الباحث في طبيعة الكتلة المنتفضة في سوريا يجد أن عمودها الفقري الذي يعطيها الزخم الثوري كمياً ونوعياً هو الفئات الشعبية المفقرة، التي ترزح تحت ضغط الحاجة الاقتصادية. وذلك ما تؤكده دراسة جغرافية الثورة من حيث إنّها تتركز في المناطق المهمشة تنموياً، إلى درجة أنّه اصطلح عند البعض على تسميتها «ثورة الريف».خلال عقد من الزمن (2000 ــ 2010) تصاعدت وتيرة السياسات الاقتصادية الليبرالية، تحت ستار ما سمّي «الإصلاح الاقتصادي». وحقيقة الأمر أنّه كان خراباً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً معمماً وشاملاً للأغلبية العظمى من السوريين. فكان أن تدهورت القطاعات الإنتاجية الأساسية (الصناعة والزراعة) وازدادت أعداد العاطلين من العمل وأعداد القابعين على خط الفقر وما دونه، واشتد الخناق والضيق على الفئات الوسطى وخصوصاً الشريحة الشبابية منها التي عانت قمع الحياة السياسية وتقييد الحياة الثقافية وسحق قيم المواطنة وحقوق الإنسان. وكان هذا القمع والسحق قابلاً للاحتمال قبل بداية ما دعي بـ«الربيع العربي» الذي حفز الشعوب العربية عموماً على الثورة، لكنّه في سوريا حفز على وجه الخصوص تلك الفئات الشبابية، فشعرت بأنّ حلمها بدولة مدنية ديموقراطية يسودها العمل السياسي الانتخابي وتتداول فيها السلطة، بات ممكناً وربما محتماً. حاولت تلك الفئات، إثر ذلك، استثارة الطبقات الشعبية القابعة تحت ضغط الحاجات الاقتصادية. وهكذا تشكلت كتلة مهمشة (اقتصادياً وثقافياً) محتقنة ضد الواقع القائم، ومستعدة نفسياً ومادياً للانفجار الاحتجاجي.
شاركت الفئات الوسطى والفئات الشبابية المثقفة في الانتفاضة، لكن وتحت وطأة العنف المنقطع النظير الذي استخدمه النظام ضد المحتجين، بقيت كتلتهم متواضعة أمام كتلة الفئات الشعبية المفقرة التي أظهرت صلابة وقوة لافتة. ومن الواضح أن هذه الأخيرة استمدت صلابتها وقوتها من أنها باتت تعيش تحت حد الكفاف الاقتصادي، وتعاني أصلاً وقبل الثورة مصاعب وظلماً في حياتها. وذلك ما توضحه طبيعة المناطق المنتفضة، لكونها مناطق ريفية انهارت فيها الزراعة والحرف والمهن الصغيرة، ما أدى إلى ارتفاع كبير في أعداد العاطلين من العمل والفقراء.
فقد أشار التقرير الوطني الثاني لأهداف التنمية للألفية في الجمهورية العربية السورية 2005، إلى أنّ هناك 38.3% من الفقراء يعملون في الزراعة، وهو قطاع شهد تدهوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد رفع الدعم الحكومي عن المحروقات. فيما يشير التقرير الوطني الثالث لأهداف التنمية للألفية 2010، إلى أنّ الفقر في سوريا لا يزال ظاهرة ريفية إلى حد كبير. وهكذا، فقد شهدت مدن المنطقة الجنوبية (حيث اندلعت الثورة) أكبر زيادة في معدلات الفقر منذ 2004، إذ أصبحت نسبة الفقر في 2007 ضعف نسبة الفقر في 2004 تقريباً، وبالتالي فإنّ تلك المنطقة التي كان لديها أدنى مستويات الفقر في 2004، غدت ثاني أفقر منطقة في 2007.
يعترض البعض على هذا التفسير «الاقتصادي» للثورة السورية، ويرون فيه اختزالاً للعوامل الثورية التي سببت الانفجار السوري، لكنّنا لا نعتقد بأنّ إبراز العامل الأساس وإعطاءه موقعه الحقيقي، إنما يشكل تجاهلاً لبقية العوامل الأخرى، سواء منها البعد السيكولوجي النفسي للربيع العربي، أو العنف الاستثنائي الذي استخدمه النظام في قمع الحركة الاحتجاجية وما ولده ذلك من انخراط فئات ثورية جديدة وانخراط مناطق جديدة عبر تظاهرات «تضامنية» مع المناطق الثائرة والمحاصرة، إضافة إلى دوره في رفع سريع لسقف المطالب الشعبية.
لكن حقيقة الأمر أنّ القمع العنيف، وكما «ورط» بالحركة الاحتجاجية فئات جديدة هي في معظمها فئات مفقرة، فإنّه منع الكتلة الأكبر من الفئات الوسطى من الانخراط بالانتفاضة. وهذا ما يفسر عدم اشتراك أو المشاركة الضعيفة لكل من مدينتي دمشق وحلب، حيث تتركز الكتلة الأكبر من الفئات الوسطى. فعدم مشاركتها لا يعني أنّها مؤيدة للنظام، ولا يعني أنّها غير متضررة من الواقع القائم، فمعظمها يعيش حد الكفاف الاقتصادي أيضاً، فيما تعاني شرائحها غير المضغوطة اقتصادياً من تهميش ثقافي وسياسي واستشراء الفساد والمحسوبية، وسطوة أجهزة الأمن ورجال السلطة على أعمالها وعلى تطورها الاقتصادي والسياسي الممكن.
فمع هذا الكم والنوع من العنف المستخدم ضد المتظاهرين، لا يتوقع أن تشارك الفئات الوسطى بكتلة كبيرة وملموسة، كما حدث في مصر على سبيل المثال، لهذا اقتصرت مشاركتها على التضامن مع المتظاهرين وربما ابتكار أساليب احتجاجية سلمية مختلفة في دمشق وحلب تتجنب قمع السلطة، لكنّها تربكها في الوقت ذاته، مثل توزيع المنشورات السياسية التحريضية والكتابة على الجدران واللوحات الإعلانية ونشر «مكبرات صوت» في أحياء دمشق لتظاهرات مسجلة، وتلوين بحرات مدينة دمشق باللون الأحمر كتعبير احتجاجي رمزي ... الخ. وكان من الطبيعي لذلك النشاط الاحتجاجي الذي يستخدم تعبيرات رمزية أن يبقى رمزياً وتضامنياً أمام حجم التضحيات لـ«كتلة المواجهة» الذي أخذ صدامها مع النظام يأخذ مساراً دموياً متصاعداً، وصل اليوم إلى حد الجنون. وللأسباب نفسها، بقي حراك الطلاب الجامعيين منخفضاً ومتباعداً. بالنتيجة، كان حراك الفئات الوسطى داعماً ومتضامناً مع «كتلة المواجهة» المتشكّلة من الفئات الشعبية المفقرة والمهمشة، إذ شكلت هذه الأخيرة العمود الفقري للانتفاضة، وكانت مصدر صلابتها واستمراريتها والجسد الذي رفع سقف المطالب الشعبية ليتجاوز المطالب الإصلاحية التي بدأت بها الانتفاضة.
لم تكن الثورة التونسية والمصرية لتعمل كعنصر تحفيز للانفجار السوري، من دون توافر البيئة القابلة للانفجار. فقد أمّن تشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية للبلدان العربية انتشار نار الثورة في حقول الجفاف العربي، إذ تشترك الطبقات الشعبية في هذه البلدان بشروط حياة بائسة اقتصادية وقاحلة ثقافياً وسياسياً، بينما تتشابه طبيعة النظم الحاكمة فيتضخم فيها جهاز القمع ليؤمن تغطية سياسات الإفقار الاقتصادي والسياسي. ولم تنجح أي من تلك النظم في إقامة مشاريعها التنموية الموعودة التي استمدت منها مشروعية وجودها، فتحولت إلى دول مهترئة سياسياً ووطنياً، سيطرت على الحياة العامة والخاصة، وكذلك على الاقتصاد، لكن هذه المرة من دون التأميم وتحويل مؤسسات القطاع العام إلى مؤسسات فساد ونهب «غير مشروع»، إنما عبر «النهب المشروع»، من خلال مشاريع الإصلاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة والخصخصة. وهي مشاريع تساقطت ثمارها على ثلة من رجال الأعمال مرتبطة بالسلطة، والتي تنامت قوتها على نحو تدريجي حتى باتت حيتان مال وسياسة وأمن.
من هنا، يستمد الحراك الاحتجاجي الشعبي قوته وصلابته وانتشاره، ومن هنا أيضاً يفشل النظام في إيقافه حتى بأقسى الوسائل وأعنفها. وإن تجاهُل المعارضة السورية لطبيعة الكتلة المنتفضة، واستغلال عدم تشكلها السياسي والتنظيمي المستقل، وارتفاع معاناتها وآلامها، إن استغلال كل ذلك لتحوير أهدافها إنما يشكل خيانة سافرة لها ولتضحياتها. وهذا ما يتضح من تركيز قسم من المعارضة جهودها على مسألة الدفع نحو التغيير من الخارج، عبر التدخل العسكري الذي سيفتح البلاد على الفوضى والدمار الاقتصادي والسياسي، وسيرفع من درجة النهب والتبعية الاقتصادية والسياسية، وهو ما ثارت الطبقات الشعبية من أجل إنهائه.

* كاتب عربي