كثرة الحديث عن «الصداقة» و«التحالف» و«الاهتمامات المشتركة» في المؤتمر الصحافي المشترك (1) الذي جرى بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس وزراء العراق نوري المالكي في واشنطن أخيراً، تشي بالكثير. فمعاهدة 2008 بين البلدين، سميت في البداية «معاهدة الصداقة»، لكن الشعب العراقي لم ير من أميركا ما يطمئنه إلى «صداقتها». وبعد احتجاجات شعبية عراقية شديدة، «خفض» اسمها مرات عديدة ليستقر على العبارة الخجولة: «اتفاقية سحب القوات»، الذي كان ضرورياً لتهدئة الشارع العراقي، وإقناعه بأنّ المقصود هو طرد الأميركيين لا إبقاؤهم. واليوم يحاول السيد المالكي وأوباما من جديد تسويق علاقة «صداقة» من خلال اختراع «مصالح مشتركة» و«اهتمامات مشتركة» و«القاعدة» و«الجوانب التربوية» و«تضخيم الاقتصاد»، وكلّها عبارات تثير التساؤل عن صدقيتها.في خطابه، قال المالكي إنّه «يشعر بالحاجة إلى التعاون السياسي» بين البلدين، لكن ما هي الرؤية السياسية أو الأجندة السياسية أو الأهداف السياسية المشتركة بين الولايات المتحدة والعراق، لكي يمكن التفكير في التعاون سياسياً بينهما؟ وكيف لمن ليس لديهما أيّ هدف مشترك أن يتعاونا على تحقيقه؟
في المقابل، تكاد جميع الأهداف السياسية للطرفين تتضارب في القضايا ذات الاهتمام المشترك بينهما. ففي قضية سوريا، التي طرحت في المؤتمر، وصل الأمر إلى تبادل الطرفين جملاً تحمل معاني مهينة، ربما دون انتباه، حيث قال أوباما: «أنا متأكد أنّ السيد المالكي قرر كما تقتضي مصلحة بلاده، لا على أساس ما تريده منه إيران». وفي الافتراض الضمني أنّ رئيس وزراء العراق قد يعمل «ما تريده منه إيران»، إهانة كبيرة!
ورد المالكي: «نحن لسنا ضد تطلعات الشعب السوري، لكن ليس من حقي أن أطلب من رئيس التنحي... لا نريد أن نمارس هذا الدور، وأن نعطي لأنفسنا هذا الحق». وفي هذا إهانة مضمرة بأنّ أوباما يفعل ذلك!
كذلك انتقد المالكي فكرة الحصار الاقتصادي على سوريا، وذكّر بأثرها السيّئ على الشعب العراقي في الماضي، متجاهلاً أنّ دولة مضيفه هي التي أدارت ذلك الحصار، وتسببت في ذلك الضرر الشديد، وهي تريد الآن مثله
لسوريا.
وفي جانب التعاون الاقتصادي، لم يكن الأمر أفضل كثيراً، رغم أنّه كان أقل وضوحاً للمراقب. فبدأ أوباما الحديث عن النمو الاقتصادي السريع في العراق، وأنّه «في طريقه ليصبح في مقدمة منتجي النفط» في العالم، وأنّه بدأ «يقيم علاقات اقتصادية وتجارية جديدة مع جيرانه»، مشيراً إلى تعاون الولايات المتحدة، ومؤكداً: «سوف نجعل الظروف أفضل للشركات للتصدير والابتكار». ووعد: «سنقدم خبرتنا في مجال الزراعة والرعاية الصحية... ولتعميق تكامل العراق في الاقتصاد
العالمي».
لكن بالنسبة إلى العراقي القارئ لما بين السطور، فإنّ تلك العبارات تمثل تهديدات أكثر مما هي وعود. فالدعوة إلى رفع سريع لما يسمى «إنتاج» النفط، قد تكون فيه مصلحة الولايات المتحدة وشركاتها، لكنّ لن تكون في الرفع مصلحة لبلد استخراج النفط، الذي يفترض أن يهدف إلى التوازن والحرص على ثروته وثروة أجياله القادمة. وترينا التجارب أنّ السباقين في «إنتاج» النفط، وخاصة في المنطقة، هم أيضاً السباقون في تبديد ثروته بمختلف الطرق، دون بناء أي شيء ذي
قيمة.
أما عن العلاقات الاقتصادية مع جيران العراق، فنعلم أنّ الولايات المتحدة سعت من أجل تقطيعها وتخريبها، أكثر من إقامتها. فقد استخدمت أميركا الحكومات الصديقة لها للضغط على الحكومة العراقية وابتزازها، مثل عقود النفط المخفض المحيّرة مع حكومة الأردن، والتعويضات غير المعقولة التي حصلت عليها، وكذلك العلاقة المتوترة مع الكويت والسعودية. أما بالنسبة إلى الأنظمة التي لا تحبها أميركا، فقد سعت إلى منع العراق من إقامة علاقات اقتصادية معها. وقد حددت أميركا علاقات العراق الاقتصادية من خلال ربطه بشبكة بنك «جي بي مورغان» المتعلق ببنك التجارة العراقي، الذي لا يستطيع العراق عقد أية صفقة فوق مبلغ محدد دون موافقته، وهذا الأخير ملزم بسياسة المقاطعة الأميركية. ويمنع البنك منذ فترة دفع ثمن الكهرباء التي اشتراها العراق من إيران، ويتوقع أن يؤدي دوراً مماثلاً في سعي أميركا إلى محاصرة سوريا.
ووعد أوباما: «سوف نجعل الظروف أفضل للشركات للتصدير والابتكار»، لكن على الشعب العراقي أن يفهم أنّ «الظروف الأفضل للشركات» قد لا تكون الظروف الأفضل للشعب، بل من النادر أن تكون كذلك. فما يناسب الشركات هو انخفاض الأجور وقلة قوانين الحفاظ على البيئة وضعف التنظيم العمالي وارتفاع البطالة، كما أن البنية التحتية من الخدمات المناسبة للتجارة قد توجه المال بعيداً عن أولويات البنية التحتية لمواطني البلد.
وعد أوباما أيضاً بتقديم الخبرات «في مجال الزراعة والرعاية الصحية... ولتعميق تكامل العراق في الاقتصاد العالمي». وهو ما يعني حصول شركات المنتجات الزراعية المحوّرة جينياً على تراخيص احتكارية في العراق، بما في ذلك من نتائج كارثية على المزارعين، كما حدث في الهند وغيرها، وتسببت في ازدياد الفقر والانتحار على نحو كبير. كذلك لا ندري أية خبرة في الرعاية الصحية يمكن أن يعطيها البلد الصناعي الوحيد الذي لا يمتلك شعبه تأميناً صحياً حتى الآن!
أما «تعميق تكامل العراق في الاقتصاد العالمي»، فهو يعني وضع العراق ضمن النظام المصرفي العالمي، الذي يجعله مكشوفاً أمام الأزمات المالية. ومعروف أنّ نسبة تأثر البلدان بالأزمة المالية وخسائرها كانت تتناسب مع درجة «تكامل تلك الدولة في الاقتصاد العالمي». وفي منطقتنا كانت الإمارات العربية المتضرر الأكبر لذلك السبب.
وأشار المالكي بدوره إلى مجالات التعاون المختلفة، بضمنها «الجوانب التربوية»، ولا نعرف الحكمة من اقتباس أسلوب تربوي جعل الشعب الأميركي معروفاً بجهله، وجعله يحصل على الرقم القياسي العالمي في عدد ونسبة السجناء!
وقال المالكي إنّ «العراق بحاجة إلى الشركات الأميركية لاستغلال العراق لثرواته على النحو الأمثل... ونأمل أن يكون للشركات الأميركية الدور الأكبر لتضخيم ثروتنا في مجالي النفط والغاز وغيرهما».
والسؤال المهم هنا: ما هو «الاستغلال الأمثل لثروات البلد» من وجهة نظر الحكومة العراقية، ولماذا تكون الشركات الأميركية أفضل من غيرها لتنفيذه؟ فالصراع بين الحكومة العراقية والشركات النفطية الأميركية والغربية تجاوز حتى التهديدات بالمقاطعة، ووصل إلى إحداث شرخ في الكيان السياسي العراقي بين الحكومة وكردستان المستسلمة تماماً لإرادة الشركات، وتصر على عقد العقود السرية التي تعدّها الحكومة المركزية غير شرعية، معها، وهما في خلاف لم يُحلّ حتى الآن بسبب تلك الشركات
«الأفضل»!
فإذا كان موضوع سوريا قد كشف الهوة السياسية الكبيرة بين الطرفين على نحو واضح وصريح، فإنّ الهوة الاقتصادية الخفية بين مصالح الطرفين تتسرب من بين السطور. وإذا كان أوباما يتكلم بثقة وافتخار، لأنّه يشعر بأنّه جلب صيداً سميناً للشركات التي سيقرر رضاها عنه إمكان انتخابه لولاية ثانية قريباً، فإنّ الأمر كان أصعب كثيراً بالنسبة إلى رئيس وزراء العراق، الذي بدا أشبه بخروف يحاول إقناع ذئب، بأنّ صداقته ألذ من
إليته!

(1) http://www.whitehouse.gov/photos-and-video/video/2011/12/12/president-obama-s-press-conference-prime-minister-maliki#transcript

* كاتب عراقي