لا يمكن لأحد أن ينكر بأن نظام إسرائيل الصهيوني قوةٌ عظمى في مجال السيبرانيات والحرب الإلكترونية. لكن المرحلة الأولى من عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها «كتائب الشهيد عز الدين القسام» أثبتت، بما لا يدع مجلاً للشك، أن إسرائيل لم تعد «القوة التقانية الأولى» في منطقتنا.فجر السبت، بدأ التمهيد النيراني بالصواريخ مدة ساعتين على الأقل، للمرة الأولى استخدمت الكثافة النيرانية - التي قُدّرت بما يربو عن 5000 صاروخ - لدكّ القواعد الجوية لا سيما ممرات إقلاع الطائرات الحربية ومدرجاته، والقواعد البرية. تزامن ذلك بهجوم سيبراني وإجراءات حرب إلكترونية عطّلت محطات الإنذار المبكر والرصد وأنظمة الاتصالات اللاسلكية الإسرائيلية كافة، ومختلف مراكز القيادة والتحكم في نطاق لا يقل عن 40 كلم.
سهّل ذلك عملية الاقتحام، فاقتُحمت الثكنات والمواقع العسكرية الصهيونية دون أن يقرع فيها جرس إنذار، فمُزِّق من فيها شرّ ممزَّق وأسر من أُسر وهرب من هرب. بتلك الحرب السيبرانية والإلكترونية، استحالت وحدات الجيش الإسرائيلي ومواقعه جزراً معزولة سَهُل الفتك بها. لم تتمكّن «دولة السايبر» من استعادة نظام الاتصالات على نحو كامل بين عسكرييها إلا صباح الأحد. لم يجد الصهاينة لهم من نصير إلا «التيك توك» لإرسال نداءات الاستغاثة.
من اللافت استخدام «القسام» للمسيّرات بصورة كبيرة، فإضافة إلى مسيرات الاستطلاع التي قدّمت الدعم العملياتي التكتيكي للوحدات المقاتلة، كانت بمنزلة العين المبصرة الموجهة لتحركاتها، ظهرت اليوم مسيرات انتحارية. سبق ذلك استخدام المُرَفْرِفات Quadcopters للتصوير وإلقاء المتفجرات.
زحف المقاتلون الفلسطينيون مشياً وبسيارات الدفع الرباعي وبالدراجات النارية وبالعربات الخُنفسائية Buggies، كما استخدموا المظلات المدفوعة بمحركات، وكلها وسائط غير حربية في أساسها، لكنها طُوِّعت لأغراض أخرى. يستغرب كثيرون عجز المخابرات الصهيونية عن معرفة الهجوم، لكن المنطق السليم ليس نقيضاً للعقيدة الصهيونية ودولة إسرائيل فقط، بل هو نقيضٌ للتفكير النمطي التقليدي للحرب. فحشد المقاتلين الذين يستخدمون هذه الوسائط لا يتطلّب الرصّ المرئي كما هو في حال الجيوش النظامية التي تحتاج إلى دبابات ومدافع وطائرات نفاثة.
الأسلوب المتّبع في عملية «طوفان الأقصى» مشابهٌ لما رأيناه في المناورات الأخيرة لمقاتلي حزب الله في لبنان


ليس سرّاً أن الأسلوب المتّبع في عملية «طوفان الأقصى» مشابهٌ لما رأيناه في المناورات الأخيرة لمقاتلي حزب الله في جنوب لبنان، أو لمشاهد من عمليات الحزب القتالية في سوريا. كما إنه مشابه لمشاهد في عدة مناورات أجراها الحرس الثوري الإيراني. وليس سرّاً البتة أن التقانة المستخدمة في فلسطين اليوم هي تقانةٌ إيرانية المنشأ. صحيحٌ أن العقول الفلسطينية - بدعم من عقولٍ عربية - عرفت كيف تستفيد للحد الأقصى من المواد الشحيحة والرديئة الموجودة في قطاع غزة، وأنها ساهمت على نحو نشط في تطوير أدوات الحرب الإلكترونية والحرب السيبرانية والمُسيَّرات، لكن ذلك ما كان ليكون لولا الدعم الإيراني.
دوماً سخِرت أبواق الدعاية الاستعمارية الإسرائيلية من تلك المشاهد، وكانت على قناعة تامة بأن المسيّرات الإسرائيلية ومحطات الرصد والإعاقة والحرب الإلكترونية التابعة للآلة الحربية الصهيونية كفيلة برصد كل تحرّك، والقضاء على من يتحرك قبل الوصول. غير أنّ السيطرة الإلكترونية والسيبرانية لوحدات «القسام» أكّدت أنّ التقانة لم تعد حكراً على إسرائيل، وأن التقانة الإيرانية - التي استفادت في نشأتها من المُدخَلات الروسية، ومن الهندسة العكسية - لم تعد مجرّد نسخة تقليد رديئة، بل قطباً يشكّل ما هو أكثر من التهديد وعلى عدة مستويات.
يعود إلى الأذهان مشهد المُسَيَّرَة التي أطلقها حزب الله فوق فلسطين قبل عقد من الزمان، حينها قال موقع «دبكا» التابع للوسط الاستخباري الصهيوني إنّ حرباً إلكترونية شاركت فيها حتى الأقمار الصناعية، وإنّ إسرائيل خسرت الحرب فاضطُرَّت إلى إسقاط المُسَيَّرَة بطائرة مقاتلة.
ثمّة ضرورة موضوعية عند الصهاينة تتلخّص في ما يلي: لا بد من ترميم صورة التقانة الإسرائيلية، وتدمير الوسائط القتالية كافة التي بحوزة «حماس»، ليس ذلك فقط، بل تدمير المنشآت التصنيعية لها كافة. يضاف إلى ذلك أنّ إسرائيل عاقدة العزم على توجيه عدوان نحو «الجهات الفاعلة كلها التي تفكّر في الانضمام إلى الهجوم على إسرائيل» كما ورد في الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة الإسرائيلية باللغة العبرية على «فايسبوك». يلتقي ذلك مع الدعم غير المشروط الذي تعهّدت به الولايات المتحدة، الشريك التقاني - وغير التقاني - للنظام الصهيوني، لذلك لا بد لهم من تجريب تقانات جديدة واستخدام الموجود كله لا لترميم السمعة فقط، بل لتحريك الصناعة ورأس المال.