الإسلاميون قادمون، من طريق صناديق الاقتراع، إثر ربيع عربي لم يكونوا هم مبدعيه، كما هي الحال في تونس ومصر، أو من دونما ربيع، كما هي الحال في المغرب. وربما حكموا في أي بلد عربي يُحتكم فيه في الظروف الراهنة إلى صناديق الاقتراع. وقد رشحتهم مثل تلك الصناديق قبل الربيع العربي بعقدين من الزمان في الجزائر للحكم، لكنّهم لم يحكموا حينها، بفضل ديموقراطية العسكر، وهم لا يزالون يحكمون في إيران، منذ ثلاثة عقود، بفضل ثورة شعبية قلّ نظيرها. ليس الغريب حدوث ما يحدث الآن، لكن الغريب أن يستغرب البعض ما حدث، وما سيحدث لاحقاً.
بعض الذين يُشغَلون بالتنظير، والذين يخلقون أوهامهم ويقتاتون عليها، هالهم ما حدث، فرفعوا رايات التهويل، والتحذير من عظائم الأمور التي ستنهال على رؤوسنا، وكأنّ رؤوسنا لم تعتد، عبر العقود الوردية المنصرمة، سوى الغار الذي ينثر عليها!
لكم نحن بحاجة إلى تذكير النائمين في العسل بمقولة ذاك المبدع الذي أبصر ما لا يبصرون، عندما قال إن «النظرية شجرة رمادية اللون، أما الحياة فتزهو بخضرتها». من تسلق الشجرة الرمادية، لم يبصر سوى الرمادي، فيما الذين انغمسوا بتلافيف الحياة، أبصروا الألوان كلها. ومن حسن حظ هذه الأمة أنّ الأغلبية الساحقة من الشعب هي ممن ابتعدت عن تسلق الأشجار الرمادية، أو الاحتماء بفيئها، وشُغلت بمتطلبات العيش التي كانت تتعقد يوماً بعد آخر. وهذه الأغلبية لم تقل كلمتها بعد، وإن خرج قسم عظيم منها إلى ميادين ما سُمي «الربيع العربي» وشوارعه. وعلى هذه الأغلبية فليشتغل المشتغلون، وليعمل العاملون، ففي نهاية المطاف ستقرر هي مصير الأمة، بعد أن تكون قد اختبرت الجميع، وامتحنت الشعارات كلّها، الوضعية منها، وما زُعِم ـــــ لقراءة ما ـــــ أنّه سماوي.
هل سقطت الأيديولوجيات حقاً، أم سقط فهم مُبتسر لها؟
نعم، ثمة سقوط مُريع، بالغ القسوة قد حصل، خلال العقود المنصرمة، أباح للبعض القول إنّنا نعيش مرحلة سقوط الأيديولوجيات. نعم سقوط الأيديولوجيات، ولكن لا بسبب عللها ذاتها، بل بسبب علل أصحابها والمنتحلين لها. سقط اليساريون ولم يسقط اليسار، سقط الشيوعيون ولم تسقط الشيوعية، سقط القوميون ولم تسقط القومية، وسيسقط الإسلامويون إذا لم يتعظوا بالسابقين لهم.
لكن لا يمكن أي شخص مجرد ادعاء سقوط الإسلام نتيجة سقوط مدعيه ومنتحليه، ومحتكري الحديث باسمه.
اين تكمن قوة الإسلامويين؟
تكمن في أمور توافرت لهم، بعضها لا ولن يتوافر لغيرهم، ولا فضل لهم فيها، بل يمكن القول إنّها «من فضل ربي»، ألا وهي العقيدة الشاملة القادرة على الإجابة عن كل شيء، التي انحفرت في وجدان العربي المسلم، وحتى غير المسلم، ومنحت تلك الأمة الممتدة على هذه البقعة من الأرض هويتها الخاصة، وسماتها المُميزة.
لم يكن الإسلاموي يحفر في بحر، ولا ينحت في صخر، وهو يتوجه للناس بقيمه ومفاهيمه ومعتقداته. فما ينطلق منه كرّسته قرون مديدة، ودعمته التربية المنزلية، والمدرسة والمحيط، ما نصبّح به ونمسّي، ما نطلقه من سلام، ما نتمناه ونأمله، في أفراحنا وأتراحنا، عند الولادة والوفاة، وكل شيء تقريباً هو في الفحوى والمحتوى. ثقافة إسلامية، لا تنافسها أخرى، لذا فقد كانت الطريق سالكة وممهدة بين الإسلاموي والمواطن العربي. ويمكن القول إنّ الإسلامي بهذا المعنى صياد في نهره، أما الآخرون فيبدون كمن يلعب في غير ملعبه، ويستحضر أدوات تبدو عاجزة، لا لأنّها غير صالحة فعلاً، بل لأنّ من يستعملها غير صالح.
من هنا تحديداً، بنى الإسلامي شبكة علاقات بينه وبين ناسه، تفاعل معهم، ساعدهم وتبنى مطالبهم، ساندهم فلم يتقاعسوا عن مساندته في كل الانتخابات التي جرت في مصر مثلاً، بحيث إنّ الإسلاميين أفلحوا في إيصال عدد مُعتبر من النواب إلى البرلمان، رغم فنون التزوير التي برع بها مبارك وتفوّق. لقد استثمروا أية ظاهرة بما فيها «العنوسة»، ففتحوا العديد من المكاتب لمعالجتها، وأبلوا بلاءً حسناً في هذا الجانب، متفوقين على الجميع بمن فيهم السلطات، رغم اختلاف الإمكانات. كل هذا وهم ليسوا سوى دعاة مهمتهم من حيث الظاهر الدعوة إلى قيم الإسلام. أما الأطراف الأخرى، فقد تشتت تنظيماتها وتشظت بفعل الضربات المركزة والمتتالية، التي لم تشمل اليسار والقوميين فقط، بل طاولت حتى الديموقراطيين والليبراليين. مع ملاحظة أنّ هذه الهجمات لم تكن موجهة من أنظمة العمالة فقط، بل حتى من الأنظمة التي تدعي القومية أو التقدمية. لذا، ليس غريباً أن يكون أكثر ضحايا القوميين من قبل الأنظمة التي تدّعي القومية، وأكثر ضحايا اليسار من قبل الأنظمة التي تدعي اليسارية. وبالترافق مع اتساع الهوة بين ممثلي هذه الاتجاهات وعامة الناس، لاذت تلك النخب بالانعزالية، والعدمية، وغيّر بعضهم البوصلة.
مسألتان جوهريتان ينبغي أخذهما في الاعتبار بالنسبة إلى من يتابع العرس الإسلامي، أولاهما ضرورة الإقرار بالواقع، والانطلاق من هذا، من دونما مكابرة أو مغالطة، فصناديق الاقتراع أتت بالأغلبية الإسلامية، لا عبر التزوير كما كان يحدث في انتخابات مدّعي الليبرالية، أو القومية، أو اليسارية، بل عبر انتخابات هي من الأكثر نظافة وشفافية في تاريخ العرب، رغم ما شابها من أخطاء بفعل تغوّل رأس المال السياسي. ومن يرد أن يكون له موقع قدم في الشأن السياسي، فعليه دراسة هذه الوقائع واستخلاص العبر منها، ومن دونما مكابرة، وبتواضع وتجرد، يمهدان الطريق لمراجعة شاملة.
المسألة الأخرى هي أنّ من فازوا ليسوا كتلة صلبة، بل كتلة رخوة، لا بل شديدة الرخاوة، وبينها من التناقضات ما لا يُحصى ولا يُعد، ليس بسبب اختلاف المرجعيات فقط، بل بسبب اختلاف الأهداف والرؤى والمشاريع. وبما أنّ التزمت واحتكار الصواب، لا بل احتكار الجنة، هو ديدن البعض الذي يرى أنّه وحده من يفهم الإسلام، ووحده المؤهل لتطبيقه، وأنّه مُكلف شرعاً بهذا، لذا من المتوقع أن تكون الصراعات داخل هذه الجسم أكثر منها خارجه.
* صحافي عراقي