ثمّة أكثر من 5 آلاف ما بين سجين وسجينة من الفلسطينيّين في سجون النظام الاستعماري الإسرائيلي. هم من مشارب مختلفة؛ فمنهم من ناضل بالحجر، أو بالكلمة، أو بالسلاح، أو اقتيد ظلماً وعدواناً. وفي الفترات التي كانت تشهد سكوناً نسبياً لآلة الحرب الصهيونية أو لحركيات النضال الفلسطيني، كانت السجون -ولا تزال- ساحة مواجهة مستمرة بين السجناء وإدارة مصلحة السجون التي تريد تحويلهم إلى كائنات تأكل وتشرب وتطيع السجّان كالأنعام، كائنات تتبرّأ من ماضيها النضالي ومن القضية نفسها.لكنّ «الحركة الوطنية الأسيرة»، وهو اسم المنظومة الاعتقالية التي ينضوي تحتها الفلسطينيون المعتقلون كلّهم، ما انفكت تتصدّى وتطوّر من أساليبها. ليس الأمر كلّه نجاحات باهرة، ففي كل مواجهة ثمّة انتصارات وهزائم، لكنّ المشهد العام مشهد تعبوي مستمرّ طيبٌ ولا ريب. كما أن أغلب من يخرج من السجون يخرج بشحنة ثورية قوية -نصيب التثقيف السياسي فيها متفاوت حسب التنظيم والشخص نفسه- فيعاود النضال بشوكةٍ أمضى. كيف لا والسجين أو السجينة في حالة تعبئة ومواجهة على مدار الساعة منذ لحظة الاعتقال حتى لحظة الحرية.
في المقابل، اعتادت المنظومة الأمنية الاستخبارية الصهيونية صبّ جام غضبها على السجناء الفلسطينيين والانتقام منهم إثر أو أثناء أي أمر جلل. وهذه المرة التي نشهد فيها معركة مع المنظومة الصهيونية، هي الأهم والأخطر منذ نكسة 1967، بات واضحاً أن النظام الصهيوني يستغلّ ضجة المعركة وفورة الدم والنار للاستفراد بسجنائنا وسجيناتنا.
شنّت إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية حملة قمعية إثر الموجة الأولى من عملية «طوفان الأقصى» فسحبت أجهزة التلفزة وأدوات الطبخ الكهربائية، كما منعت بعض السجون نزلاءها من الخروج إلى التمشّي في الساحة. واليوم بدء سحب أجهزة المذياع (الراديو). يترافق هذا مع استفزازات لفظية من ضباط مصلحة السجون وجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شاباك) تهدف إلى جر السجناء للرد كي تبدأ عمليات الإغارة بالكلاب والغاز والرصاص المعدني المغلف بالمطاط. لا تحتاج إدارة السجون الإسرائيلية إلى ذريعة كي تنقضّ على سجنائنا، غير أنها كأي مستعمر ذهاني، تريد أن تقنع نفسها بأن قوانينها قد كُسرت لتمنع اعتباطياً أي شعورٍ بالذنب. هذا شيء. والشيء الآخر هو أن النضالات التي تراكمت منذ الـستينيات أحرزت جملة من الإنجازات أبرزها في هذا السياق فرض نمط يشبه الرسمية في التعامل اليومي واللفظي بين السجّانين والمسجونين.
استفزازات لفظية من ضباط مصلحة السجون و«الشاباك» تهدف إلى جر السجناء للرد كي تبدأ عمليات الإغارة


ولأن السجون جزء من الكل الفلسطيني، فإنّ الأحوال داخلها تتحسّن في حالات المد الثوري وتتراجع في حالات الجزر. أمّا في هذه الحالة الجديدة، حالة الحرب غير المتناظرة، فإنّ النظام الإسرائيلي قد وجد فرصة للتنكيل بالسجناء والسجينات، خاصة أنه يعلم تماماً أن الكل الفلسطيني، المقاتل والسياسي والجماهيري، قد حسم أمر تبييض السجون ومقابر الأرقام وتحرير كل من أُسر خلال المعركة.
كما أن الإجراءات القمعية الحالية، التي تشمل منع الزيارات وشنّ الغارات داخل الغرف والأقسام وتركيب أجهزة تشويش مُسرطنة لمنع استخدام الهواتف المحمولة المهرّبة والمخبّأة سراً (لأن الصهاينة يمنعون السجناء الفلسطينيين من استخدام الهاتف)، تهدف إلى الحؤول دون أن يقول السجناء والسجينات كلمتهم للشعب الفلسطيني والشعوب الشقيقة والصديقة ولقواه المقاومة في الميدان. فهي تعلم أي أثر ودفعة معنوية جبّارة لتلك الكلمة في هذا الظرف وفي هذه اللحظات الحالكة التي اشتد فيها وطيس المعركة.
لا يوجد أدنى شك في صدق والتزام المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها «كتائب القسام» و«سرايا القدس»، بأمر تحرير كلّ السجناء والسجينات والأسرى وتبييض مقابر الأرقام، ولا سيما بعدما أسرت من أسرته. إلا أن فورة المعركة وأتونها الصاخب والسعار الدموي الاستعماري الصهيوني ضد كل ما هو فلسطيني وأصلاني تتطلّب من القوى المقاومة أن تضع في الحسبان أمر ما يحدث الآن من هجمة إسرائيلية داخل السجون، ولا أحسبه غائباً عن ناظريها أو وجدانها.
إذا كان ثمة فضح وملاحقة لمجرمي الحرب الصهاينة، ولا سيما كل من يشغل مناصب التسلسل القيادي في الجيش والأجهزة الأمنية الصهيونية، فإنه لا بد من ملاحقة كلّ ضباط مصلحة السجون ومنتسبي وحدات القمع التابعة لأنهم أيضاً مجرمو حرب غير متناظرة!