إذا كان طوفان نوح ولادة ثانية للعالم، فإن «طوفان الأقصى» ولادة ثانية لمقاومة الشعب الفلسطيني ونهضة أهل فلسطين لتحرير أرضهم من المحتلين والمستوطنين. انتقال نوعي في إستراتيجية الصراع من حالة الحرب الشعبية إلى حرب التحرير والحرية.ليس هذا الأمر أمراً بسيطاً في المعنى الإستراتيجي السياسي والعسكري على السواء. إنه متغيّر كبير في مجريات الصراع حول فلسطين غير مسبوق ويشكّل نقلة نوعية سوف تجعل ما بعدها لا يشبه ما قبلها.
تأسيس متين موفّق توفيقاً إلهياً في تحقيق المقاومة الفلسطينية ممثّلة بقوات «القسام» و«القدس» و«العاصفة» وكل فصائل المقاومة، انتصاراً غير مسبوق على جيش العدو، الأمر الذي جعلها سيدة الميدان في أرض فلسطين ويدها في القتال هي العليا. أهمية ما حصل في حرب غلاف غزة أنها عودة الفلسطينيين إلى ديارهم بقوة السلاح، وأنها حرب بين صاحب الدار من المواطنين الأصليين وبين المحتلين المغتصبين والمستوطنين.
لقد نفّذت حركة «حماس» هجوماً على مناطق غلاف غزة، ناجحاً بكل المعايير، العسكرية والاستخبارية والأمنية والتقنية. وتبيّن أنّ العدو الصهيوني في حالة فوضى وانهيار وقد تلقّى هزيمة صريحة لم يسبق له أن شهد مثلها إلا في حرب تموز وفي انسحابه مهزوماً من لبنان، ولكن بأيدٍ فلسطينية هذه المرة. وهذا يضيف أمراً يضاعف من مرارة الهزيمة ويعطي الانتصار مذاقاً طيباً؛ إحساس العدو بهزيمته كان قاسياً وعميقاً، وقد أدرك معاني المتغيّر الجديد على المستوى الإستراتيجي في هذه الحرب، ولذلك جمع كل ما يملك لمواجهة ما اعتبره خطراً وجودياً، تجلّى في ما يلي:
1- إعلان حالة الحرب للمرة الأولى بعد حرب تشرين 1973. واستدعى لأجل ذلك كامل احتياطه العسكري، وهذا عمل شاقّ ومكلف وله دلالاته ومخاطره وآثاره على الوضع الإداري والاقتصادي والنفسي.
2- الدعوة إلى حكومة حرب تجمع الأحزاب كافة.
3- طلب مساندة ودعم الولايات المتحدة الأميركية.
4- السعي إلى حصر الحرب في قطاع غزة، واتباع سياسة الأرض المحروقة وارتكاب جرائم حرب موصوفة ضد الإنسانية.
إنّ محاولة العدو حصر الحرب في قطاع غزة، تظهر ضعفه عن مواجهة حرب وحدة الساحات، حيث يمكن إذا ما تطوّرت الحرب على غزة إلى تدخّل برّي أن تتدحرج، وتتحوّل إلى حرب إقليمية كبرى قد تكون بداية نهاية الاحتلال الصهيوني لفلسطين. إنّ هذا الحشد من الاحتياط لا يُفسّر فقط بمهام حرب غزة، إنه حشد لحرب إقليمية كبرى، لأن الحشد في العلم العسكري هو نصف الحرب. وهي قائمة بوتيرة عالية في غزة وفلسطين ووتيرة وسطى في سوريا ومنخفضة في لبنان. ولذلك يجب الاستعداد لها من كل دول محور المقاومة والدول العربية المحيطة بفلسطين.
يبقى سؤال مشروع هو موقف أميركا من إدارة حرب إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، في حين خوضها حرب أوكرانيا-روسيا وهي حرب في أوروبا. وكذلك ما يشغلها في العلاقة مع الصين وصعوبة الوضع الاقتصادي في الغرب ومسألة تأمين مصادر النفط.
الحرب قد تبقى محصورة إلى فترة لكنها سوف تتطوّر إلى حرب واسعة كلما طالت أيامها.
توجد حركة دبلوماسية وجهود لإيقاف الحرب، فهل تسبق التسوية السياسية الحرب الكبرى أم تأتي بعدها؟
إنّ انتصار غزة قد تحقّق على هذا المستوى ولا يغيّر في آثار ما حصل مهما حدث من تدمير وقتل وتهجير وعدوان. لا شك أن هذه الحرب ستجعل من «حماس» القوة الفلسطينية الأولى.
والعدو الصهيوني يحاول ضرب «حماس» في قطاع غزة في حرب دموية شديدة القسوة ليستعيد قوة الردع التي كان يفاخر فيها في أزمنة سابقة لا رجعة لها. لذلك، توجد ضغوط أميركية وأوروبية وتركية وعربية مصرية وخليجية لمنع التحول إلى حرب إقليمية كبرى، وأكثر ما يخشاه دخول المقاومة الإسلامية في لبنان هذه الحرب. لكن يجب أن يعرف الجميع أنه لا حياد في هذه الحرب، وأنه لا يمكن تحقيق منع اتساعها إلا بوقف الحرب الجوية على غزة هاشم، وتحقيق أهداف المقاومة الفلسطينية كاملة في معنى ترجمة الانتصار العسكري بتحقيق الأهداف السياسية.
إنّ أهمية الانتصار في غلاف غزة أنه انتصار فلسطيني. فهُوية الانتصار تضع مصير دولة العدو على محكّ الوجود


وكنّا نأمل دعماً عربياً لذلك، لكن للأسف النظام العربي في سُبات عميق. حتى يصح القول إنه غير موجود. الجامعة العربية خارج السمع والنظر والنطق والفعل. في زمن الحرب تكشف القوى عن نفسها. وفي حرب فلسطين لا يصح الحياد والغياب والوقوف على التلة. لقد كشف المقاومون في فلسطين واقع النظام العربي المتهالك، لذا يحتاج العرب إلى يقظة ونهوض لأجل نصرة غزة وفلسطين.
إن موقف الجمهورية الإسلامية في إيران، ودول محور المقاومة من اليمن إلى سوريا مروراً العراق ثم إلى لبنان، بوصلة الموقف من دعم شعب فلسطين وحقّه في أرضه وتقرير مصيره. وكذلك حركة الشعوب في البلدان العربية والإسلامية. ودعم فلسطين والقدس يكمل ما حقّقته المقاومة في غلاف غزة من انتصار إستراتيجي وتاريخي.
إنّ أهمية الانتصار في غلاف غزة أنه انتصار فلسطيني، لذلك فهُوية الانتصار تضع مصير دولة العدو على محكّ الوجود. فالحرب أُعلنت ومستوى حركة الاتصالات الدبلوماسية يرتفع، وكذلك ترتفع أصوات تدعو إلى تسوية حتى لا يسقط الكيان المحتل، مع دعوات مضمرة لتسوية الدولتين الشهيرة، ولا تنفع دبلوماسية تقوم على تجاهل حق الشعب الفلسطيني الذي قاتل ويقاتل من أجل حقّه في العودة وتقرير المصير وقيام دولته المستقلة.
إنّ ما هو متحقّق في واقع الميدان أن غزة انتصرت وأن كلّ ما سوف يحصل في السياسة يكون لصالحها. إنّ فلسطين في طريقها إلى الحرّية.
* كاتب ووزير سابق