الأحداث الأخيرة التي شهدها العراق، بعد الانسحاب الأميركي، تمثّل حالة نموذجية للكيفية التي تنجح فيها الخطابات السياسية بإنتاج استقطاب طائفي وإعادة ترصين الحدود بين الجماعات الطائفية. فجأةً تصدَّر المشهدَ صراعٌ حادٌّ على خلفية طائفية بين قوتين سياسيتين (دولة القانون وائتلاف العراقية). هاتان القوتان كانتا قد ادعتا في مشروعيهما الأصليين أنّهما تضعان بناء الدولة وإحياء الوطنية العراقية في أعلى سلم أولوياتهما. إنّ البَون الشاسع بين الخطاب والواقع، إنما يجسد معضلة راسخة في العقل السياسي العراقي، الذي تأدلج على علوية الكيان الوطني، لكنّه في معظم تاريخه كان يتحرك بوحي من ارتباطات ومصالح ضيقة، وربما شديدة المحلية.إنّ الوطنية العراقية في تجسيداتها السياسية لا تزال خطاباً متعالياً على الوعي الاجتماعي، وعلى الفضاءات الثقافية التي تتكوّن بها الخرائط الذهنية للغالبية المجتمعية. هنالك قدر كبير من الافتعال في الخطاب «الوطنوي» يكرس أزمة المجتمع، بدلاً من أن يحلها، ذلك أنّ الصراع في الجزء العربي من العراقي يجري غالباً بين قوى تمثلها مصالح جزئية، لكنّها تقدم مشروعها في سياق خطاب وطني وربما بأيديولوجيات كونية. وفي الغالب، فإنّ صدامها هو صدام بين مرويات مختلفة عن الوطن وتاريخه و«ماهيته».
يتضح ذلك الصدام على نحو خاص عند الحديث عن «أعداء الوطن». ففي الوقت الذي اتسم فيه خطاب القائمة العراقية بنزعة معادية لإيران إلى حد إعادة إنتاج الثنائية الثمانينية التي قام عليها الخطاب الرسمي العراقي خلال الحرب مع إيران، والتي تعرّف الهوية العراقية بالضد من الآخر «الفارسي» الطامع بأرض العراق، فإنّ خطاب دولة القانون ركز على الحديث عن أعداء «العراق الجديد»، الذين يدعمون القاعدة والبعث والجماعات الإرهابية، وهي في الغالب إشارة إلى الدول العربية السنيّة. إنّ ذلك يؤشر أمراً مهماً ذا صلة قوية بالأزمة الأخيرة. أزمة الهوية العراقية ليست فقط أزمة داخلية، بل هي امتداد للصراع الجيوسياسي، الذي يجعل من العراق ساحة للصدام بين مشاريع إقليمية متنافسة. والطريقة التي يتجه فيها الخطاب السياسي إلى تعريف هوية العدو، تعبر عن المشروع الذي يتفوق سياسياً، لكن غياب الإجماع على هوية العدو يعكس استمرار الانقسام الاجتماعي والسياسي حول الأسئلة الكبرى المعنية بأساس وجود البلد.
ومع حقيقة أنّ عملية تطييف الهويات الاجتماعية الجارية في المنطقة ترتبط إلى حد كبير بالصراع الجيوسياسي الإقليمي، الذي تستثمر فيه القوى الرئيسية المتنافسة خطابات الهوية لتوسيع نفوذها السياسي، أو إغلاق مساحات جغرافية ـــــ اجتماعية أمام خصومها، فإنّ وجود الشروخ الاجتماعية في مساحات الصراع تلك (العراق، لبنان، سوريا، البحرين، اليمن) هو الذي يسمح لتلك القوى باستثمارها واللعب عليها، ولاسيما أنّ الطائفية صارت سلاحاً لليمين الإقليمي ونخبه المسيطرة لحرف أي عملية تغيير سياسي عن المسار الثوري القائم على تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
إنّ معظم المخارج التي تقدم للانقسام الطائفي في العراق هي إما مخارج مفتعلة، تندرج ضمن بنية الصراع الطائفي نفسها، أو مخارج سطحية، لا تدرك حجم الانقسام الاجتماعي وتأثير التحوّلات الهائلة التي شهدها العراق، ولا سيما بعد هيمنة دولة القبيلة منذ الستينيات ودكتاتوريتها، التي بنتها على شبكات ظل ينسجها الإقصاء القبلي والمناطقي والطائفي. ولا ننسى الدور الذي أدّاه الاحتلال الخارجي في تفكيك الدولة، وبالتالي تفكيك الكيان الوحيد الذي كان يجسد الوطنية العراقية، في ظل تشرذم المجتمع المدني.
رأينا نموذجاً للمخارج المفتعلة في حالة ائتلاف العراقية، الذي قدم نفسه في الانتخابات بوصفه كياناً «عابراً للطوائف، وعلمانياً»، وجرى تسويقه كذلك في الآلة الإعلامية الإقليمية التي تهيمن عليها دول الخليج، وكذلك في الآلة الإعلامية الغربية التي كانت ميّالة إليه، بفعل خصومته مع إيران. في الحقيقة، إنّ الائتلاف كان في أساسه مشروعاً طائفياً، لكنّه خلافاً للمشروع الطائفي الآخر الذي احتمى بالأغلبية العددية المجتمعية، كان بحاجة إلى أكبر قدر من التستر والاختباء وراء سُمك لفظيّ هجوميّ سحب «الوطنية» من الآخرين منذ البداية. الرعاية الخارجية للائتلاف، الذي يُعرف عن زعيمه (الشكلي) ارتباطه الشديد بالمشروع السعودي ـــــ الخليجي في المنطقة، كانت من القوة بحيث إنّ قادته تجولوا في دول الإقليم بأكثر مما تجولوا في المحافظات العراقية لدعم مشروعهم. وفي الانتخابات، جرى تسويق فكرة أنّ الناخبين السنّة صوتوا لزعيم شيعي، وفي الحقيقة أنّ معظم الأصوات السنيّة في القائمة ذهبت إلى القوى السنيّة، ومعظم أصوات الزعيم الشيعي المفترض جاءت من الناخبين الشيعة. كان الائتلاف تمثيلاً لمشروع إقليمي، وجزءاً من دائرة الصراع الجيوسياسي، غايته انتزاع السلطة «وخصوصاً رئاسة الوزراء والقوى الأمنية». وحالما أخفق بذلك، عاد الكيان إلى هويته الأصلية، فانفضّ معظم أعضائه الشيعة عنه، وتهمش الزعيم الشيعي المفترض، فما عاد يرأس سوى عدد صغير من أعضائه، وباتت العضلات الطائفية الأكثر صراحة في الواجهة. لم يختلف الأمر في حالة الكيان الآخر، «دولة القانون»، فرغم أنّه بحكم سيطرة زعيمه على منصب رئاسة الوزراء لم يحتج إلى دق أبواب العواصم الإقليمية، إلا أنّه فعل ذلك عند الضرورة. حصد هذا الكيان دعماً واسعاً في الأوساط الشيعية بالحديث عن بناء الدولة ونبذ المحاصصة، مع وعد ضمني بترسيخ السيطرة الشيعية على مقاليد السلطة، لكن عندما تهددت سيطرته تلك، ولاح في الأفق ضياع السلطة، ارتد الكيان إلى انتمائه الجزئي، وطفا إلى السطح الخطاب القائم على حفظ إنجازات الطائفة في مواجهة الخطر البعثي التكفيري (وهو تعبير باتت دلالاته الطائفية واضحة).
نماذج المخارج السطحية واللفظية نجدها في بيانات ومبادرات قوى من خارج الطبقة السياسية وهي تلعن الطائفية، وتؤكد «بكل قوة» أنّ المجتمع العراقي هو مجتمع واحد لن يفرقه السياسيون الطائفيون، كأنّ قوة التعبير اللفظي ستغيّر من الحقيقة شيئاً. ما لا يحاول هؤلاء وغيرهم فهمه أنّ الهوية الوطنية ليست مجرد مروية، كما هي ليست مجرد رصف لكلمات مليئة بالنوايا الحسنة. فما أسهل هذا الرصف، ولا سيما لدى أولئك البعيدين عن السلطة، الذين لم يدخلوا لعبة تقاسم المغانم (لاحظ أنّ كياناً مثل المجلس الإسلامي الأعلى تراجع كثيراً عن خطاباته وشخصيته الطائفية فقط عندما تقلص وزنه السياسي وبات كياناً ثانوياً).
يقول بينديكت اندرسون إنّ «المجتمع الوطني هو مجتمع متخيّل»، لكن ذلك لا يعني أنّه مجرد فكرة ومروية. يتحدث اندرسون وغيلنر وآخرون عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل هذا المجتمع قابلاً للتخيّل. الهوية الوطنية تصبح حقيقية عندما تغدو مدركة في حياة أفراد المجتمع جميعاً، لا مجرد خطاب إيديولوجي متحمس ومتطلع إلى السلطة، لا يجد له صدى إلا وسط الطامحين داخل الطبقة المتوسطة في الحصول على السلطة، أو الحفاظ على مغانمها.
إنّ تخطي الانقسام الطائفي لا يحدث بتلفيق البيانات والخطب، ولا بمشروع ترعاه السعودية أو تركيا أو إيران، بل بترسيخ البنية التحتية التي تُشعر أفراد المجتمع بوجود هوية عراقية متجاوزة للطوائف، وليست حاصلاً لجمعها كما يفترض النظام التوافقي الراهن. سابقاً، كان التلفزيون الحكومي واحتكار الدولة لتداول المعلومات، ورغم كل ما يحمله من آثار سلبية في ترسيخ السلطوية وتشويه الواقع، يؤدي دوراً في خلق حقل وطني ومن ثم اتجاه سائد يحكم المجتمع، وتتبلور عبره المواقف والمفاهيم الأساسية. اليوم لم تعد الدولة قادرة على احتكار المعلومات، والتلفزيون الحكومي بات أقل وسيلة إعلام تجذب الناس اليها (وفي الحالة العراقية يبدو أنّه بات أداة طائفية بدوره)، وهنالك عشرات الفضائيات ومئات الصحف وآلاف المواقع الإلكترونية التي تنتج خطابات متصارعة تعيد إنتاج التفكك، إن لم تعمقه.
البنية التحتية الاقتصادية لتعزيز التواصل الاجتماعي عبر الطائفي غير قائمة أيضاً، بل إنّها خضعت للتفكيك، ولا سيما بعد انفجار العنف الطائفي الذي غيّب تدريجياً المناطق المختلطة طائفياً، كما سمح بظهور ميليشيات حامية للحدود الطائفية المناطقية. لا توجد أي سكك حديدية تربط مناطق الجنوب الشيعي بالوسط والغرب السنييّن، سوى خط قديم يربط بغداد بالبصرة والموصل، والطرق محدودة، وعبورها لا يزال اليوم ليس الخيار المفضل. فلا الشيعة يشعرون بالحاجة إلى الذهاب نحو الشمال السنّي، ولا السنّة نحو الجنوب الشيعي، وأنأ أتحدث عن حركة واسعة النطاق، لا عن حالات فردية.
مثل تلك الحاجة كان يمكن أن يخلقها اقتصاد ديناميكي متشابك وتبادلي وغير مركزي. إلا أنّ النشاط الاقتصادي الخاص في العراق غالباً ما يقوم على الارتباط بين التاجر المحلي والسوق الخارجية التي يستورد منها. فلا توجد صناعات داخلية يمكن بضائعها أن تنتقل بين المناطق السنيّة والشيعية، ولا تنقل يعتدّ به لرأس المال بين المحافظات، في الوقت الذي يؤدي فيه الاقتصاد الريعي الدور الرئيسي في العملية الاقتصادية، مانحاً الدولة، ومن يسيطر على أجهزتها، استقلالية عالية عن المجتمع، بل وقدرة على استتباع المجتمع المدني عبر إقامة شبكات زبائنية وعلاقات تكافلية غير رسمية، بين الطبقة السياسية والاقتصادية. يجري الصراع السياسي إلى حد كبير للسيطرة على هذه القدرة المالية المتأتية من النفط، وبالتالي الاستحواذ على أكبر حصة تسمح للسياسيين عبرها بتعزيز شبكاتهم الخاصة للسيطرة الاجتماعية. وبما أنّ الطبقة السياسية الراهنة تعتمد التقسيم الطائفي في توزيع المناصب والعوائد، فعلى الأرجح يقوم المستفيدون الشيعة ببناء شبكات زبائنية شيعية شبه خالصة، والمستفيدون السنّة يبنون شبكات سنيّة شبه خالصة.
إنّ البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تسمح بتخيّل الهوية الوطنية العراقية لا تزال أضعف بكثير مقارنة بالصراعات الداخلية والخارجية، التي تدفع لتعميق الشرخ الطائفي، ولا سيما أنّ ذلك الشرخ بات المعوّل الأساسي الذي تكتسب منه الطبقة السياسية الراهنة مشروعيتها عبر ادعاء تمثيل مصلحة الطائفة واستخدام التعبئة الطائفية (مثلاً، طارق الهاشمي قال إنّ «استهدافي هو استهداف للسنة»)، كما أنّ تهدئة الخطاب الطائفي ليست مخرجاً من الانقسام، بل هدنة قابلة للانهيار في أيّ لحظة يحتدم خلالها الصراع السياسي. لذلك، فإنّ كل المحاولات التي تقوم على افتعال التضامن والوحدة بالطريقة الخطابية نفسها، أو عبر تجمعات نخبوية، أو عبر التصوّر الخاطئ بأنّ الطائفية هي ظاهرة دينية، وبالتالي فإنّ العلمانية وحدها ستحلها، لن تنتج تغييراً حقيقياً، بل إنّها في الكثير من الأحيان، كما حدث مع التجمعات التي نشأت في العراق على وقع الاحتجاجات العربية، وحاولت تقليدها، انتهت إلى إعادة إنتاج الموقف الطائفي بخطاب وطنوي مفتعل. لا يجري تجاوز الطائفية بشتم ولعن الطائفيين، فهؤلاء هم نتاج لبنية اجتماعية قائمة تسمح للمشروع الطائفي بأن يكون تعبوياً، وأن يحقق رصيداً سياسياً.
لقد لعنّا الطائفية كثيراً، وآن الأوان لكي نفهمها.

* باحث في العلوم السياسية