غزة | كثيراً ما نسمع عبارة «العربي الجيّد هو العربي الميّت» التي يردّدها جنود الاحتلال، واصفين الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام، بهذه المقولة العنصريّة. مقولة تتجسّد على أرض الواقع بالقمع والاعتقالات والاغتيالات والحروب على قطاع غزة والاستيطان الإحلالي ومحاولات أسرلة للشعب الأصلاني بالداخل المحتل بالطرق كافة والكثير الكثير من تجسيدات احتلالية نراها كل يوم في حياتنا اليوميّة في فلسطين. يُقصد بـ«العربي الميّت» العربي المقتول، ولأنّ فعل القتل الفيزيائي بعيد بعض الشيء عن دول عربيّة كثيرة وله حسابات كثيرة، أصبح الاحتلال الصهيوني يستهدف عقل العربي ليجعله ميتاً، عبر قبوله بكلّ اتفاقيات التطبيع من ناحية وعبر لوم الفلسطيني، من ناحية أخرى، على النكبة. لدرجة أنّ بعض العرب أصبحت القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة إليه شيئاً هامشياً في حياته وكأنّ القضيّة الفلسطينيّة منفصلة تماماً عن معاناة الإنسان العربي في وطنه. وقد وصل في البعض القول بأنّ القضيّة الفلسطينيّة تُستخدم كحجّة من قبل الأنظمة الديكتاتوريّة لقمع شعوبها وبالتالي إسقاط القضيّة الفلسطينية من عقل الإنسان العربي أصبح واجباً حتّى ينتبه إلى حياته المسلوبة والمدمّرة. لا يتوقّف الأمر هنا فحسب، بل تستخدم دول التطبيع العربي ماكينة إعلامها محاولةً صناعة رأي شعبي عربي ضد الفلسطينيين أنفسهم. وهذا الأمر نراه بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي عبر وسوم مختلفة تخرج بين الفينة والأخرى.
اليوم قامت المقاومة الفلسطينيّة بإعلان عمليّة «طوفان الأقصى» ضد الكيان الصهيوني المحتل والتي كانت لها الكلمة الأولى في هذه العمليّة معلنة أنّ الاستباحات كافة التي يمارسها الاحتلال ضد الفلسطينيين كل يوم وضد الأشقاء العرب في سوريا ولبنان والعراق لها ثمن، وأنّ الاحتلال سيدفعه بشكل أو بآخر وبطرق كثيرة وليس شرطاً فقط بالمواجهة العسكريّة.
لكن ما يجعل هذه العمليّة ذات أهميّة خاصّة، بعيداً عن التنظير والخطاب، أنّها درس في العنف الثوري لكلّ الشعوب والأمم المستضعفة في الأرض. ولا تستمد أهميتها من فكرة التوقيت أو التحضيرات اللوجستيّة أو عدد المقاتلين أو أي شيء آخر، بل تستمد أهميتها من الفكرة النابعة في قلب الفلسطيني والعربي المقاوم بحتميّة النصر على فكرة «الجيش الذي لا يُقهر» والتي يتم تصديرها كل يوم عبر الإعلام والقنوات للإنسان العربي.
من جانب آخر، هناك إجماع فلسطيني وعربي مقاوم كبير على نجاعة هذه العمليّة من الضربة الأولى التي أصبحت في نظر الكثيرين عمليّة ناجحة منذ البدء.
هذا الأمر عرّى هذه الأنظمة الرجعيّة-المطبّعة من جهة، وهزّ صورتها أمام شعوبها من جهة أخرى. وبالتالي أصبحت تحاول أن تحتفظ بماء وجهها بأي طريقة، فنشطت اللجان الإلكترونية ونشط الصحافيون المحسوبون على هذه الأنظمة لتشويه صورة المقاتل الفلسطيني في نظر الشعوب، مثل أنّ المقاتلين قد اغتصبوا المجندات الصهاينة. ومسخ فكرة النضال ضد المحتل بحد ذاتها عبر الاستخفاف بها، تارة، وأنّ «الواقعيّة» تحتّم عليهم أن لا يحاربوا قوى عظمى، تارة أخرى. وهناك محاولات حثيثة لجعل هذا الهجوم غير مُجد على الرغم من أنّه أوّل هجوم برّي عسكري على «إسرائيل» منذ عام 1948، أي منذ سبعة عقود.
هذه العمليّة زادت في فهم صورة الفلسطيني لنفسه هو أنّه أصبح اليوم قادراً على الفعل وليس كل ما يفعله هو رد الفعل. فلم يكن الفلسطيني يوماً خانعاً، أو متأخراً في واجبه النضالي. والتاريخ يشهد بهذا. على الرغم من أن طوال العقود الماضية أصبح الفلسطيني يظهر فقط بمظهر الضحية. هذه الصورة النمطيّة التي يحاربها الفلسطيني لأنها تضعف عزيمته في نظره عليها أن تحل محلها صورة القوة التي، بلا مواربة، أصبح الفلسطيني يرى نفسه بها اليوم. هي الصورة التي يجب أن تنعكس على الكل العربي. لتنسف كل المحاولات التي تضع الإنسان العربي في خانة الضعف. هذه الصورة التي يشحذ بها الفلسطيني همته والتي يرفض التخلّي عنها. والتي تجعل الفلسطيني لا يريد تضامناً لأنّه ضحيّة مكلوم، بل لأن له اليد العليا في فكرة المقاومة؛ تضامناً مع الصاروخ والرصاصة ومع الفلسطيني القوي، لا تضامناً بكائياً ينتظر مشهداً دموياً أو مجزرة هنا وهناك كي يبدأ التضامن وينتهي بعد فترة وجيزة وينساه التاريخ.
هذه القوة لا تعني بالضرورة أنّه يجب على الفلسطيني أن يتخلى عن إنسانيته أو يفقد معياره الأخلاقي الذي عهدناه به منذ بدايات مقاومته التي تمتد منذ مئة عام وأكثر. لا يعني هذا أنّ الفلسطيني صاحب قلب متحجّر لا يحزن على المأساة التي هو بها. الفلسطيني إنسان في النهاية، لا نجرّده من مشاعره. لكن هذه المشاعر لا يجب أن تكون عقبة أمامه ومسبّباً لإعاقة الفعل المقاوم بشكل عام.
بالنهاية، إنّ الخلاص بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة والعرب ليس عبر تهميشها، أو الطعن فيها أو دعم الاحتلال الصهيوني، حتّى إن الخلاص يتمثّل في نظرتنا، كيف ننظر إلى أنفسنا. وبالتالي تنقلب المقولة القائلة: «العربي الجيد هو العربي الميّت» لتصبح المقولة هي: «العربي الجيد هو العربي المقاتل»، معلناً موت «الموت للعرب» الذي أصبح شعاراً رناناً على مدار العقود الماضية.