلك، هم يتمنون، ويعملون على مساعدة حاكم للعراق إذا ما اضطر، القبول، تحت وطأة تواطؤ عوامل الداخل مع الخارج، ببقاء بعض قوات الاحتلال، مشروطاً بتوسل أميركي تكون فيه الكلمة الأخيرة للعراق الجديد وأن يكون الوجود الأميركي الباقي بحجة الحماية والتدريب. في المقابل، لن يسمح صانع القرار الإيراني، تحت أي ظرف كان، أن يستمر الوجود الاحتلالي للعراق على صورة قواعد عسكرية أو قوات ذات شأن، يمكنها أن تصول وتجول محتمية باتفاقات ثنائية تمنحها الحصانة وتعطيها صورة المنتصر أو المرفوع الهامة.
أقرب رجالات العراق المحسوبين على كفة الميزان الإيراني، أبلغ أشقاءه الإيرانيين أنّه كان واضحاً في آخر اجتماع له مع الأميركيين وبعض زملائه من حكام العراق في أنّه لن يقبل ببقاء جندي واحد فوق أرض العراق بعد نفاد موعد الاتفاقية الأمنية الثنائية بين بغداد وواشنطن، مهما كانت الظروف. بالطبع، يعرف الإيرانيون من جهتهم أنّ العراق ليس الجعفري وحده، وهم أكثر الناس «عملانية» في التعاطي مع حقائق الميدان على أرض جارهم. لكنّهم يعرفون أيضاً أنّ حتى ذلك العراق القلق، يمكن أن يحوّل ساعة يشاء التحالف المقاوم الممتد من النجف إلى قندهار مروراً ببحري خليج فارس والأحمر وحوض المتوسط، إلى رقم قوي ومقلق للأميركيين، ما قد يجعلهم يتوسلون الخط الأحمر الساخن مع طهران، تجنباً لمفاجآت تأتيهم من حيث لا يحتسبون. وهنا تحديداً يأتي طلب رئيس أركان الجيش الأميركي مايكل مولن «بخط عسكري مباشر مع طهران...»، وهو ما فسره محللون متابعون لشؤون العلاقات الإيرانية ـــــ الأميركية بأنه تحوّط أميركي من وقوع احتكاك غير مقصود في البحر أو الجو مع الدولة الإقليمية التي باتت تواكب حراك الأساطيل الأميركية كالظل، أو ربما تمنٍّ أميركي على «الجارة» العسكرية الكبرى، بوقف وابل صواريخ الأشتر العراقية، أو ما قد تطوّره المقاومة العراقية من وسائل دفاعية أو هجومية في المستقبل، إذا ما اشتد النزال.
على الجانب الآخر، ولأنّ الإسرائيلي يبدو منهكاً وعاجزاً عن خوض معارك كبرى على الجبهات الأساسية التي باتت تحيط به من كل جانب، من المتوقع أن يكون حكام تل أبيب يتمنون توريط واشنطن في أي معركة متاحة مع طهران، ولو على سبيل «جبران الخاطر» كما يقولون.
وبما أنّ الإيراني ليس في استراتيجيته ولا في عقيدته الدفاعية خوض معارك أو حروب في غير أوانها، فإنّه يفضل إبقاء الباب موارباً مع واشنطن في الحالة الراهنة، وعدم خوض معارك كسر عظم معها الآن، ما دام رأس المقاومة في أمن وأمان. لذلك، فإنّه لن يمنح الإسرائيلي مثل تلك الفرصة المجانية في العراق، ما يعني أنّ «الخط الأحمر الساخن» الذي تتوسله واشنطن للمرة العاشرة قد يكون «عراقياً»!
ومثل ذلك التقويم سيعني أنّ طهران ستكون مرنة مع تحوّلات العراق المستقبلية أميركياً وعراقياً، من دون أن يعني ذلك مطلقاً القبول ببقاء قوة أميركية قاهرة. من جهة أخرى، إنّ طهران التي تخوض معارك الدفاع عن الموقع السوري المقاوم، وهي تتقدم خطوات حثيثة باتجاه إعادة وصل ما انقطع مع موسكو، فإنّها تشعر بأنّ السلوك المرن مع واشنطن قد يفيد أحياناً في تعزيز كفة معادلتها التشاورية المستمرة والمكثفة مع روسيا.
باتت طهران على ضفاف المتوسط، وذلك تحوّل جيو ـــــ استراتيجي، تدرك واشنطن معناه جيداً، كما موسكو وحلف الأطلسي. وبالتالي، فإنّ معارك الكر والفر العسكرية أو السياسية أو الأمنية والاستخبارية لكل واحدة من تلك القوى لا بد من أن يأخذ تلك الحقيقة في الاعتبار. ولما كان العراق رقماً أساسياً من معادلة الهلال الخصيب الذي يضم بلاد الشام في قلبه وفلسطين في الوسط، وإذا ما عرفنا مدى نفوذ إيران وحجمه في مجموع دول الهلال الخصيب، سندرك عندها لماذا طلب مايكل مولن في هذه اللحظة تحديداً «الخط الساخن الأحمر» أي العسكري المباشر، مع طهران.
إنّها لحظة جيو ـــــ استراتيجية حرجة تحاول فيها أميركا أن تحمي انكفاءتها من العراق بستار من الانتصارات الوهمية، فيما ستبقى إيران ميالة إلى التعاطي المرن والمتحرك مع واشنطن هناك، ما قد يخفض من رصيدها التكتيكي في الظاهر. لكن ذلك سيعوض برأيها، عندما تحين ساعة المنازلة الكبرى في فلسطين التي باتت أقرب ما يتصور الكثيرون!
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي ـــــ الإيراني

■ ■ ■

كلفة الانسحاب: 25 مليار دولار إضافية



ديما شريف *
يعبّر رسم كاريكاتوري للفنان ألكسندر سانتوس، صدر في 25 تشرين الأول الماضي في مجلة «ذا أتلانتيك» عن وجهة نظر السياسيين الأميركيين حيال الحرب (المنتهية) في العراق. في الجزء الأول من الرسم، يقرأ والد لابنه قصة قبل النوم عن حرب العراق، وينهيها بقوله «في 2011 انسحب الأميركيون أخيراً. النهاية». في الجزء الثاني من الرسم، وحين يكون على أهبة الخروج من الغرفة، يسأل الطفل والده «هذا كل شيء؟»، فيجيبه الوالد «ستحارب أنت في الجزء الثاني!».
أغلب سياسيي أميركا، لا يصدّقون ما يسمّونه «خدعة» الانسحاب الأميركي من بلاد الرافدين، نهاية العام الجاري، ويسرّ بعضهم في مجالسه الخاصة بأنّه انسحاب على الورق، إذ سيبقى في العراق الكثير من الأميركيين الذين سيحافظون على المصالح الأميركية هناك. بعض المتشائمين، يكادون يجزمون بأنّ الجيش سيخرج ليعود مجدداً، إذ لعبتها الإدارات الأميركية المتعاقبة بشكل صحيح، وتركت سلطة عراقية متهاوية، لا تحكم كل العاصمة العراقية حتى، وستكتشف سريعاً حاجتها لعودة حاميها الأميركي.
فمع انسحاب آخر جندي أميركي عن الأراضي العراقية، سيتضاعف عدد الأميركيين الموجودين على أرض سفارة واشنطن في بغداد، من 8 آلاف شخص إلى ستة عشر ألفاً، 50 في المئة منهم، جنود ومتعاقدون أمنيون من القطاع الخاص. إلى جانب السفارة، سيكون هناك مكتب التعاون الأمني المسؤول عن إتمام بيع الأسلحة للعراق، التي تم توقيع اتفاقيات بقيمة 13 مليار دولار بشأنها، لا تزال تنتظر التنفيذ. الجيش الأميركي الصغير ذاك، سيبقى في العراق إلى الأبد، بما أنّه سيعتبر جزءاً من موظفي السفارة، مع احتمال زيادة عدد ذلك الجيش، في السنوات المقبلة، إذا دعت الحاجة.
ولأنّ موضوع الحرب في العراق كان دوماً إشكالياً بين الجمهوريين والديموقراطيين، وقف حزب الرئيس وراءه مؤيداً إعلانه مساء 21 تشرين الأول المنصرم انسحاب الجنود العراقيين قبل عيد الميلاد المقبل، وعودتهم إلى الوطن، وصدرت المواقف المرحبة من كل السياسيين البارزين، مقابل تخبّط لدى الجمهوريين الذين رفضوا خيار إنهاء الحرب العراقية، بذلك الشكل. في المحصلة، يمكن اعتبار أنّه بعد ثماني سنوات على بدء الحرب، لا يزال الكونغرس الأميركي منقسماً تجاه «حرب بوش الثانية». ودارت كلّ تعليقات الديموقراطيين في جو تصريح رئيسة الأقلية النيابية نانسي بيلوسي التي أصدرت بياناً أثنت فيه على قرار الرئيس «فهو يفي بوعد أطلقه، ويحترم مشيئة الناس التي تطالب بعودة الجنود إلى أرض الوطن»، وكذلك الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن.
في الجانب الجمهوري، يتسابق المرشحون إلى الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني 2012، لمحاولة كسب نقاط مع الناخبين، في ما يتعلق بالانسحاب. ميت رومني، الأوفر حظاً لكسب بطاقة الترشيح الجمهورية لمقارعة أوباما العام المقبل في الانتخابات الرئاسية، قال إنّ القرار هو «حسابات سياسية خاطئة أو ببساطة فشل». وتابع قائلاً إنّ «فشل أوباما المدهش في تأمين انتقال منظّم للسلطة في العراق، وضع، بدون مبرر، الانتصارات التي نلناها بدم وتضحية آلاف الرجال والنساء، في خطر».
من جانبها، قالت مرشحة «حزب الشاي» للرئاسة، النائبة ميشيل باكمان إنّ الانسحاب يمثل «فشل أوباما التام في التوصل الى اتفاق مع العراق لإبقاء جنودنا هناك لحفظ السلام». وأضافت إنّه «في كل مرة حررت الولايات المتحدة شعباً ما من حكم ديكتاتوري، أبقينا جنوداً لنا هناك لتحقيق انتقال سلمي للسلطة، وحماية ديموقراطية هشة».
منافس أوباما في انتخابات 2008، الجمهوري جون ماكين، لم يكن ينقص بيانه سوى نعت أوباما بالخيانة العظمى، قال إنّ قرار الرئيس «نكسة مسيئة لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، وأضاف إنّه يعارض «باحترام، قرار الرئيس الذي سيعتبر نصراً استراتيجياً لأعدائنا في الشرق الأوسط، وخصوصاً إيران التي عملت بجهد كبير لحصول هذا الانسحاب». ويرى ماكين أنّ الانسحاب هو فشل كبير للحكومة العراقية ولإدارة أوباما الذي كان همّه الانسحاب، لا النصر في العراق. أما السيناتور الجمهوري الشهير ليندسي غراهام فقال إنّه يخاف «أن يؤدي القرار الى سلسلة أحداث ستلاحق ذكراها بلادنا».
والخميس الماضي، قدم 11 من أعضاء لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، وهم من الجمهوريين، طلباً إلى رئيس اللجنة لعقد جلسة استماع بشأن قرار الانسحاب، معتبرين في الطلب المقدم أنّ هناك توضيحات مطلوبة وخصوصاً في ظل الإعلان المبهم عن بقاء بعض الجنود أو رحيلهم، كما ورد في خطاب أوباما.
لكن المطبّلين لقرار أوباما والرافضين له تجاهلوا حقائق عدّة متعلقة بالانسحاب من العراق. فقرار ترك بلاد الرافدين في نهاية 2011 يعود إلى ما قبل سنوات، وتحديداً إلى نهاية عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، الذي فاوض الحكومة العراقية وتوصل معها إلى ذلك الموعد. وصدّق البرلمان العراقي على الاتفاقية بين واشنطن وبغداد قبل تنصيب أوباما في بداية 2009، وتحديداً في 27 تشرين الثاني 2008، بعد أيام من انتخابه، أي أنّه لا فضل له في المسألة، مهما حاول الإيحاء بأنّه «الرئيس الذي أنهى الحرب السيئة»، ومهما حاول مناصروه وأعضاء حزبه تصويره كالسياسي القلق على ديموقراطية العراق وأمنه. كما أنّ أوباما يحاول منذ أشهر إقناع الحكومة العراقية بمنح الجنود الأميركيين الحصانة من الملاحقة القانونية، بعد نهاية 2011. هكذا تعدل الاتفاقية الأمنية بين الطرفين ويبقى عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين في بلاد الرافدين بعد الانسحاب المزعوم، بمسمّيات شتى. ولم يتوان أوباما عن استخدام كل المغريات لتحقيق ذلك، دون نجاح يذكر. ويقال إنّ آخر المحاولات الرئاسية الأميركية حصلت يوم 21 تشرين الأول الماضي، وخطاب أوباما جاء بعد فشلها.
كذلك، فإنّ الجميع يتجاهل تقديرات لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، التي اعتبرت بداية العام الجاري أنّ واشنطن ستتكلف في العراق في السنوات الخمس المقبلة ما بين 25 و30 مليار دولار، رغم الانسحاب! أي أنّ البقاء المستتر في بلاد ما بين النهرين سيكون ذات كلفة عالية على دافعي الضرائب الأميركيين، الذين لن يرتاحوا، مالياً، بوجود جنودهم في العراق أو برحيلهم.
سيحاول الديموقراطيون بكل تأكيد استخدام الانسحاب الأميركي من العراق كورقة انتخابية العام المقبل، لضمان بقاء البيت الأبيض في يدهم، وربما كسب المزيد من المقاعد في الكونغرس، لكن لطالما كانت السياسة الخارجية آخر اهتمامات الناخب الأميركي، ومشاغله الانتخابية، لذلك ربما قد يحاول الديموقراطيون التركيز على موضوع «إعادة الأبناء إلى الوطن» و«قيادة أوباما الحكيمة» التي أنهت الحرب الخاطئة (أفغانستان، بعد عشر سنوات لا تزال تعتبر الحرب الصحيحة!).
لكن كل ذلك قد يرتد على أوباما، على نحو عكسي، في حال حصول ما يتمناه بعض الجمهوريين، أي تدهور الوضع الأمني في العراق العام المقبل، إذ ستبدو طروحاتهم على صواب، ليحاولوا عبرها كسب بعض الأصوات الانتخابية.
لقد كلفت الحرب الأميركية في العراق، خلال ثماني سنوات، 800 مليار دولار، بين عمليات عسكرية وإعادة إعمار. رقم يوازي المبلغ الذي أقرّه جورج بوش الابن في 2007 لمساعدة المصارف المفلسة، وما طلبه باراك أوباما في 2009 لرزمة التحفيز المالي لانتشال الاقتصاد الأميركي من الركود، فهل سيبقى الناخب الأميركي غير مكترث بما تفعله دولته خارج الحدود، أم سيحاسب سياسييه على ورطة العراق وأثمانها الداخلية؟
* من أسرة «الأخبار»