توقّفت عقارب الساعة ليل الإثنين - الثلاثاء في البلدة القديمة في مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلّة، في تمام الرابعة فجراً. وصلت الطواقم الطبّية إلى البيت الذي كانت تُحاصره وحدة «يمام» الإسرائيلية الخاصة، مُدعَّمة بالمئات من الجيبات العسكرية والطائرات المسيّرة. بعد دقائق، نُشر الخبر: «استشهد وديع الحَوح». لخّص الحزنُ الذي لفّ المدينة حجم الخسارة. فجأة، وبعد عشرين دقيقة من الخبر الأول، عاد النبض إلى قلب «أبو صبيح» كما قال بعض رفاقه الذين لم يستوعبوا الصدمة. دبّت الحياة في شوارع المدينة التي ودّعت لتوّها أترابه الشهداء. احتشد الآلاف على باب مستشفى «رافيديا» الحكومي وهم يهتفون: «يا رب... يا رب». استبشرت القلوب التي تَخفق بعنف وغضب متسارع، بأنه ما زالت في جيْب ابن الـ31 ربيعاً رصاصةٌ لم يطلقها بعد، ثمّ علا صوت النحيب مجدّداً. شقّ جثمان القائد الأبرز في مجموعة «عرين الأسود» صفوف مُنتظِريه على باب غرفة العناية المركّزة. لقد قُضي الأمر، وديع شهيداً. اسمه وديع صبيح الحَوح. وُلد في حارة الياسمينة، الأجمل بين الحارات السبع في البلدة القديمة في نابلس. قاسى الشاب الذي سيودّع في ما بعد العشرات من رفاقه الشهداء، مرارة الفقد مبكراً، إذ رحلت والدته وهو في سنّ التاسعة من عمره. اضطرّ عقب ذلك لترْك الدراسة بعد أن وصل إلى الصفّ العاشر الأساسي، ليتفرّغ إلى العمل. قبل المطاردة، كان «سندُ البلدة القديمة»، كما وصفه جيرانه، قد عزم تحت ضغط من شقيقاته الثلاث على الزواج، وهو الأخ الوحيد لهنّ، لكنه وبعد أن أتمّ تجهيز منزله، لم يجد في «العمر متّسعاً لرفاهية كتلك». لمَع صيته في أعقاب تشكيل مجموعة «عرين الأسود» في منتصف آب الماضي. كان «قمرُ الياسمينة»، إلى جانب الشهيدَين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح، هم أبرز مؤسِّسي الجماعة التي التقت على حبّها القلوب، بل إن الشاب الذي خاض تجربة الأَسر بين عامَي 2011 و2018، طَبع «العرين» بصبغته الخاصة، بعدما تولّى خلال الشهور الماضية كتابة بياناتها، التي صدّر فيها رومانسيته الثورية ونقاء سريرته وصدقه، وبساطته أيضاً.
تولّى خلال الشهور الماضية كتابة بيانات «العرين»، مُصدّراً فيها رومانسيته الثورية


بسيط هو وديع، هكذا بدا حين تحدّث معه كاتب هذه السطور في منتصف الشهر الجاري. وليست البساطة هنا سوى بساطة التعبير والبلاغة، أمّا فهْم الخصم، والقدرة على صناعة التكتيك، والبراعة في تعبئة الجماهير، فقد تجاوَز «ابن الياسمينة» فيها أحزاباً وحكومات وقادة سياسيين. يأسرُ قلبك حتى في اعتذاره عن الالتزام بالموعد المحدَّد سلفاً، ويأسره تارة أخرى حين يضرب موعداً جديداً: «الليلة إذا كان في العمر بقيّة». يأتي الليل وينقطع التواصل به، تُفاجئك رسالته قبيل الفجر: «الصبح يا حبيب نتحدّث إذا أصبحنا». تعيد وجهة نظر الحَوح، الصراع مع كيان الاحتلال إلى المربّع صفر. بالنسبة إليه ولأشباهه من الشباب، المعادلة بسيطة: «يوجد احتلال، إذن هناك مقاومة». وهذا الفهم الذي يشبه «شرب الماء في أدبيّاته»، عابر للاتفاقيات السياسية، وصفوف القيادات التي فرّطت أو تمتلك استعداداً للتفريط. أمّا بالنسبة إلى الأفق القريب، أو مستقبل الحياة، فـ«(أنا) على موعدٍ قريب مع الشهادة». يكرّر الحَوح هذه اللازمة، وقد رفعها ذاتها في وجه عددٍ من قيادات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حينما عرضوا عليه منصباً مُغرياً، وعفواً من الاحتلال، مقابل تسليم سلاحه، ليردّ عليه «أبو صبيح» قائلاً: «لم أشترِ السلاح بحُرّ مالي حتى أُسلّمه، ولن تكون دماء إخواني الشهداء سُلّماً نتسلّق عليه».
من وجهة نظر وديع، فإن الدافع إلى تأسيس «عرين الأسود» هو توفير المساحة الآمنة للعمل المقاوم، بعيداً عن التجاذبات السياسية. يقول: «تَشكّلت العرين بعد أن أيْقنّا أن العمل المقاوم أصبح مستحيلاً في ظلّ الانقسام الذي مزّق الجسم الوطني، هدفنا أن نجمع الشباب تحت لواء يقاتل لله أوّلاً ثم الوطن، وأن يستيقظ الناس الذين ألْهاهم الاحتلال بالرخاء والرفاه، حتى نسوا أنهم شعب محتلّ، وظنّوا أنهم يعيشون في باريس (...) تشكّلت العرين لإعادة تصويب البوصلة إلى حيث يجب أن تكون». إلى أيّ مدى يمكن أن يتوسّع ذلك التشكيل؟ يجيب: «ليس المهمّ كمْ عددنا، ولا نوعيّة السلاح الذي نمتلكه، المهمّ أن نترك بصمة في عقول وقلوب الناس ونعزّز إرادة الجهاد والقتال لله ثمّ الوطن، ثم لِنرحلْ بعدها».
قضى «بطل الياسمينة». شيّعه عشرات الآلاف من مُحبّيه، والمئات من الذين قرّروا بلا شكّ السير على النهج نفسه. ترك خلْفه عزماً تجاوَز حدود شخصه إلى دواخل جيل كامل يحمل اسمه. ندبه أحبابه وجيرانه: «لقد فقدنا السند». لكنه كان قد استبق مقتله بطمْأنتنا إلى أن «رفاق النابلسي والعموري والعزيزي لا يتركون السلاح... لن يُكسر ظهر المدينة بعدي».