يحمل المشهد في المنطقة العربية، وبالذات في ما يخصّ الصراع العربي-الإسرائيلي، لشخص مثلي – من مواليد ثمانينيات القرن المنصرم – مفارقة غريبة، فمن جهة تمدّدت واتّسعت في العقود الثلاثة الماضية حالة انهيارٍ عربي شامل، ووصلت الأوضاع العربية سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً، إلى القاع، ثم إلى قاع القاع. من جهة أخرى، شهدنا في تلك العقود الثلاثة تضعضع الكيان الصهيوني وترهّله، وعلى مدى السنوات الماضية استفاد هذا الكيان من الانهيار العربي، والخضوع العربي الرسمي لشروطه، في الحفاظ على وجوده فقط، لا في التمدّد والعربدة، والقيام بوظيفته في تعزيز الهيمنة الغربية في هذه المنطقة.عاصرنا الهرولة العربية الرسمية نحو الإقرار بالهزيمة، والعمل على تحسين شروطها، في إطار «عملية السلام». أصرّ النظام العربي الرسمي على أن الهزيمة قدرنا، وأن إسرائيل لا تُقهر، حتى والإسرائيليون يصرخون أنهم يُقهرون. مع الإصرار على تبنّي عقيدة الهزيمة، زاد الاستبداد والنهب المنظّم وإفقار الملايين من العرب، وحين لاحت لحظة التغيير في الأفق، في بداية العشرية الثانية من هذا القرن، حوّلتها إلى جحيمٍ أنظمةٌ تسلّطية فاسدة، ونخبٌ معارضة عقيمة، وتنظيماتٌ مسلّحة إباديّة، وتدخّلاتٌ غربيّة مدمّرة. بعد كل هذا، صارت مصافحة العدو، والشراكة الاقتصادية والأمنية معه، مصدرَ فخرٍ وطني، ودلالة على التحضّر (لا وجهة نظرٍ وحسب).
في المقابل، كان الكيان يتراجع وينكمش، وينتقل من التوسّع إلى بناء الجدران العازلة. لم يكن هذا لترهّل داخلي وانقساماتٍ كبيرة داخله فقط، بل لأنّ مقاومةً عربيةً كانت تواصل صعودها طوال العقود الثلاثة الماضية، وتراكم القوّة والإنجازات، وتضرب الجيش الحامي للحالة الاستعمارية الاستيطانية ضرباتٍ موجعة، وتدخلُ الشكّ إلى عقول وقلوب قادة الكيان ومستوطنيه.
كانت نكسة عام 1967 السلاحَ الأساسي لتيّار الهزيمة العربي في الدفاع عن الخضوع للعدو والتسليم له، فصُوّرت النكسة أنّها نهاية التاريخ، رغم أنّ لحظة الانتصار الإسرائيلي تلك لم تتكرّر في أي معركة لاحقة. لست من جيلٍ عاش النكسة، لكنه قرأ عن حرب الاستنزاف التي مثّلت إرادة محو الهزيمة، ورأى بعينه منجزات المقاومة في تحرير الأرض والأسرى وإذلال العدو في ميدان القتال خلال العقود الثلاثة الماضية. كانت منجزات المقاومة العمليّة سلاحاً أقوى في مُحاجّة تيّار أوسلو، لأنها ببساطة كانت تغيّر الحقائق على الأرض.
العبور في السابع من أكتوبر كان تتويجاً لمسار طويل من العمل المقاوم، أسهم في وصول الكيان الصهيوني إلى حالة قلق وجودي على مستقبله ومصيره. ما جرى في السابع من أكتوبر، يدخلنا مرحلة جديدة في الصراع مع الكيان الصهيوني. الحديث عن النتائج ما زال مبكراً، لكنّ المبادرة الناجحة بالهجوم على الاحتلال والمحتلين لا شك أنها تشعرهم بهشاشةٍ أكبر، وتضرب الثقة بين مستوطني الكيان وجيشه، والأهم أنها قد تسرّع المرحلة التي بدأت منذ سنوات، والتي يتحوّل فيها هذا الكيان من رصيد استراتيجي للغرب، وأداةٍ لتعزيز هيمنته في المنطقة، إلى عبءٍ كبير يستنزف الموارد الغربيّة دون أن يؤمّن مصالح الغرب، وهنا تبدو هذه الضربة في السابع من أكتوبر وكأنها تقصّر أكثر من عمر هذا الكيان.
يأتي طوفان السابع من أكتوبر لينتشلنا نحن العرب من غرقنا في الحروب الأهلية، والانقسامات الطائفية والجهوية، وحملات القمع، والأزمات المعيشية، ويذكّرنا بهويتنا العربية، التي تشكّل فيها فلسطين دوراً مركزياً جامعاً، ويكنس كل محاولات فصل العرب عن فلسطين ومحوها من ذاكرة الناس، ويخرج الهزيمة والإحباط اللذين تراكما مع مآسي السنوات الماضية من نفوسنا وأذهاننا، ليدفعنا نحو الأمل بنهوض عربي.
ليس الأمر سحراً بالطبع، وما زال الطريق طويلاً، لكن مسار مراكمة المنجزات يفتح نافذة الأمل على مصراعيها.
* كاتب عربي