«أنا ضد إسرائيل، ولا عدوّ لي إلا إسرائيل. لكن عندما نريد الحكم على الناس، يجب الحكم على الكلّ مثل بعضهم». ذلك ما قالته رئيسة محكمة التمييز العسكرية القاضية أليس شبطيني، رداً على انتقادات تعرّضت لها إثر صدور قرار عن الغرفة التي تترأسها، قضى بإخلاء سبيل أربعة متهمين بالتعامل مع العدو الإسرائيلي، كانت السلطات الأمنية والعسكرية قد أوقفتهم منذ نحو ثلاث سنوات. استخدمت القاضية الضمير المتكلم بالجمع، «عندما نريد الحكم على الناس ...»، مفترضة (أو متمنّية) تطبيق الإجراءات القضائية العادلة على الجميع وفي جميع المحاكم اللبنانية. ومن خلال قرار إخلاء سبيل موقوفين بجرائم العمالة لإسرائيل لعدم صدور الحكم بحقهم، بعد مرور ثلاث سنوات على توقيفهم، أو لعدم كفاية الدليل الذي يتيح تجريمهم، كشفت شبطيني وزملاؤها انتقائية إجراءات القضاء اللبناني، ودلّت على أن ما ينطبق على الموقوفين المتهمين بجرائم العمالة لإسرائيل، لا ينطبق على أشخاص من بينهم كبار ضباط الجيش اللبناني، اعتقلوا في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري لنحو أربع سنوات (2005 ــ 2009)، استناداً الى معلومات «لا تتمتع بالصدقية الكافية» (كما أوضح قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال فرانسين). وكان القاضيان إلياس عيد وصقر صقر قد أصدرا عشرات قرارات رفض إخلاء سبيل هؤلاء الأشخاص والضباط الذين لم يُفكّ احتجازهم إلا بموجب أمر صدر عن قاضٍ أجنبي، في تكريس واضح لفقدان السيادة القضائية اللبنانية. أما في القضايا المحلية الأخرى، فقد رُدّت طلبات إخلاء سبيل مئات الموقوفين قبل المحاكمة في السجن المركزي في رومية وسائر سجون المناطق، استناداً الى نصّ المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي لا تحدّد المدة القصوى للتوقيف الاحتياطي لبعض الجرائم، ومنها «الاعتداء على أمن الدولة».
القاضية شبطيني أضافت في حديثها الصحافي النادر «لا أعمل إلا في القانون وما يمليه علينا القانون، ونصدر أحكاماً قانونية». لا شك أنّ القانون يمنحها، بالتشاور مع زملائها الأربعة الضباط في الجيش اللبناني، سلطة اتخاذ قرار إخلاء سبيل موقوفين على ذمة التحقيق، قبل صدور الأحكام. غير أنّ من واجب السلطات القضائية والعسكرية الإسراع في إحالة الموقوفين الى المحكمة، وإصدار الأحكام بحقهم لحسن سلامة الإجراءات، إذ إنّ انطلاق مرحلة الإجراءات العقابية قبل صدور الأحكام ينسف قرينة البراءة ويتجاوز معايير العدالة. وبالتالي، فإنّ تأخير محاكمة المتهمين بجرائم التعامل مع العدو الإسرائيلي، أو بأي جريمة أخرى، يشكل خللاً يفترض معالجته بجدية إذا كانت هناك إرادة صادقة لإحقاق الحقّ، وبسط سلطة القانون في لبنان. ولا شك أنّ السلطتين، القضائية والإجرائية، تتحملان مسؤولية ذلك الخلل، ولم تخضعا لأي مساءلة أو محاسبة حقيقية أمام مجلس النواب والهيئات الرقابية الأخرى. لكن أساس الخلل في قضية الملاحقة القضائية لعملاء إسرائيل لا يقتصر على تأخير صدور الأحكام بحق المتهمين، بل يرتكز على غياب التوجّه القضائي المناسب الذي يؤدي الى الاقتصاص من المجرمين على نحو يحمي المجتمع والدولة والجيش والمقاومة منهم، ويؤمن حقوق المتضررين من أفعالهم الجرمية. وذلك من خلال منعهم من الاستمرار بأفعالهم الجرمية ومن تكرارها بعد إخلاء سبيلهم، وفرض تسديدهم قيمة الأعطال والأضرار التي تسبّبوا بها.
يمنح نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تصرّ الدولة اللبنانية على دعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً، من خلال تمويلها والرضوخ لإجراءاتها، ذوي ضحايا جريمة 14 شباط 2005 (والجرائم الأخرى المرتبطة بها) والمتضررين منها، الحق في المشاركة بإجراءاتها القضائية. وكانت المحكمة قد عممت من خلال وسائل الإعلام اللبنانية دعوة المتضررين الى التقدم بطلبات للمشاركة في جلسات المحاكمة. أما عوائل 1191 إنساناً قتلوا خلال صيف 2006 وأكثر من 10 آلاف جريح ونحو 500 معوّق، فلا يحقّ لهم المشاركة في إجراءات المحاكم اللبنانية بحق متهمين بمساعدة آلة الإجرام الإسرائيلي على قتل الأبرياء، وتدمير المنشآت الحيوية، والتهجير والاحتلال والاعتداء على الشعب والدولة والجيش. وبالتالي، إنّ مسؤولية الوزراء والنواب تكمن باقتراح تعديلات على قانون أصول المحاكمات الجزائية والقضاء العسكري، تتيح للمتضررين من جرائم التعامل مع إسرائيل المشاركة في الإجراءات القضائية، عبر حضور الجلسات وتحصيل التعويضات المادية والمعنوية عن الخسائر التي تكبدوها جراء العدوان الإسرائيلي. على أن يعدّ من يتعامل مع الإسرائيليين مسؤولاً عن أعمالهم وشريكاً في جرائمهم.
إنّ مشاركة المتضررين في الإجراءات القضائية بحقّ المتهمين بجرائم العمالة لإسرائيل قد تكون غير كافية بحدّ ذاتها في مكافحة العملاء بشكل فعّال. لكن التزام المحاكم بالشفافية الكاملة عبر سماحها لوسائل الإعلام بتغطية وقائعها، قد يساهم بتفعيل الحسّ الاجتماعي بـ«قوّة العار» التي يفترض أن تستهدف العملاء، إذ يبدو أنّ القوة الأساسية الفعالة لمكافحة عملاء إسرائيل في لبنان لا تقتصر على القضاء والاستخبارات والمعلومات وحزب الله وحدهم، بل إنّ للقواعد الاجتماعية والأهلية دوراً محورياً عبر الوعي الجماعي لعار العمالة. يتطلب ذلك من القضاة فتح أبواب المحاكم للإعلاميين، لينقلوا الى الناس حقيقة أفعال لبنانيين خانوا شعبهم ودولتهم وجيشهم ومقاومتهم عبر تعاملهم مع العدو الإسرائيلي.

* وحدة الأبحاث في «الأخبار»