من المضحك المبكي أن إحدى الخطوات العربية لـ"تعزيز" صمود أهل القدس هي تسهيل ومساعدة سماسرة أو شخصيات فلسطينية ناشطة على شراء عقارات من مقدسيين، تحت عنوان أن شراءها من الذين باتوا لا يستطيعون العيش في البلدة القديمة، مثلا، سيساهم في الصمود بوجه التوسع الاستيطاني، وعلى حين غرة تباع لجمعيات إسرائيلية في وقت مناسب، فيستيقظ أهل الحيّ على وجود المستوطنين بينهم بدعوى أنهم صاروا ملاكا قانونيين. تماما كما حدث مع نحو ثلاثين شقة، في وادي حلوة في سلوان، قبل قرابة عامين، أو مثل ما يحدث في حالات بيع مباشرة (الأسبوع الأول من أيار 2016) بعدما بات الأمر سهلا ولا أحد يلاحق أو يحاسب.في تلك الأيام (2014)، سارعت "الحركة الإسلامية" (الجناح الشمالي)، في الأراضي المحتلة، إلى توجيه أصابع الاتهام بصوت عالٍ إلى الإمارات بصفتها واقفة خلف تمويل هذه العملية، واعدة بتقديم دلائل "تكشفها الأيام". كذلك هددت السلطة الفلسطينية بملاحقة المشترين الفلسطينيين (الطرف الثالث)، دون أن تشير إلى من يقف وراءهم، أو ماذا تفعل مع من تمسكه منهم... ومنذ ذلك اليوم، يبدو أن هناك من سَكت وهناك من أُسكت.
تكشف وثائق تفصيلية، حصلت عليها "الأخبار" بشأن بيع أحد العقارات المقدسية في البلدة القديمة في القدس، عن فضيحة كبيرة تطاول أطرافا عدة. في البداية، كانت فرضيات هذا التحقيق مبنية على وقائع سابقة، أي أن الوثائق والعقود والسجلات التي تثبت عملية بيع جرت بين شخص فلسطيني يحمل الهوية الإسرائيلية، وإحدى العائلات المقدسية الشهيرة، ثم تنازل هذا الشخص عما اشتراه لشركة إماراتية، جعلنا نصرخ: "حصلنا على الأوراق التي قد تثبت بيع القدس لإسرائيليين بأموال إماراتية". لكن الذي اكتشفناه خلال البحث والتحري، والفرضيات الناتجة منه، كانت أكبر من ذلك بكثير؛ فالعقار (محلّ البيع) لم يسلم لمستوطنين حتى صدور التحقيق، برغم أن عملية بيعه جرت في الخامس من تشرين الثاني 2014، أي بعد شهر واحد من حادثة اقتحام المستوطنين شقق سلوان (30 أيلول - 5 تشرين الأول 2014). كما أن الوسيط الذي اشترى العقار أشهر من نار على علم لدى كل من السلطة وإسرائيل والجمهور الفلسطيني، وسبب دخوله شخصيا في هذه الصفقة كان مثار استفهام ومن الأسئلة المحيّرة، في ظل أن مشغّله يستفيد منه في أمور، بالنسبة إليه، أصعب من بيع بيوت القدس لإسرائيل!
بالتدقيق أكثر في العقار والعناوين المقدمة في عقود البيع، والشركة التي تقف خلف عملية البيع، كان الباب يفتح وراءه عشرة أبواب، والأسماء تتوالى. برغم ذلك، فإن الأسئلة في هذا التحقيق بقيت أكثر من الإجابات، ما اضطرنا إلى صياغتها على شكل فرضيات، لكنها أسئلة من النوع التي يمكن وصفها بأنها تجيب نفسها بنفسها، خاصة مع تحليل سياقات الأحداث التي تزامنت في أوقات متقاربة، وهو ما أضاف على فريق العمل عبء تحقيقين آخرين.
يمكن لنا ترتيب نتائج التحقيق وفق أكثرها مُصابا، لأن بيع بيوت القدس للمستوطنين، خاصة البلدة القديمة المحيطة بالمسجد الأقصى، لم يكن المصيبة الوحيدة. فبعد التحري من مصادر أمنية وأخرى مقدسية، تحدثت إلينا خلال إجراء التحقيق، تبين أن السلطة الفلسطينية، التي توعدت بملاحقة مسربي البيوت، وصلت إلى عدد ممن باعوا بيوتهم. وفيما اعتقل بعضهم وصدر بحقهم أحكام (من دون إثارة أخبار حول ذلك)، وفق القانون الذي أصدره رئيس السلطة، محمود عباس، بالأشغال الشاقة المؤبدة، بعد تعديل القانون الأردني، كان مسؤولون آخرون يجبرون عدداً من مسربي العقارات على تقديم حصّة من الأموال التي تلقوها مقابل خيانتهم الأولى، وإلا فإن مصيرهم الاعتقال، كما حدث مع بعضهم، ليضيف هؤلاء خيانة ثانية إلى سجلات القضية، مع أنه لا شيء يؤكد هل يعلم عباس بذلك أم لا؟
حتى إن الطرف الذي يبلغ هؤلاء المسؤولين بأسماء وبأماكن المقدسيين ممن باعوا البيوت، هو "الارتباط المدني الإسرائيلي" بعدما يكون عرف بتفاصيل العقود من الجمعيات الاستيطانية. بل أكثر، إحدى العائلات التي تجرأت وتحدثت معنا، قالت إنها راجعت مسؤولين في السلطة للتأكد من سلامة بيعهم أحد بيوتهم لسمسار، أكدوا لهم أنه "نظيف أمنيا"، ثم ما لبث أن سلم البيت لمستوطنين. وعندما عاودوا مراجعة أولئك المسؤولين، قالوا لهم إنهم لم يتوقعوا أن يفعل السمسار ذلك.
ثمة ما هو أدهى وأمرّ، وهي قضية التحقيق المتعلقة بأحد البيوت الذي لم يسلم للمستوطنين رغم أن عملية بيعه كانت منذ عامين، وهو ما ظلّ يلح علينا بالاستفهام عن سبب بقائه على حاله برغم تسجيله على اسم شركة إماراتية، وكذلك عن سبب اختيار هذا الوسيط للشراء دون غيره.

فرضيات ثلاث

انطلق هذا التحقيق من ثلاث فرضيات: الأولى مستنبطة من تسلسل بيع العقارات في القدس، أي أن هناك من علم بما يفعله بعض مسؤولي السلطة مع جزء ممن باعوا بيوتهم وقايضوهم على جزء من المال، وهو على عداء معها (لا يوجد ما يؤكد أن الرئاسة تعرف بأمر المقايضة)، فقرر أن يفعل مثلما يفعل سماسرة الأرض المقدسة، فيشتري عقارا ليسلمه للمستوطنين، منتظرا اتصالا من أحد ما في رام الله يقايضه بحصّة من المال، كي يوقع السلطة في فضيحة يمكن العمل عليها إعلاميا وبصورة كبيرة، ويتمثل دورا وطنيا هو أبعد ما يكون عنه، فضلا عن أن هذه الفرضية تصطدم بطبيعة الشركة التي تنازل لها ومصير الحي الذي اشترى فيه.
أما الفرضية الثانية، وهي أسوأ مما قبلها، فتؤدي إلى أن يُستغل المبنى لأعمال الشركة الإماراتية الشارية، وبالتأكيد هي أعمال لا تسرّ ولا تبشّر.
وتبقى الفرضية الثالثة على بساطتها ووضوحها: ليست إلا عملية واحدة من عمليات بيع بيوت وأراضي البلدة القديمة الملاصقة للمسجد الأقصى، لإسرائيل، بأموال إماراتية، بانتظار الوقت الملائم للتسليم، خاصة أن ثمانية بيوت محيطة بالعقار صارت برسم المستوطنين، و"تعزيز الصمود" لن يكون حتما بشراء بيت دون إسكان فلسطينيين فيه.
القصة بدأت عام 2013، حينما وقّع فادي (أحمد حسين) السلامين، الذي يحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية، وللأخيرة قصتها (انظر التحقيق الثاني بعنوان، السلامين: "أسطورة" النخبة الفلسطينية وبطل الجنسية الإسرائيلية)، عقد تأسيس شركة (الوثيقة الأولى)، مع مريم (حسين نصار) سلامين (عمّته)، اسمها شركة "السرينا العالمية للتجارة والاستثمار"، على أن يدخل في نطاق عملها "الاستيراد والتصدير والأنشطة العقارية وتجارة الأغذية والمشروبات والتبغ"، وذلك في العاشر من أيلول من تلك السنة.
لكن عام 2013 يعني حدثا مهما في حياة فادي السلامين، الذي كانت آخر زيارة له إلى مسقط رأسه في الخليل عام 2010؛ والحدث هو مرور سنتين على بدء الخلاف الكبير بينه وبين السلطة الفلسطينية، تحديدا منذ 2011 عندما انقلب فادي على الإشارات الإيجابية التي حوتها صور جمعته برئيس السلطة، محمود عباس (2009 في المغرب)، وبرئيس الوزراء السابق سلام فياض (2008)، ثم بدأ شن هجوم لاذع على عباس تحديدا، بعدما بات من "رجال محمد دحلان".
هذا يطرح السؤال رقم واحد: كيف أعطي السلامين مجالا لتأسيس شركة وترخيصها في الوقت الذي وصل الخلاف فيه إلى أشده مع السلطة، بل رأسها؟ سؤال ثانٍ تطرحه الوثيقة الثانية، التي تظهر أنه في السادس والعشرين من الشهر نفسه (أيلول 2013)، مُنح السلامين، فادي ومريم، ترخيص عمل لدى السلطة (صادر عن مراقب الشركات في وزارة الاقتصاد الوطني)؛ فالمسافة الزمنية ما بين التأسيس والتسجيل، 16 يوما، قصيرة جدا، مقارنة بما تحتاجه جمعية خيرية، فضلا على أن تكون شركة تجارية، للحصول على تسجيل، قد يمتد إلى ثلاثة أشهر في حال كان صاحبها أجنبياً، بعد التحري والتدقيق والإجراءات الروتينية.
أما السؤال الثالث، فهو: كيف يُمنح الترخيص لشخص يقدم نفسه على أن عنوانه هو بئر السبع (فلسطين المحتلة) ويحمل جنسية فلسطينيي الـ48 ومهنته "تاجر" وهو يقيم في الولايات المتحدة منذ كان عمره 14 سنة، ولا يحمل أي عضوية تجارية فلسطينية؟، علما بأنه يحتاج وفق القانون الفلسطيني إلى موافقة أمنية خاصة ليفتح شركة مرخصة في المناطق التابعة للسلطة. بل كيف يحصل على هذه الموافقة في ظل "حرب" معلنة على السلطة ورؤوسها، من أكبر المنابر الإعلامية الدولية والإسرائيلية؟ والأكثر غرابة أن أوراق التسجيل تظهر أن شريكته (مريم سلامين) تعمل "ربّة بيت"، ما يؤكد بلا شك أن ثمة يدا خفية أسّست وسرّعت له هذا الترخيص!
لم يدم الوقت طويلا حتى تبين الهدف من هذه الشركة، الحاصلة على رقم ترخيص 562527804 برأسمال قيمته مئة ألف دينار أردني (49 ألفا لفادي و51 ألفا لمريم) ولا يظهر تسجيلها إلا في موقع فلسطيني واحد. ففي العشرين من تشرين الثاني من العام نفسه (2013)، تظهر وثيقة ثالثة أن السلامين قدم "تنازلا مسبقا" عن العقار المنوي شراؤه في القدس، وذلك لمصلحة شركة إماراتية تدعى "الثريا للاستشارات والبحوث"، ومقرها في أبو ظبي.
دليل فلسطيني تجاري وحيد أظهر ترخيص "السرينا"

من ثم، تُظهر وثيقة رابعة أن هذه الشركة حصلت على رخصة تجارية لمدة عام، من "غرفة أبو ظبي التجارية" برقم CN-1222297، ولكن تأسيس "الثريا" المقدم في الرخصة، هو الثاني والعشرين من حزيران 2011، ورخصة العمل تبدأ من 1 حزيران 2015 حتى 31 أيار 2016، أي أنها سعت إلى ترخيص عملها في الإمارات بعد أربع سنوات من تاريخ تأسيسها، وأيضا تزامن ذلك مع تسجيل فادي العقار في وزارة القضاء الإسرائيلية مطلع هذا العام، علما بأن البحث في الإنترنت يبين أن هذه الشركة، أو الشركة الأمّ، حاصلة على رخصة سابقة في الإمارات، قبل سنوات عدة.
اللافت أكثر أن البحث عبر "غوغل مابز" لم يظهر الشركة قائمة في العنوان المقدم إلى الترخيص (معسكر آل نهيان)، ولا حتى في العنوان المذكور في العقد بينها وبين السلامين، فضلا على أن البحث في "دليل أبو ظبي التجاري الإلكتروني" أظهر أن "الثريا" بلا موظفين ورأسمالها المعلن هو صفر! كما إن البحث عن ضاحي (محمد حمد) الثميري، وعبدالعزيز (حمد محمد راشد) الرميلي، اللذين سجلت الشركة باسمهما، لم يظهر أي سيرة ذاتية بارزة، أو وجودا على الإنترنت (انظر التحقيق الثالث بعنوان: ما بين «ثريا الدحلان» و«إمبراطورية الثريا» الأمنية).
برغم ذلك، فإن العقد المشار إليه بين السلامين وشركة "الثريا" (الوثيقة الثالثة)، يحمل التفاصيل نفسها الخاصة بالعقار قيد البيع (البلدة القديمة العقار رقم 1015 صفحة 3035)، كما أنه يسبق عقد البيع بين السلامين والعائلة المقدسية صاحبة العقار. كذلك فإن عنوان الطرف الأول (السلامين) صار في عقدي البيع، مسجلا في القدس، لدى المحامي إياد حبيب الله (شارع ابن بطوطة بناية 14) وليس في الخليل (مكان الترخيص)، أي إن هناك توكيلا أعطي لمكتب المحاماة من أجل إمساك عملية البيع من أولها حتى آخرها، كما أن السلامين لم يرد أن يظهر للطرف المقابل أنه يشتري باسم شركته، بل باسمه الشخصي. أيضا، المبلغ المقدم ثمنا للعقار، 2.5 مليون دولار أميركي، هو الرقم نفسه المتفق عليه في العقد مع العائلة المالكة.

عملية البيع

إذاً، وبينما كان المستوطنون يقتحمون الشقق التي اشتروها في وادي حلوة في سلوان (2/10/2014)، بأموال إماراتية وفق تصريح نائب رئيس "الحركة الإسلامية"، كمال الخطيب ، وفيما كانت تدور العمليات لتسريب شقق وبنايات أخرى، كان العمل يجري على قدم وساق لتوقيع عقد البيع بين السلامين وعائلة جودة (الحسيني)، كما يظهر عقد البيع (الوثيقة الخامسة) الموقع بين الطرفين في الخامس من تشرين الثاني 2014.
يقول عقد البيع في هذه الوثيقة، إن كلا من لمياء جودة، وابنها أديب جواد جودة (يحملان أرقام هوية القدس)، باعا قطعة أرض في البلدة القديمة في القدس (سجل 1015 صفحة 3035) إلى فادي السلامين، وعلى هذه الأرض مبنى مكون من ثلاث طوابق يحده من الشمال بيت فتح الله جودة ومن جهتي الجنوب والغرب طريقان، ومن الشرق "ورثة محمد بامية"، وفي الطابق الأول منه صيدلية والثاني مؤسسة "صندوق المرضى" الإسرائيلية، والاثنان مستأجران، وذلك بالاستناد إلى "حصر إرث" عن "المرحوم أديب عبد القادر جودة". وثُمّن العقار بمبلغ 2.5 مليون دولار يُقدم على دفعتين، مع تحمل كل طرف الضرائب الموجبة عليها، خاصة الطرف الثاني (عائلة جودة) الذي يجب أن يدفع ضريبة "الأرنونا" لبلدية الاحتلال في القدس، ثم انتهى العقد بتوقيع الابن أديب.
من هنا تستجد ثلاثة أسئلة: ماذا حلّ بالمبنى المذكور وما الغرض من بيعه إلى شركة إماراتية تعمل في مجال الاستشارات الأمنية والإنقاذ ومكافحة الإرهاب؟ ومن هي لمياء (درويش) جودة ومن هو ابنها أديب جواد جودة (الحسيني)، وما هي قضية "حصر الإرث" المذكورة في العقد؟ وهل كانت عائلة جودة تعلم إلى أين سيذهب المبنى والغرض الذي سوف يستخدم فيه؟
العقار المبيوع في عقبة درويش في البلدة القديمة - الأخبار

في إجابة السؤال الأول، تُظهر الخرائط أن المبنى يقع في إطار البلدة القديمة وهو يبعد عن المسجد الأقصى ثلاث دقائق سيرا على الأقدام، ويمكن الدخول إليه من باب الساهرة، الذي يعتبر من الأبواب المهمة للمسجد. ولا يزال العقار على حاله لجهة بقاء الصيدلية والمؤسسة الطبية فيه، في حين أن الطابق الثالث فارغ بدلالة نوافذه المكسورة والمهملة والأبواب المغلقة إلى الأعلى. ويؤكد بعض الجيران أن البيت عائد إلى عائلة جودة، ما يدل على أنهم لا يعلمون بعملية بيعه، كما لم يشر أحد إلى وجود سكان في الطابق الثالث.
انفوغراف 2 - الأخبار



الأهم أن نحو ثمانية بيوت من أصل عشرة في الشارع نفسه، سُربت إلى المستوطنين على مدار السنوات الماضية، فيما بات هذا الحي (عقبة درويش ضمن الحي الإسلامي) قابلا للتحول إلى منطقة يهودية في ظل التسريب المتوالي والمباشر لليهود. وخلال أيام إجراء التحقيق، سرّبت عائلة اليوزباشي منزلا في حي السعدية المجاور إلى جمعية "عطيرات كوهنيم" الاستيطانية (راجع العدد ٢٨٨١ الثلاثاء ١٠ أيار ٢٠١٦)، وهو لا يبعد سوى مئة متر عن المنزل الذي تملّكه فادي السلامين من عائلة جودة، وآل إلى شركة "الثريا" الإماراتية.
عقار اليوزباشي الذي بيع مباشرة لجمعية استيطانية مطلع أيار 2016 - الأخبار

والانفوغراف والخرائط المرفقة توضح أنه خلال خمس سنوات مقبلة في حال استمر تسريب البيوت إلى المستوطنين عبر البيع المباشر (بأموال إسرائيلية) أو الوسطاء (بأموال عربية)، ستتحول أجزاء كبيرة من البلدة القديمة إلى مناطق يهودية السكن، ما يعني تهويد محيط الأقصى أولا، كخطوة أمر واقع لتهويد المسجد ثانيا، في ظل أن جداول (ستنشر لاحقا)، حصلنا عليها من باحثين ومراقبين مقدسيين توضح أنه مع منتصف هذا العام، يكون أكثر من ستين عقارا، كبيرا وصغيرا، من الأحياء الملاصقة للأقصى، قد صارت بيد المستوطنين.
انفوغراف - الأخبار

لكن شيئا آخر لفت الانتباه خلال البحث، هو العنوان المقدم في عقد البيع عن عائلة جودة. فكما ظهر أن الشركة الإماراتية عنوانها غير دقيق والبحث عنه في الخرائط لا يوصل إلى شيء، كان عنوان عائلة جودة فيه نوع من اللبس؛ العنوان المذكور في عقد البيع (الوثيقة الخامسة) هو شارع حاتم الطائي -المبنى رقم 18، فيما بيّن البحث أن العائلة (بيت أديب) تقطن في المبنى رقم 25 من الشارع نفسه. أما العقار رقم 18، فقادنا إلى بيت يتكون أيضا من ثلاثة طوابق ويطل على طريقين (زاوية)، وله مدخلان وكراج سيارات وملحق خارجي (غرفة مع باب خارجي وآخر داخلي لها)، وهو مزود بكاميرات مراقبة جديدة وموزعة جيدا حوله. لكن لا يوجد جرس خارجي أو داخلي كما حال البيوت المحيطة به، ثم تبين أنه عائد إلى مؤسسة إسبانية دينية اسمها "القديسة تيريزا".
بناية رقم 18 المسجلة كعنوان آل جودة - الأخبار



العائلة البائعة

أما عن العائلة، فأظهر البحث أن لمياء لبنانية الأصل واسمها لمياء درويش، وتكنّى لمياء جودة على اسم زوجها الراحل جواد جودة، كما تسافر سنويا إلى الأردن ولبنان والإمارات، والسعودية (جدة) حيث تقيم ابنتها ندى، فيما يقيم معها في القدس ابناها سري وأديب. والأخير هو كلمة السرّ، والاسم الأساسي في عقد البيع، وهو من عائلة الحسيني الشهيرة في القدس، التي تمتلك عقارات كثيرة تعمل على تأجير عدد منها، وتقدم نفسها عبر الإعلام على أنها ضد تصرفات الشرطة الإسرائيلية، مع أن أديب نفسه كان يعمل لدى الشرطة الإسرائيلية برتبة رقيب أول في القضايا الجنائية تحديدا! بل كان أديب محقّقا كما تظهر جلسات محاكمة إسرائيلية، ثم ترك الشرطة الإسرائيلية عام 2007، ولكنه في 2010 و2011 استدعي كشاهد بصفته محققا مع بعض المجرمين في قضايا جنائية.
جلسات محاكمة إسرائيلية تظهر أن أديب جودة كان يعمل شرطيا

بعد ذلك، عمل أديب في بيع الصلبان والهدايا للسياح الآتين من خارج فلسطين، كما استلم من عبد القادر جودة (جدّه) مفتاح كنيسة القيامة، الذي تتوارثه عائلة الحسيني كأمانة بسبب خلاف الطوائف المسيحية على من يفتح الكنيسة ويغلقها، فكانوا منذ مئات السنوات يحملون هذا المفتاح كحلّ وسط في قصة تاريخية يعرفها أهل المدينة وتحدثت عنها الصحافة العالمية والإسرائيلية والمحلية. أيضا، يقول أديب إنه يحمل شهادة دكتوراه من جامعة "يورك" في كندا، وتبين أنها من الجامعات التي تعطي الشهادات بسهولة، خاصة أن المتخرجين منها يفوقون المليون!
كل هذا يجدّد السؤال عن الغاية من شراء فادي السلامين بيتا من عائلة (جودة) الحسيني الشهيرة، وتحديدا من شرطي سابق لدى إسرائيل، تملك عائلته عقارات كثيرة في القدس، علما بأن العائلات المقدسية تتحرى عادة من يشتري بسبب فضائح البيع عبر طرف ثالث إلى المستوطنين، وهو ما يثير التساؤل عن علم العائلة بطبيعة المشتري وبأهدافه، وهل حدث الأمر عبر المكتب المحاماة فقط. لكن البحث الطويل أوصلنا إلى صورة تجمع بين طرفي العقد (فادي السلامين وأديب جودة) قبالة قبة الصخرة، اتضح أنها منشورة على "فايسبوك" بعد يومين من توقيع العقد (نشرت الصورة في 7 تشرين الثاني 2014).
صورة تجمع طرفي العقد السلامين (يمين) وأديب (يسار) والشيخ في الوسط كان عابرا في الطريق

حجج دفاعية مسبقة

بالنسبة إلى فادي السلامين، وبما أن الإطار الذي يعمل معه (شبكة محمد دحلان) يستفيد منه في قضايا تجارية وأمنية وإعلامية كبيرة، فإن الإلقاء به في هذه القضية حمل نوعا من الشك عن الدافع لاستقدامه من الولايات المتحدة من أجل إجراء عمليتي البيع والتنازل، دون الاستعانة بشخوص آخرين قد لا يثيرون الشبهة. لكنّ ربط ما حدث مع بعض مسرّبي العقارات ومقايضة مسؤولين في السلطة لهم بأموال مقابل تركهم، مع الدور الظاهري الذي يفعله السلامين في "كشف ملفات فساد السلطة" ومحاولة إظهار نفسه كبطل في هذا المجال، يوصل إلى أنه معنيّ بدرجة أولى بأن يكون الشخص الذي يلقي الصنارة ليعلق بها أحد رجالات السلطة، ويكرّ بعدها الخيط لحشر محمود عباس إعلاميا، ولا مانع في سبيل ذلك من ذهاب المبنى إلى أيد ثانية، أكانت عربية أو يهودية، أي أن ذلك يعزز الفرضية الأولى من جهة، والثالثة من جهة أخرى.
وفي حال المواجهة، يسهل على السلامين ادعاء أن شراءه المنزل كان لـ"حمايته" من الوقوع بأيدي المستوطنين، ولكن تنازله عن البيت لمصلحة شركة إماراتية في ظل تساقط البيوت واحدا تلو الآخر حول هذا العقار وفي أحياء أخرى، والمبلغ الكبير المدفوع في الصفقة (المفترض أن السلامين لا يملك فائضا من الثروة لفعل ذلك)، وطبيعة العائلة المشترى منها العقار، وكل السياق الذي استخرجت فيه أوراق ترخيص شركة السلامين (السرينا) وطريقة حصوله على الجنسية الإسرائيلية والتسهيلات القانونية المقدمة إليه ومن المستحيل أن يحصل عليها لو كان العمل "وطنيا"... تدينه أولا وآخرا.
وقبل البحث في قضية "حصر الإرث"، يلاحظ أن ثمة تغيرا في طريقة الدفعات في عقدي البيع الموقعين: الأول بين السلامين والشركة الإماراتية، والثاني بين السلامين وعائلة جودة، خاصة أن العقد الأول سبق فيه تنازل فادي للإماراتيين قبل شرائه المبنى. والدفعات في الأول كانت: دفعة أولى 500 ألف دولار على أي حساب يختاره السلامين، ثم مليوني دولار على حساب الشركة في الخليل، وفي العقد اللاحق: مليون ونصف مليون و20 ألف دفعة أولى وعربون من السلامين لعائلة الحسيني، ثم 980 ألف دولار، لتتم 2.5 مليون دولار، هي القيمة نفسها للعقدين.
والتفسير لهذا الاختلاف سببان: إما أن تكون ثمة نسخة من "عقد أوّلي" مسبقة بين السلامين وعائلة جودة لم تظهر لنا، وإما أن فادي لم يكن قادرا على توقيع العقد الثاني قبل أن يملك المبلغ المطلوب، خاصة أن عليه دفع مليون ونصف المليون تقريبا لحظة توقيع العقد مع عائلة جودة، فضلا على أن من وراء "الثريا" الإماراتية قد يكونون راغبين في توثيق التنازل قبل انتقال الملكية إلى "السرينا" التي يملكها السلامين. وكان لافتا أن التفاصيل التعريفية للمبنى في العقد الأول 2013 والثاني 2014 متطابقة، ما يؤكد تطابق المحتوى، إضافة إلى إقرار الطرف الإماراتي بأنه عاين وشاهد المبنى في القدس، وكذلك أمر المعاينة بالنسبة إلى السلامين.

توثيق البيع

لاحقا، يظهر في عام 2015 انقطاع في الأحداث يبدو أنه راجع إلى الإجراءات القانونية لمكتب المحاماة، المكون من ثلاثة محامين هم: محمود وإياد حبيب الله ورامي الرشق، ثم تظهر ثلاث وثائق جديدة احتوت خطوات قانونية عدة جرت بصورة متتالية وسريعة منذ بداية العام الجاري. ففي التاسع من كانون الثاني الماضي، قدّمت لمياء جودة إلى المحامي إياد حبيب الله توكيلا "غير قابل للعزل"، هو الوثيقة السادسة، وذلك لإتمام عملية البيع والتسجيل والتقاضي وكل العمليات القانونية اللازمة بالتفصيل المملّ.
بموجب هذا التوكيل، الذي يتضح أنه جاء نتيجة "ملاحظة تحذيرية" ملزمة في القانون الإسرائيلي للراغبين في إتمام صفقة، يكون حبيب الله متصرفا كاملا عن لمياء بالمبنى، من دون أن يستطيع "أحد من الورثة أو أي شخص آخر عزل الوكيل (إياد حبيب الله) أو إبطال الوكالة أو أي عمل قد يؤثر في مفعولها"، وهو ما يمنع ورثة زوجها جواد جودة (والده وإخوته) من التدخل في العقد بينها وبين السلامين. هذه الفائدة الأولى، أما الفائدة الثانية، فهي أن هذه الورقة شرط لتسجيل المبنى في وزارة القضاء الإسرائيلية، كما يتبين في الوثيقة السابعة، المستخرجة من "دائرة أراضي القدس"، وكان الهدف منها إبلاغ المحامي إياد بأن العقار صار باسم فادي السلامين، وذلك في الرابع والعشرين من كانون الثاني الماضي، متضمنا بلاغا إلى المحامي بنقل الملكية.
في هذه الوثيقة، وبجانب اسم لمياء جودة، وضعت "ملاحظة تحذيرية"، اتضح بالعودة إلى "تسجيل وتنظيم الأراضي" في موقع وزارة القضاء الإسرائيلية، أنها كانت إجابة عن سؤال هو: "متى يمكن تسجيل ملاحظة تحذيرية?"، فكانت الإجابة: "طالما أثبت بقناعة مسجل الأراضي أن صاحب الحق في الأرض قد تعهد بتنفيذ صفقة أو الامتناع عن تنفيذ صفقة, يقوم المسجل بتسجيل ملاحظة تحذيرية لصالح المستحق من خلال التعهد. ولغرض تسجيل ملاحظة تحذيرية يمكن التوجه إلى مكتب التسجيل ذي الصلة, حسب موقع العقار وتقديم طلب لتسجيل ملاحظة تحذيرية للمتعهد و/أو المستحق, مرفقا معه كتاب التعهد (اتفاقية, توكيل غير قابل للعزل, تعهد برهن سكني وما إلى ذلك) وتصديق مقابل دفع الرسوم".
وكما يتبين من الإجابة، فإن "التوكيل غير القابل للعزل" هو أحد الشروط للتسجيل، وقد حمل هذا التوكيل رقم 16/4 ضمن المستندات التي أرفقها المحامي إياد وصادق عليها كاتب العدل محمود حبيب الله (يعملان في المكتب نفسه) إلى وزارة القضاء، وأكد الأخير فيها أن لمياء جودة وقّعت "بمحض إرادتها" عليه.
كذلك فإنه في موقع الوزارة، جاءت الإجابة عن سؤال: "أريد نقل تسجيل شقة والديّ على اسمي واسم أخي – الورثة. ما الذي علي فعله?"، كالتالي: "يجب الاهتمام باستصدار أمر تثبيت وصية أو أمر حصر إرث, حسب الحالة. بعد استصدار الأمر يمكن التوجه إلى مكتب التسجيل ذي الصلة وتقديم طلب لتسجيل ميراث على متن استمارة "طلب لتسجيل إرث/اتفاقية تقسيم تركة" مرفقا معه الأمر الأصلي, وتصديق على دفع الرسوم"، وهو الأمر الذي أشير إليه في العقد الأول للبيع مع السلامين. ومن هنا، تتطابق هذه الإجراءات والبنود القانونية، مع ما أفادت به مصادر من المدينة شرحت لنا أن ثمة خلافات قديمة داخل العائلة على الإرث، يبدو أنها انتهت إلى "حصر إرث" ووضع حدود لممتلكات كل عائلة، ثم جاء التوثيق من لمياء لحسم الصفقة.
لم تتوقف الإجراءات إلى هنا، فقد بادر المحامي إياد حبيب الله في الرابع عشر من آذار الماضي، إلى إرسال إخطار (الوثيقة الثامنة) إلى فادي السلامين بتحويل عشرة آلاف دولار إلى حساب "السيد تييري بلانك" في سويسرا على أنها "دفعة من مجمل أتعاب متفق عليها"، ولكن من دون أن يتضح دور هذا الشخص، الذي تبين لنا أن اسمه تيري هنري ويعمل محاميا لدى "غرفة بلانك" التي تجمع آلاف المحامين الأقوياء، وهو يعمل في قضايا تخص السلامين في الخارج علما بأنه متخصص بالشركات وبالدفاع عنها، ويوصف بأنه يغسل آثار أي عمل للسلامين و"الثريا". كما لم تتضح أتعابه في أي قضية تحديدا، ولكن إرسال المحامي إياد حبيب الله هذا البلاغ بالطبع له علاقة بشراء العقار المذكور ما دام أن إياد هو الوكيل الحصري لفادي السلامين ولمياء جودة، علما بأن العقد بين السلامين والشركة الإماراتية يؤكد أن على الشركة تحمّل تكاليف عمليات البيع والتسجيل كافة، فهل هذه هي الأتعاب المقصودة، وكم حجمها ونصيب مكتب المحاماة من جهة، وفادي السلامين من جهة أخرى، فيها؟

المحامي تيري هنري من غرفة بلانك والمسمى في ورقة الحوالة تيري بلانك

إلى أين؟
لم تنته التساؤلات، فالاستفهام عن طبيعة المبنى ومصيره وهل ضُمّن في نطاق عمل "الثريا" للاستشارات هو أهم سؤال، فضلا على مصلحة مثل هذه الشركة في شراء مبنى بهذا المبلغ الكبير في القدس المحتلة وبلصق المسجد الأقصى؟ وهل هذا هو السبب الذي جعل من حول دحلان يرفضون مقابلة "الأخبار" حينما شعروا بأن أمرا ما يكشف، برغم أنهم رحّبوا في البداية باللقاء؟ أيضا، ما هو موقف السلطة من هذه المعطيات، التي لا شك أنها لا تغيب عنها كلها أو جزءا منها على الأقل وهي صاحبة خبرة في هذا المجال كما يتضح من شهادات العائلات؟ بل كيف تسمح بتسجيل شركة لفادي السلامين الذي بات أشهر من نار على علم في محاربتها وشتم رئيسها محمود عباس وكشف وثائق فساد تدينها؟



فوق ذلك، من هو فادي السلامين وكيف حصل على كل هذه التسهيلات والامتيازات، إماراتيا وإسرائيليا وفلسطينيا وأميركيا، وما حدود علاقته بمحمد دحلان وهو ابن الثالثة والثلاثين؟ وكيف يقدم على شراء عقارات في القدس بهذه المبالغ بكل جرأة وهو يعلم أن العيون عليه من كل صوب؟ ومن عائلة جودة (الحسيني) التي تمتد علاقاتها بمسؤولين كبار في الأردن ولبنان والإمارات؟ وكيف يحمل مفتاح كنيسة القيامة شرطي لدى إسرائيل، وهل تفتح هذه الأسئلة مجددا الباب على دور عائلات مقدسية كبيرة وقديمة في إضاعة عقارات وأراضي المدينة؟
ليس أخيرا، من هي "إمبراطورية الثريا الأمنية"، وما علاقة دحلان بها؟ ولماذا كلّما حاولنا البحث عن هذه الشركة نجد أنفسنا في دوامة وأمام جسم هلامي بلا رأس واضح أو مركزية محددة؟ لعل البحث في شخص فادي السلامين وشركة "الثريا"، كما يظهر التحقيقان اللاحقان، سيوضحان الصورة أكثر، ويعيدان شبك الخيوط المتناثرة مع بعضها بعضا.