«بالنسبة إلينا، أنقرة هي المحور. أما مجال حركتنا فيبلغ 360 درجة». بهذه الكلمات المثقلة بالمعاني، أكد زعيم الدبلوماسية التركية، أحمد داوود أوغلو، نزعة بلاده إلى السيطرة وسعيها إلى أداء دور قيادي على الساحة الدولية. بالفعل، لقد تمكنت تركيا خلال العقد المنصرم، ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، من احتلال موقع متقدم على الساحة الدولية. فهي تثبت حضورها على كل الجبهات، من بلاد البلقان إلى العالم العربي، مروراً بمنطقة القوقاز، وتبرز لاعباً أساسياً في العلاقات الدولية.لكن بالرغم من أنّ نشاط تركيا يتصدر عناوين الصحف، ويمثّل مادةً لعدد كبير من التحليلات، فإنّ الأهداف الجيوستراتيجية التي تحرك سياستها الخارجية تبقى غير معروفة تماماً. ينبغي إذاً فهم الأهداف والدوافع الكامنة وراء السياسة الخارجية التركية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، وذلك من خلال تحليل الفكر السياسي لمهندس تلك السياسة، ألا وهو وزير الخارجية الحالي، أحمد داوود أوغلو. فقد أصدر هذا الأخير، فيما كان لا يزال أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة بايكنت وفي جامعة مرمرة، كتاباً من ستمئة صفحة بعنوان: «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية». تكمن أهمية هذا الكتاب في أنّه يقدم رؤية مستقبلية للعالم من منظار أحد اللاعبين السياسيين الأساسيين، من جهة، وفي أنّه يُعدّ بمثابة «النص التأسيسي» لسياسة تركيا الخارجية، منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة، في 2002، من جهة أخرى، ويفسر السياسة التي تتبعها تركيا حالياً، وخصوصاً في موضوع مقاربة الربيع العربي.

تركيا: نقاط الضعف ومواطن القوة

في مقدمة كتابه، يطرح داوود أوغلو مقولة مفادها أنّ هناك فئتين من الدول: الدول «المحورية»، التي تمثل اللاعبين الدوليين الذين لا بد من التعامل معهم، والدول «الطَرفية» التي يبقى دورها محدوداً على الساحة الدولية. يتساءل داوود أوغلو عن أسباب ضعف موقع بلاده على الصعيد الدولي، فيرى أن تركيا تعاني عجزاً فكرياً؛ ذلك أن ما ينقصها هو الرؤية السياسية الواضحة و«التخطيط الاستراتيجي». وهو إذ يتبنى فكرة كلاوسفيتز، يميز بين الاستراتيجية، وهي الغاية الأخيرة للسياسة الخارجية، والتكتيك، الذي يتمثل في الوسائل الملموسة التي تمكن من تحقيق هذه الغاية. وحجته في ذلك أنّ القادة الأتراك قد شُغلوا في أغلب الأحيان بالتكتيك، وغابت عنهم الغاية الاستراتيجية التي يجب بلوغها. لذلك، فقد دعا إلى إعادة بناء شاملة للسياسة الخارجية التركية: فمن الضروري في رأيه أن تعبّر الطبقة السياسة عن رؤية واضحة ودقيقة للمصالح الوطنية وللأهداف الاستراتيجية التي يجب تحقيقها، وأن تعمل بمقتضى ذلك لكي تكون تركيا، بل لكي تعود من جديد، «دولة محورية».
يركِّز داوود أوغلو على أهمية اعتماد مقاربة متعددة الأبعاد في دراسة العلاقات بين الدول، ذلك أنّ فهماً عميقاً لموقع بلد ما على الساحة الدولية لا يتطلب مجرد تحليل دبلوماسيته وسياسته الداخلية، بل أكثر من ذلك، معرفة جيدة لـ«عمقه الاستراتيجي». بمعنى آخر، «إدراك المعنى» الكامن وراء المواقف الدبلوماسية لدولة ما، من خلال تحليل البنى الاجتماعية والنفسية للمجتمع في هذه الدولة، والغوص في عمقها التاريخي والجغرافي.
يعرض داوود أوغلو بطريقة تسعى إلى الموضوعية الأوراق الرابحة التي تملكها تركيا على الساحة الدولية، فيرى أنها بلد يملك «عمقاً تاريخياً» يوفره له ميراثه العثماني بنحو أساسي. لذلك، على تركيا المعاصرة التي نشأت على أنقاض إمبراطورية متعددة الأعراق والقوميات أن تكون قادرة على بناء «قوة ناعمة» وعلى اعتماد سياسة تمكنها من التأثير الثقافي في المناطق التي كانت في الماضي جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وهو ما نراه اليوم واضحاً في أماكن متعددة من العالم العربي. وهو يؤكد بالمناسبة أنّه آن الأوان لكي تعترف تركيا بهويتها الإسلامية وأن تعدّها مصدر قوة لديها، لا نقطة ضعف؛ ذلك أنّ تركيا، وإن كانت جمهورية علمانية وبلداً متحالفاً مع الغرب، وريثة الخلافة الإسلامية. هذا الواقع يجعلها مسؤولة عن «حماية الأقليات الإسلامية» في بلاد البلقان والقوقاز، ويمنحها الحق في أن تستفيد من هذه المناطق لكي تزيد من نفوذها على الساحة العالمية. أخيراً، نظراً إلى تجربتها التاريخية التي تشتمل على بناء إمبراطورية، وعلى الدخول في الحداثة بعد نهاية الإمبراطورية، وعلى تأسيس جمهورية ديموقراطية، على تركيا أن تكون قادرة على أداء دور إيجابي في مناطق الصراع في العالم، وهو ما تمثل منذ فترة بمحاولة التوسط بين الأفرقاء في مناطق ساخنة حول العالم (سوريا وإسرائيل، حماس وفتح، الأزمة اللبنانية، اليمن، أفغانستان وباكستان... إلخ).
أما العمق الاستراتيجي لتركيا، فهو يكمن ـــــ بحسب داوود أوغلو ـــــ في الموقع الاستثنائي الذي تتمتع به بوصفها مساحة التقاء بين مناطق عدة. وإذ يتبنى نظرية هالفورد ماكندر، وهو خبير في علم الجغرافيا السياسية، يشدد داوود أوغلو على أهمية المنطقة الأوروآسيوية، بوصفها منطقة مواجهة وتنافس بين القوى القارية والقوى البحرية. كذلك فإنّه يلفت من جديد إلى أهمية «خط ريملاند» الممتد من أوروبا الغربية إلى شرق آسيا، مروراً بالقوقاز، والبلقان، وآسيا الوسطى، وصولاً إلى الصين، والهند، وكوريا الجنوبية. إن هذا الخط يرسم حدود منطقة تظهر فيها المنافسة بين القوى العظمى. ويرى سبيكمان، أنّ الدولة التي تنجح في بسط نفوذها في هذه المنطقة تتمكن من السيطرة على العالم. وللبرهان على صحة هذه النظريات، يعدد داوود أوغلو الصراعات العديدة التي عصفت في الماضي والتي تعصف اليوم في هذه المنطقة الواقعة ضمن «خط ريملاند»: الحروب في كوريا، وأفغانستان، وبلاد البلقان، إلخ... ويذكِّر بأن تركيا تقع فعلياً على هذا الخط. لذلك يجب أن تستفيد من هذا الموقع الاستراتيجي الفريد لكي تمارس سياسة خارجية فاعلة ومتعددة الأبعاد في المناطق المجاورة، وترقى إلى مرتبة «الدولة المحورية»، و«القوة العظمى العالمية».
من الناحية العملية، هناك شرطان لكي تستغل تركيا مكامن القوة لديها ولكي تحقق طموحاتها الاستراتيجية. فعلى الصعيد الداخلي، من الضروري إيجاد حل عادل ونهائي للمسألة الكردية التي تمثّل عبئاً ثقيلاً على الميزانية الوطنية وتعوق النمو الاقتصادي لشرق البلاد. كذلك من المهم جداً تحقيق مصالحة بين الشرائح الإسلامية والشرائح العلمانية في المجتمع لكي تكون تركيا موحَّدة وقوية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يجب على تركيا أن تنهي كل خلاف مع جيرانها وأن تتخلص من جنون العظمة ومن «أعراض الفوبيا» تجاه البلدان المجاورة، بحيث تكف عن اعتبار هذه البلدان عدواً يهددها، لكي تنظر إليها كشركاء. يجب على الدبلوماسية التركية أن تعطي «الحوار والتعاون» الأفضلية على «القوة والإكراه».

الماضي العثماني و«القوة الناعمة»

ينتقد داوود أوغلو الأولوية التي تمنحها الدبلوماسية التركية لأوروبا، ويرى أنّه يجب على تركيا قبل أن تهتم ببناء تحالفات مع بلدان بعيدة جغرافياً، أن تفرض موقعها كقوة إقليمية. عليها أن تنشط على الخصوص بالدرجة الأولى، في المناطق البرية القريبة: الشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، وبالدرجة الثانية في الأحواض البحرية القريبة: البحر الأسود، المتوسط، البحر الأحمر، الأدرياتيك، وبحر قزوين، وأخيراً في المناطق القاريّة القريبة، أي في أوروبا، وجنوب آسيا، وآسيا الوسطى والشرقية، وفي شمال أفريقيا.
وإذ يرى أن الشرق الأوسط يجب أن يحتل مكانة الصدارة في الأولويات التركية، كرّس له فصلاً من 120 صفحة، حدد فيه بنبرة معتدلة وبأسلوب واضح ومنهجي وبراغماتي معالم السياسة الخارجية الطموحة لتركيا في الشرق الأوسط: أدى دوراً ناشطاً وإيجابياً في عملية السلام، العمل على رفع مستوى تأثير تركيا، وإبراز حضورها في المنطقة. واستناداً إلى قيم ليبرالية، يقترح داوود أوغلو بلورة مشروع على غرار «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» ( CECA) لبناء السلام في الشرق الأوسط، واعتماد سياسة انفتاح في المنطقة شبيهة بسياسة ويلي برانت تجاه أوروبا الشرقية. وتجدر الإشارة إلى أنّ داوود أوغلو لا يأتي في أي من تحليلاته على ذكر التضامن الإسلامي بصراحة، ولو أن المُضمر هو أنّ الإسلام والماضي العثماني هما الحجران الأساسان اللذان ترتكز عليهما «القوة الناعمة» التركية في المنطقة.
وبما أن الشرق الأوسط يمثّل في نظر داوود أوغلو مفتاحاً يسمح لتركيا بأن تصبح قوة إقليمية، ثم قوة عالمية في المدى المنظور، يوصي داوود أوغلو باعتماد خطة ترتكز على تسعة مقومات:
1 ـــــ تجاوز الحواجز النفسية التي أثرت سلباً على الانفتاح الدبلوماسي نحو المنطقة.
2 ـــــ إنشاء بنى مؤسساتية وتطوير الموجود منها، مثل المراكز البحثية والمعاهد الأكاديمية، وذلك لمتابعة التطورات الإقليمية عن كثب وللاستفادة من هذه التطورات بواسطة سيناريوات استباقية طموحة.
3 ـــــ إقامة التوازن بين الواقع السياسي على الساحة العالمية والسياسة الواقعية الإقليمية.
4 ـــــ تنفيذ مشاريع من شأنها أن توحّد بلدان المنطقة.
5 ـــــ تطوير مجالات المصالح المشتركة لبلدان المنطقة بغية تدعيم السلم الإقليمي.
6 ـــــ الحؤول دون تكوّن تكتلات قومية مضادة تمثّل مصدر خطر جيوسياسي وجيوثقافي يهدد السلم.
7 ـــــ تدعيم العلاقات الثنائية.
8 ـــــ اعتماد مقاربة عالية التأثير والفعالية للمشكلات الإقليمية، وفي مقدمتها عملية السلام في الشرق الأوسط.
9 ـــــ تكثيف الاتصالات والعلاقات الأفقية التي تعزز الصورة الإيجابية لتركيا في المنطقة وتشجع على التواصل والحوار.
يتضح إذاً، أنّ المبادرات الدبلوماسية التي اتخذتها تركيا في العالم، وفي الشرق الأوسط تحديداً، في الفترة الماضية، تظهر مدى تأثير كتاب «العمق الاستراتيجي» ونظريات داوود أوغلو في رسم السياسة الخارجية التركية. مع ذلك، لا يزال من الصعب معرفة ما إذا كانت الاتجاهات الراهنة للسياسة الخارجية التركية ستجد طريقها نحو المأسسة وتُكتب لها الاستمرارية، أو أن ذلك مرتبط بشخص وزير الخارجية وبحكومة حزب العدالة والتنمية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إنّ مسار الأحداث في الربيع العربي، وخاصةً في سوريا، قد عطّل مفاعيل هذه النظرية القائمة على مبدأ «صفر مشاكل مع الجوار». والواقع أنّ الربيع العربي وضع حكومة حزب العدالة أمام مأزق الاختيار بين المثالية والواقعية السياسية، ما قد يضطر أحمد داوود أوغلو إلى صياغة جديدة لنظريته، وخاصةً أنّ المنطقة حبلى بالمفاجآت.
* باحثة في مركز دراسات
العلاقات الدولية ـــــ باريس