لا بدّ من مراجعة نقدية شاملة لكلّ المسار الممتدّ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا. نقول ذلك تحديداً، من وجهة نظر تحرّرية وتقدّمية عامة، وبما يشمل مراحل وصيغاً اقترنت بالحقبة السوفياتية حتى الانهيار أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أو انبثقت بالتزامن مع أزمة الانهيار وبعدها، وتحوّلت إلى مشاريع ذات استهدافات قومية أو إقليمية أو كونية، هي الأخرى.لا داعي لتبرير هذا النوع من المراجعة، خصوصاً بعد التطوّرات التي شهدناها ونشهد فصولها الدراماتيكية في أكثر من بلد عربي، وكذلك بعدما أمعنت الإدارة الأميركية وحلفاؤها، ونجحا إلى حدّ خطير، في تشويه طبيعة الصراع في المنطقة، خصوصاً لإضفاء الطابع المذهبي عليه. إلا أنّ هذا النجاح يتفاقم أيضاً لأسباب ليست محصورة فقط بالجهد الأميركي، بل بأخطاء قوى أخرى اعتمدت مقاربات وسياسات خاطئة في أكثر من محطة ومناسبة، وهي لا تزال.
ويحيل هذا الأمر، بالدرجة الأولى، إلى تفاعلات وسياسات، برزت خصوصاً بعد تفجيرات 11 أيلول عام 2001. فمنذ ذلك التاريخ، وتحت ستار كثيف، أحياناً، من السحب والغبار، اتجهت دولة إقليمية كبرى، هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى بناء علاقات تقاطع بل تعاون مع الإدارة الأميركية. ضاعف من خطورة ذلك، أنّ الإدارة الأميركية لم تكن تريد فقط الانتقام بالحديد والنار من منفذي التفجيرات الإرهابية ومراجعهم، بل كانت أساساً تسعى إلى إعادة ترتيب وصياغة العلاقات والتوازنات الإقليمية والدولية، انطلاقاً من مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، وبوسائل القوة والاحتلال والغزو والحروب «الوقائية». كلّ ذلك طبعاً بما يمكّن الولايات المتحدة (واحتكاراتها ومجمّعها الصناعي ـــــ الحربي) من أن تكون القوة الوحيدة المهيمنة في هذا العالم، والتي لا «تضاهي» ولا يمكن «تحدّيها» من قبل أيّة قوة أخرى حليفة أو عدوّة، حسب التعابير التي وردت في «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» التي أعلنها البيت الأبيض في أيلول 2002.
كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاهر بعدائها لـ«الشيطان الأكبر» أي الولايات المتحدة. وكانت تدخل معها في نزاعات متعدّدة، سياسية أو أمنية أو غيرهما. ومع ذلك، انخرطت بتنسيق لا يخفى على أحد من أجل تسهيل مهمة الإدارة الأميركية في إسقاط نظام «طالبان» في أفغانستان. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هو اتخذ أبعاداً أكثر أهمية وأكثر خطورة، حين امتدّ هذا التنسيق ليشمل العراق لجهة إسقاط نظام صدام حسين، وإقامة نظام بديل مُتفاهَم على معالمه الأساسية بين واشنطن وطهران.
لا يُحاكَم هذا الأمر، اليوم كما بالأمس، من زاوية ضرورة وضع حدّ لارتكابات النظام العراقي الصدامي الديكتاتوري. إنّه يحاكم أساساً، من زاوية الإقرار بـ«حقّ» واشنطن من قبل طهران، في استخدام القوة العسكرية خارج حدودها وخارج التفويض الدولي ومن أجل التدخل في شؤون البلدان الأخرى وإسقاط أنظمتها بالتدمير وبالغزو وبالاحتلال.
أما الأمر الآخر، والذي زاد من خطورة ما حصل، فهو اعتماد صيغة حكم في العراق، استلهمت رسمياً تجربة نظام المحاصصة الطائفي ـــــ المذهبي في لبنان، معزّزة في امتداد ذلك التوترات الإثنية، ومهدّدة بنتيجة كلّ ذلك وحدة العراق وسيادته واستقراره. لقد حسب المسؤولون الإيرانيون أنّهم حققوا مكاسب تاريخية واستراتيجية. لكنّ الوقائع اليوم، تقول عكس ذلك. فقد كانت تلك مكاسب آنية. أمّا المستفيد الأكبر، فكانت واشنطن التي، بين أمور أخرى، ورّطت الجمهورية الإيرانية في نزاع يتفاقم باستمرار، مع جيرانها، وعلى أسس مذهبية، وضمن معادلة تمثّل فيها إيران أقلية خارجية في مواجهة أكثرية عربية ساحقة لا تشمل فقط دول مجلس التعاون الخليجي.
لقد كانت القيادة السورية أكثر تنبُّهاً لمخاطر غزو العراق، ولقد رفضت قيادتها، ربما بسبب ما توقعته من تهديدات مباشرة، من حيث المبدأ، وعلى حدودها، تأييد الغزو أو التعاون معه. بل هي ساهمت في دعم المقاومة بأشكال متنوّعة. ومع ذلك، فقد أملى عليها تحالفها مع قيادة الجمهورية الإسلامية، أن تغضّ النظر عن جوانب عديدة مما كان يحصل على صعيد السلطة والحكم بعد إسقاط نظام صدّام حسين، وصولاً إلى بعض صيغ التنسيق الأمني على الحدود بين البلدين. ولعلّ ما اتخذته القيادة السورية من مواقف متهاونة، إنّما أملاه أيضاً ذلك الجانب المتعلق باعتمادها هي الأخرى، نهجاً فئوياً في الداخل، تراه أساسياً في بناء سلطتها وفي المحافظة عليها.
إنّ قيام التحالف السوري ـــــ الإيراني، ومن ثمّ صموده واستمراره في بناء حلف يتوطّد منذ أكثر من ثلاثة عقود، إنّما يلخّص تجربتين متفاعلتين سابقة ولاحقة في مسار حركة التحرّر العربية والإقليمية، بما يتطلّب الكثير من الدراسة والمراجعة والمتابعة والنقد.
ويكتسب ذلك إلحاحية استثنائية، بسبب النتائج السلبية الراهنة التي حصدها الطرفان في علاقاتهما الإقليمية والدولية، وبسبب مستوى التأزّم الذي تعيشه سوريا خصوصاً، فضلاً عن التهديد الإسرائيلي الوقح والمباشر، بتوجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية.
لا يمكن أن نحلّ التمنيات في مكان التطوّرات والوقائع. لكن يجدر القول، ولو في خلاصات عامة هنا، إنّ استسهال التقاطع مع واشنطن كان كمن «يجلب الدبّ إلى كرمه». فها هي قوات «الناتو» تسمح لنفسها بالتدخل في ليبيا. وسيف التدخُّل في الشؤون الداخلية السورية والإيرانية يبقى مصلتاً فوق رأس النظام في كلّ منهما. أمّا اعتماد التعبئة المذهبية أو دعم المحاصصة الطائفية، فتلك خطيئة تسهّل اليوم، بين عوامل أخرى، قد لا تفوقها تأثيراً، مهمة واشنطن وحلفائها في شرذمة شعوب المنطقة ومهمة تشويه الصراع، لتركّز القيادة الصهيونية كلّ جهدها من أجل تهويد القدس والضفة الغربية وكلّ فلسطين...
لا بدّ من استدراك لا يستقيم أيّ كلام بدونه: إنّ النقاش ينطلق دائماً من موقع الفعل التحرّري العربي وغير العربي في هذه المنطقة الحيوية والأساسية من العالم. وهو ينطلق من ضرورة وضع الشعارات المطالبة بتحرير الأراضي وبمواجهة مشاريع الهيمنة والسيطرة وتعظيم النهب والاستغلال، موضع الحدّ المطلوب من التنفيذ. إنّه ينطلق أيضاً من موجبات النظر أيضاً في ما تراكم من سلبيات كاد فيها البقاء في السلطة يصبح هو الأولوية التي لا تدانيها أولوية أخرى. أما الإيجابيات، على ندرتها، وعلى فداحة الكلفة التي دُفعت من أجلها، فتكاد تضيع أو تتبدّد أو تتلاشى.
لا تقدّم اللوحة الراهنة للصراع مشهداً مريحاً حين تنجح واشنطن وحلفاؤها في محاصرة القوى التي اعترضت على بعض سياستها في أضيق زاوية. ولا يدعو إلى الارتياح ذلك الوضع الذي تجزّأت فيه قضايا التحرّر إلى درجة أصبح فيها النضال ضدّ المستبد الداخلي أولوية تتحرّك من أجلها شعوب وأجيال شابة في الكثير من البلدان العربية، وحتى على حساب المحتل أو الطابع الخارجي.
المراجعة السليمة لا بدّ من أن تفضي إلى استنتاجات ترى إلى قضية التغيير من زاوية أكثر صوابية ودقة: وحدة قضايا التحرير والتحرّر والديموقراطية في برنامج واحد وفي حركة لا بدّ من أن ترقى إلى مستوى تطلعات وتضحيات الشعوب العربية، خصوصاً، التي تنخرط في البحث عن حقوقها ومصالحها بنحو مدهش.
* كاتب وسياسي لبناني