بعد تسعة أشهر من كسر الصمت في سوريا، بات الحديث عن المخاوف من اندلاع حرب أهلية شاملة، الأكثر تداولاً على الصعيدين السياسي (الدولي والإقليمي والمحلي) والشعبي، لكنّ البداية كانت في دمشق، ففي 26 آذار/ مارس، اتهمت بثينة شعبان على قناة «بي بي سي» عناصر مشبوهين بقتل الناس وبث الفتنة الطائفية،
زاعمةً «أنّ أحداث ثمانينات القرن الماضي الدامية كانت نتيجة قيام الإخوان المسلمين في اللاذقية بقتل شيخ علوي وآخر سني لتلتهب الأحداث وتجري الدماء»، في وقت لم يتحدّث فيه أحد عن حرب أو طائفة أو دين! ثم ما لبثت أخيراً أن حمّلت الأصوليين والإسلاميين مسؤولية العنف في البلاد، وأيّدها في ذلك مفتي الجمهورية أحمد حسون. أعقبت ذلك حملة إعلانية منظمة ملأت الشوارع تحت عنوان «طائفتي هي سوريا»، بالتزامن مع حملة أخرى في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، الحكومية وشبه الحكومية، للترويج لشبح السلفية، قبل أن يستقر الحديث على «عصابات مسلحة» تسرح وتمرح في دولة بوليسية، كما عمدت السلطات الأمنية إلى اعتماد سياسة منهجية انتحارية وبالغة الخطورة، تمثلّت في توريط مدنيين في دوامة العنف. وبدا كأنّ هناك طائفة تواجه أخرى.
في نهاية المطاف، وصلنا إلى تجذر الانقسام الطائفي في حمص مثلاً، وانفجاره على نحو كارثي في وجه الجميع دون استثناء، إلى حدٍّ باتت فيه المدينة تشهد نزوحاً طائفياً باتجاه الساحل، وإعادة توزع ديموغرافي، خوفاً من القتل على الهوية، الذي حصد أرواح المئات من الأبرياء في طريقهم إلى العمل أو البيت، وليس آخرها استهداف حافلة قرية المخرّم الفوقاني التابعة لمحافظة حمص في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر فقط بسبب خلفية أهل المنطقة من العلويين!
على صعيد آخر، أسهمت وسائل الإعلام ـــــ ذات التمويل الخليجي ـــــ في تأجيج الصراع الداخلي، مستغلةً رفض السلطات السورية دخول وسائل الإعلام الأجنبية لتصوير حقيقة ما يحدث، إلا وفق ما تراه ـــــ كسماحها بتصوير مجزرة جسر الشغور ـــــ لتعمل تلك الوسائل كإعلام حربي يعرض الصورة التي تخدم مشروعه «الإسلامي»، عبر تهميش تظاهرات بعض المناطق غير الإسلامية، كتظاهرات مدينتي السلمية ذات الأغلبية الإسماعيلية، والسويداء ذات الأغلبية الدرزية، والتركيز على الشعارات الدينية. وكذلك التركيز على اعتماد تسميات يوم الجمعة ذات الطابع الديني في معظمها، كجمعة «حرائر سوريا» وجمعة «الله أكبر» وجمعة «أحفاد خالد بن الوليد» وجمعة «لن نركع إلا لله»، مع الإشارة إلى أنّ التسميتين الأخيرتين كانتا تلاعباً فاضحاً في نتائج التصويت من قبل القائمين على صفحة «الثورة السورية» على فايسبوك، التي تتبنى وسائل إعلام كالجزيرة والعربية والصفا ووصال تسمياتها، ضاربين بعرض الحائط اعتراضات معظم المنتفضين، لكونها تخلق حالة من الفرز الطائفي والديني.
كذلك بثّت المحطات الفضائية جرعات طائفية بالاستفادة من تسريب، أو بيع، بعض الضباط ورجال الأمن الطائفيين مشاهد إهانة واستفزاز للمسلمين عبر إجبارهم على «تأليه» الرئيس أو شقيقه، أو تدنيس للمساجد أو ضرب للمآذن، أو بث أخبار عن تورط للحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله، وأخيراً عناصر من جيش المهدي ـــــ في تلميح إلى الخلفية الشيعية لهذه الفئات ـــــ في وقت تشير فيه أجهزة الإعلام السورية إلى «سعوديين وفلسطينيين وقطريين وسلفيين وأصوليين وعناصر من المستقبل» ـــــ في تلميح إلى الخلفية السنيّة لهذه الفئات. يضاف إلى ذلك كله، تدخل رجال الدين كالقرضاوي واللحيان والعرعور ودعواتهم «الجهادية» التي تتعامل مع انتفاضة الشعب السوري كأنّها «جهاد مقدس ضد النصيرية».

الجيش السوري الحر!
رغم تفاؤل البعض وثقته بعدم انجرار السوريين وراء الاقتتال الأهلي، وتشاؤم البعض الآخر باعتقاده العكس، فإنّه لا أحد يمكنه تجاهل عاملين داخليّين أساسيّين يقوم عليهما أيّ اقتتال أهلي. العامل الأول: تجييش المواطن وعسكرة العقل، الأمر الذي بات واقعاً مخيفاً يتجلى في «خصخصة» أرقام الشهداء، فكلا الطرفين «المؤيد والمعارض» لا يعترف بشهداء الآخر، كما باتت اللامبالاة بالمأساة الإنسانية تتجلى في عبارات تتردد في الشارع السوري كـ«بالناقض 2 أو 7 مليون سوري»، و«مافي ثورة بلا دم»، إضافةً إلى اعتياد مشاهد القتل والذبح التي لا تتورع أيّ محطة إعلامية عن توظيفها لمصلحتها، مما يغذي النزوع نحو العنف.
العامل الثاني هو انقسام الجيش على نفسه، إذ كان من الطبيعي أن تؤدي الحملة الأمنية العنيفة إلى حدوث تمردات على أوامر استهداف المتظاهرين، وبالتالي إلى انشقاق العديد من العناصر الذين بلوروا تحركهم في 29 تموز / يوليو في ما بات يُعرف باسم «الجيش السوري الحر» تحت قيادة العقيد رياض الأسعد. وسرعان ما طوّرت هذه الحركة تنظيمها، وباتت تقدّم نفسها كجيش «بديل» عن الجيش السوري النظامي، الذي تُطلق عليه تسمية «كتائب الأسد». وضمن الحملة المحلية والدولية لتمزيق السوريين أطلق على إحدى الجمعات تسمية «الجيش الحر يحميني» كشرعنة «شعبية» للعنف الذي بدأ يطغى على المشهد السوري في غمرة يأسٍ كامل من أي حلٍّ سياسي سلمي أو تداول للسلطة أو حتى مرحلة انتقالية.
ولا يمكن التغاضي عن أسماء كتائب هذا الجيش، التي يغلب عليها الطابع «الديني» بدلاً من الطابع «الوطني» المفترض ـــــ ككتائب خالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح والأبابيل والله أكبر والفاروق.... ـــــ عدا تسمية السرايا التابعة لتلك الكتائب! وقد أعلنت كتيبة «الفاروق» في بيان نشر على صفحتها على فايسبوك مسؤوليتها عن جريمة اغتيال الطيارين السوريين الستة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قبل أن يحذف البيان وينفي «الجيش الحر» ذلك، لتسجل هذه الجريمة ضدّ مجهول بسبب الصدمة والاستنكار اللذين أحدثتهما في نفوس جميع السوريين دون استثناء!
وقد صرّح العقيد رياض الأسعد من تركيا في اتصال هاتفيٍّ أخيراً بأنّ النظام السوري نشر صواريخ في «المنطقة الساحلية العلوية»، في إصرار متعمد أو غير متعمد على «علوية» الساحل، الأمر الذي يجرف الأزمة نحو منعطف طائفيٍّ خطير، وسط تجاهل تام لطبيعة الساحل الديموغرافية المختلطة، وتوزع القطعات العسكرية فيها، الذي يعود إلى عقود وليس وليد الأزمة، مشيراً إلى أنّ «معنويات النظام منهارة من الداخل، وهو يعتمد على المرتزقة من جماعة (الزعيم الشيعي العراقي) مقتدى الصدر وحزب الله اللبناني»!
إنّ خطر التخلي عن سلمية التظاهرات بسبب اليأس والقمع المتزايد، يعني الدخول في دوامة من العنف والعنف المضاد، التي ستحوّل البلاد إلى مقبرة كبيرة، وإن كان النظام السوري قد بدأ لعبة التخويف من فزاعة «الحرب الأهلية» و«الصراع الطائفي» في هروب انتحاري من تنفيذ مطالب الشعب السوري المشروعة، فإنّه من الواضح أنّه قد وجد شركاء كثيرين في هذه اللعبة الدموية بين القوى المحلية والإقليمية والعربية والدولية، التي بدأت العزف على أكثر الأوتار نشازاً، وهو الوتر «الطائفي»، الذي يهدّد لحن الحرية المنشود!

* باحث سوري في التاريخ والآثار