غزة - لم تكن تعلم بأن الوقوع في الحب سيكلفها الكثير، وأن الاستقرار في بيت واحد مع حبيبها ( بعد خطبتهما) أمرٌ شبه مستحيل، فالحب في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة المسماة قطاع غزة محكومٌ عليه بالموت، ذلك الحكم الذي أصدره الاحتلال على كل شيءٍ يتحرك في هذا المكان المحاصر منذ عشر سنوات متتالية.
قالت له حين التقيا في دورة تدريبية في الضفة الغربية وبعدما صرح لها بإعجابه بها، بأن الأمر ضربٌ من المستحيل في ظل واقع سياسي معقد، رفضته ظاهراً لكنها أضمرت في نفسها إعجاباً به ورأت فيه زوجاً مناسباً لها، أعطته وسيلة التواصل مع ذويها في غزة وعادت إلى هناك وهي تتمنّى لو أنها لم تره.
لم تمضِ سوى أيام حتى بادر إلى الاتصال بوالدها طالباً يدها، لكن الوالد بادر للرفض التام « انتا بتطلب المستحيل يا عمي، كيف بدك توخدها لعندك؟ بدك تربطها فيك لسنين وبعدها ممكن تنفصلوا»، لكن إصراره على الارتباط بها جعله يلح على والدها مراراً وتكراراً بعدما تعهد له أنه سينتظرها العمر كله.
وجرت الخطبة بتوكيل من الخاطب لأحد معارفه بغزة، ولم يستطع الخاطبان أن يشعرا بالفرحة، فهناك همّ ثقيل جاثم على نفسيهما، وهو وصول العروس من غزة للضفة، الأمر الذي بات ضرباً من ضروب المستحيل منذ عشر سنوات خلت، بسبب رفض إسرائيل التام للتعامل مع الأمر على نحو إنساني!
محاولات عدة بذلتها وخطيبها منذ سنة خلت لمحاولة «لم الشمل» معاً فيما العمر يجري سريعاً، ولا حلول في الأفق في وطنٍ قسمته الفصائلية بقدر ما جزأه الاحتلال، فلا أحد هنا يهتم لمن أطبق عليه الحصار وحرمه العلاج أو الدراسة أو الزواج.. كل ما يهم الساسة هنا أن تبقى غزة لحكامها والضفة لحكامها، وكأن الوطن رغيفٌ يتقاسمانه!
اليأس والإحباط هما كل ما حصلت عليه جراء طرقها للأبواب الرسمية، فالرد الوحيد «قضيتك ستحل فقط إذا حدثت انفراجة سياسية، أما دون ذلك فلا حل في الأفق».. لتبقى حياتها معطلة لا تستطيع أن تتخذ فيها أي قرار جوهري، فتخشى أن ترتبط بدراسة أو أي شيء آخر آملةً أن تحدث انفراجة مفاجئة وكذلك الأمر بالنسبة إلى خطيبها الذي يعاني تعطل حياته إذ لا يعلم متى أو كيف سيلتقيان؟ أو إنْ كانا سيلتقيان أصلاً؟؟
وفي تلك المدة التقت أخريات عشن التجربة ذاتها، منهنَّ من انتظرتَّ سنوات فكان الانتظار بالنسبة إليهن خسارة ندمن عليها، إذْ لم يوفقن في الوصول للضفة، وإتمام الزواج، وأخرياتٍ تمكنَّ من الوصول إلى هناك بعد عناء ولكنهن بين نار الشوق لأهاليهنَّ في غزة والخشية من أن تكتشف قوات الاحتلال أمرهنَّ فتبعدهنَّ إلى غزة بتهمة الإقامة غير الشرعية فلا يعود بمقدورهنَّ رؤية أزواجهن وأبنائهنَّ ثانيةً".
وبين هذا وذاك أقاربُ لها ومعارف يحثونها على الانفصال و»هيا عَ البر» خشية أن تضطر في النهاية للانفصال عن خطيبها بعد أن يكون قد فات قطار العمر وقلت فرصها للارتباط بغيره، لكنَّ قلبها يأبى أن يطاوعها بأن تطلق رصاصة الرحمة على حبهما بسبب ظروف خارجة عن إرادتهما!
«سأمضي في الأمر حتى النهاية، لم يعدْ أمامي سوى المخاطرة والمرور بطرق التفافية، أفكر في تزوير تقرير طبي علّها تكون وسيلة للعبور للضفة والاستقرار هناك»، لكن الأمر لا يعدو كونه مخاطرة غير محمودة العواقب، قد تنتهي بها للوصول إلى هناك، لتبدأ معركة الاختفاء عن أنظار الاحتلال بكل قواها، أو اكتشاف أمرها والزج بها في غياهب السجون، وإذا كانت محظوظة فسيسمح لها بالعودة أدراجها إلى غزة مع إدراج اسمها على لائحة الممنوعين من السفر لتكون تلك نهاية القدر لقصة حب جاهد طرفاها لتتويجها بالزواج.
مضت في خيارها غير آبهةٍ بما يمكن أن تلقاه فلا خيار آخر أمامها، وتحصلت من معارفها ــ بحكم عملها في مؤسسة طبية ــ على تقرير «مزور» يفيد بأنها مريضة وبحاجة ماسة للعلاج، وبعد إجراء التنسيقات اللازمة ومماطلة معهودة ورفض الاحتلال السماح لأحدٍ من ذويها بمرافقتها، أُبلغت أنها يجب أن تحضر إلى معبر بيت حانون «إيريز» الأسبوع الماضي، فحزمت أمتعتها ووطئت قدماها المعبر وهي تخشى أن ُيكتشف أمرها ودقات قلبها تتسارع، مضت الدقائق ثقيلة، ولم يطمئن قلبها سوى بعدما خرجت من المعبر للضفة المحتلة. قد تكون خطوة غير محمودة العواقب، ولكن حينما تدعي أنك مريض لتصل إلى الحبيب، فأنت لا تكذب.
جاء صوتها عبر الهاتف وقد كسته نبره السعادة بأنْ استطاعت أن تخطو أول خطوة في طريق إتمام زواجها، وأن حظها كان أفضل من أخرياتٍ كثر، لكنها أخبرتنا أنها ستكون أمام مزيدٍ من الانتظار فهي ستبقى في رام الله تنتظر أن يلحق بها ذووها – بطريقةٍ أو بأخرى- لإتمام مراسم الفرح، فهل سيستغرق الأمر أشهرا أم سنوات؟ الله وحده يعلم... ومعه العشاق.