ما لكم ألا تقرأُون التاريخ؟ كيف كنتم تتصوّرون عملية التحرّر من الاستعمار؟ أو ماذا كنتم تظنّون ونحن نقول إننا سنحرّر فلسطين بالقوّة وبالسلاح؟ إنّ التنكيل الذي تقوم به المقاومة الفلسطينية بالمستعمرة الصهيونية والمستوطنين ليس سوى قول صار فعلاً، وليس غاية في ذاته بل وسيلة، السبيل إلى الاستقلال وإلى استحقاق الإنسانية، وعلى كل مستوى: المادي والنفسي والهويّاتي والفلسفي والقومي.إنّ مشاهد التنكيل هذه، والعنف الثوري فيها، هي إعادة إنتاج لذواتنا، هي التجسيد المادي لجدلية السيد والعبد لهيغل، هي حرب الشعب على النمط الماوي، هي ولادتنا من رحم الاستلاب والوهن وجلد الذات، هي انتشال للنفوس المنهكة، للكرامة العربية المسلوبة، هي نهاية قرن من الذل. بشكل لاواعٍ لكثيرين، إنّ كل عقدة نفسية فيك تجاه أوروبا و«إسرائيل» والولايات المتحدة ما هي إلا نتاج عنفهم تجاهك وتجاه من حولك، هي انعكاس للقهر المادي والعسكري، وشعورك بأنك قليل الحيلة، وفيك أعطاب أنثروبولوجية، ونقصان وقصور ذاتي، وهذه كلها أمراض كنا نعاني بها كعرب.
(محمد نهاد علم الدين)

لم يكن الغرض من العنف الصهيوني والإفراط فيه (والأميركي في العراق تحديداً) طوال العقود سوى إنتاج وهندسة المجتمعات العربية لذاتها، أننا هزمنا، وتعوّدنا سماع المجازر ورؤيتها، ولا قوة إيلام وعنف لدينا، وأن القوة والضعف ليسا صفة مكتسبة بل قدَر نولد عليه، حتى تم تجريدنا من السلاح ومن كل سبل ممارسة العنف ضد الصهيونية، حوّلونا إلى عزّل، حتى صرنا نلقي الحجارة، ونفجّر أجسادنا ولحمنا الحيّ.
صرنا نتهكّم على أنفسنا، كنّا نقول عن الشيء المستحيل «هاها إذا تحرّرت فلسطين»، كنّا نؤلّف النكات عن أنفسنا ونضحك، كأيّ أمّة في حالة الضعف، مكسورين نتراقص كالسكارى، ونقتل جماعات حتى ألفنا الموت، وإن كنّا نمارس العنف فبين بعضنا البعض؛ تخيّلوا حجم السلاح الذي استخدم في العراق، والذي ضخّ في سوريا، أحد أهم أسباب الحجم الهائل للعنف في الأخيرة، أن كل العالم ضخّ أدوات العنف فيها بمئات المليارات، بينما يبحث الفلسطيني عن سكين ومسدس وطلقات معدودة، وسلاح المقاومة في لبنان يحارَب. كل هذا شرط وجود لـ«إسرائيل»؛ الضعف اللازم والانكسار لنا، الاقتتال الداخلي والعنف على أسس العصبيات، «إسرائيل» هي المعنّف، من يحتكر العنف ويمارسه ونحن المفعول به والضحية أو المدمّر نفسه ذاتياً.
منذ سنين ونحن نلاحظ، من حرب تموز 2006 وملاحم غزة، صواريخ غزة تحديداً، كيف يتفاعل الجمهور العربي ويشعر بالانتماء إلى هذه الصواريخ، يشعر بالعزة والفخر والانتماء. تعرفون لماذا فلسطين هي القضية المركزية وهي قضية العرب؟ لاحظوا الأثر النفسي لأيّ عمل عسكري، لاحظوا الانتشال الذاتي والمعنوي لكل عنف يقوم به فلسطيني، بشكل واع ولاواع تدرك الجماهير العربية أن صورة جبروت «إسرائيل» جاثمة على كرامتهم جميعاً، وأن الصهيونية - شرطاً وحكماً - نقيض لكل كرامة عربية، وأن هذا المشروع الاستعماري هو الجرح الذي يعتري الهوية العربية، حتى صار الرعديد منّا يهرب من هذا العار بهويات بالية وضيقة. ومن جهة أخرى، تربط الجماهير العربية بالعنف ضد الصهيونية علاقة مختلفة؛ الفخر والثقة والعزة والكرامة وأن ترفع رأسك، أن «سجّل أنا عربي»!
كتب أحد الحسابات المعنية بـ«الميمز» و«النكات» أن لا حاجة إلى حساب اليوم، وأن المشاهد في فلسطين من التنكيل الذي تبثّه «كتائب الشهيد عز الدين القسّام» مضادّة للاكتئاب، وهي كذلك، ليس لأننا ساديون أو همجيون، بل على العكس، لأنّ العنف ضد الصهيونية هو خطاب للذات، فعلناها ونستطيع، هي ممارسة انتشال نفسي، ممارسة العنف الثوري هي التجسيد المادي أننا نمتلك تاريخنا وفاعلون فيه، ونحن بالأهليّة والمكانة بأن نقتلهم كما يقتلوننا، نأسرهم كما يأسروننا، ندوسهم كما كانوا يدوسوننا.
العنف ضد الصهيونية هو عملية قلب موازين القوة الأيديولوجية والخطاب والصورة، هو نهاية الاستشراق. فنحن لسنا ضعفاء، بل مستضعَفون، والانتقال إلى حالة القوة يستدعي بالضرورة ممارستها. وحين نمارس العنف على مستعمرينا، نكتسب القوة ونراها ونشعر بها، وعلينا تذكير أنفسنا دائماً بأننا - ولأننا مستعمَرون مستضعَفون - فإنه لا يمكننا - حتى وإن أردنا - أن نفرط في العنف. بل على العكس، فينا قصور تاريخي لازم، وهو أنه مهما قتلنا منهم ومهما سفكنا من دماء هؤلاء الأوغاد الأنذال، فلن تروى أرضنا بدماء مثلما رويت من دمائنا، دماء شهدائنا، لأننا أهل الأرض. أمّا المستوطنون فالمسألة بسيطة: أن لا نكفّ عن سفك دمائهم حتى يرحلوا، حتى يرى آخر عربي من المنامة إلى المغرب أننا بسلاح فقرائنا أزلنا «إسرائيل» من الوجود، وأنّ أكثر شعوبنا استضعافاً، شعبنا الفلسطيني، هو من انتشلنا... هو الذي حرّرنا.

* كاتب عربي