بعد مرور 11 يوماً على «طوفان الأقصى»، ما هو ميزان القوى في الحرب؟ وما هي عناصر القوة والأوراق التي تملكها كل من فلسطين ودولة الاحتلال الصهيوني، في حرب تحمل أبعاداً وجودية وأهدافاً سياسية إستراتيجية كبرى؟لقد حقّقت «حماس» وفلسطين في «طوفان الأقصى» انتصارهما التاريخي الذي لا تُمحى آثاره ولا يمكن تجاوزها على الإطلاق. في مقابل هذا الانتصار الواقعي المتحقّق في أبعاده المعنوية الكبرى، أقدمت حكومة العدو على مهاجمة قطاع غزة بالطائرات وسلاح المدفعية والصواريخ والأسلحة المحرّمة دولياً، وارتكبت مجازر بحق السكان المدنيين الأبرياء غير مسبوقة في الحروب، وتشكّل مجازر واقعية مشهودة في ما يُعتبر جرائم حرب ضد الإنسانية. لم يحقق هذا النوع من الحرب أهدافاً سياسية ولا يعيد الاعتبار إلى جيش مهزوم ولا إلى حكومة مأزومة ولا إلى كيان قلق على وجوده الاستيطاني.
استنفرت إسرائيل القوى الدولية المناصرة لها في تغطية جرائمها البشعة في قصف ودمار غزة على رؤوس سكانها المدنيين. وحظيت بتأييد من الإعلام الغربي الذي لا يميّز كثيراً في إعلام الحرب بين الخير والشر وبين الحرب العسكرية وإرهاب الدولة، ولا بين القتال في الحرب والقتل من أجل الانتقام والقتل. ولكن، بدأت تصعد أصوات اعتراض في الغرب على آثار جرائم الحرب المشهودة في غزة، وهذا ما يمنع استمرار ارتكابها بلا رقابة أو حساب.
إنّ استمرار عمليات تدمير غزة بهدف تهجير سكانها مرة ثانية إلى صحراء سيناء أو إلى دول عربية مجاورة، مسألة لن يقبل بها العرب والمسلمون، وقد ظهرت مواقف معارضة عربية عدة في الاتصالات والزيارات الدبلوماسية التي جالت المنطقةَ خلال الأيام العشرة الماضية. لكنّ الغضب الإسلامي والعربي كان أكثر وضوحاً في موقف الجمهورية الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان، في الموقف من حرب التدمير والتهجير، وطُرحت في مسألة تهجير سكان غزة مواقف تذكّر بشعار «لن تُسبى زينب مرتين» الذي رُفع في وجه الإرهاب التكفيري، وهو يُرفع الآن في وجه الإرهاب الصهيوني: لن تُهجّر غزة مرتين. هذا أمر صريح الوضوح بيّن لا لبس فيه ولا غموض.
لن يعيد تدمير غزة معنويات جيش العدو المنهارة ولا حكومته المهزومة ولا قلقه الوجودي. لذلك، سوف يذهب إلى ما أعلنه في الحرب البرية على غزة لضرب حركة «حماس». ويبدو أن هذا التدخّل البري تنتظره غزة بفارغ الصبر لأنها قد تحقّق فيه انتصارها المدوّي الثاني. وعليه، تحوّلت ورقة الحرب البرية من عنصر تنازع في الحرب إلى إشكالية في ربح الحرب؛ بمعنى أنها قد تكون لصالح فلسطين وليس لصالح قوات الاحتلال. وهذا ما يجعلها محل خلاف في إدارة أركان جيش العدو الذي يؤجّل موعدها لأنه لا يثق بأنه سوف تكون لصالحه ويكسبها.
لن يعيد قصف غزة ما خسره العدو في معركة غلافها. ولذلك، يذهب متردّداً إلى لعب ورقة الحرب البرية وإلى حشد الأساطيل الأميركية في شرق المتوسط والتهديد بحرب على كل من يذهب إلى الدفاع عن غزة وفلسطين. لكنّ هذا التهديد ينطلق من نقطة ضعف لا من موقع قوة، باعتباره يخشى من توسيع رقعة الحرب إلى حرب إقليمية ذات أبعاد دولية. كما يجعل من حركة الدبلوماسية بديلاً منطقياً من حدوث الحرب البرية التي يخشاها العدو وينتظر أهل فلسطين الانتصار فيها مرة أخرى.
عناصر القوة عديدة لصالح فلسطين في هذه الحرب. وهذه القوة واقعية وحقيقية، وسوف تظهر في ميدان الحرب كلّما طال أمدها، وفي أوقات ضرورتها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: توسّع الحرب في الجبهة الشمالية في كل من جنوب لبنان وهضبة الجولان على رغم الحشود الأميركية في البحر. واقع الأمر أن هذه الجبهة تلعب دورها بشكل قوي من خلال إشغال أكثر من نصف احتياط جيش العدو. كما أنها تشغل كلّ أسلحة هذا الجيش وتشكّل له قلقاً وتوترات وارتباكاً لا تخفى آثارها على عملية إدارة الحرب حتى تصبح جزءاً أساسياً من الحرب نفسها.
وقواعد الاشتباك المعمول بها في كل واحدة من الساحات قد تتغيّر وتنقلب على قدر تغيّر مراحل الحرب في ساحة فلسطين وغزة. الساحة الفلسطينية تملك عناصر قوتها الخاصة؛ من الضفة الغربية إلى مناطق فلسطين في الجليل الأعلى وكامل فلسطين المحتلة (1948). إنّ تطوّر الحرب في غزة سوف يشعل الحرب في الضفة الغربية ويجعل كل الفصائل تشارك فيها، وكذلِك في مناطق 48. وهذا يعني اتساع الحرب إلى كامل أرض فلسطين قبل أن تتّسع إلى الساحات الأخرى. وربما تكون ورقة الأسرى عاملاً ابتدائياً في بداية التفاوض وفي الضغط على حكومة العدو. يضاف إلى عناصر القوة من هو الأقدر على تحمّل كلفة الحرب وتقديم التضحيات ومدة الحرب. وهذه عناصر لصالح فلسطين بشكل صريح.
إلى جانب خصوصية القوى في فلسطين توجد قوة الدول العربية المحيطة بفلسطين. وهي في قلب الصراع العربي الصهيوني إستراتيجياً؛ من مصر إلى الأردن. هذه لن تبقى في حالة ركود حين تتصاعد وتيرة الحرب الإقليمية الكبرى. يبقى الموقف العربي الذي يمكن أن يتحرّك على الصعيد الجماهيري الضاغط على الأنظمة وعلى صعيد الدعم العسكري من اليمن إلى العراق إلى الجزائر وتونس ودول عربية أخرى قد تحرّك القواعد السابقة للدفاع العربي المشترك الذي أماتته حركة التسويات والصلح والتطبيع، لكنّ الحروب ربما تعيد إيقاظه من جديد.
في العالم الاسلامي تمثّل إيران القوة الأساسية الكبرى في الحرب، لكن علينا ألّا ننسى أن فلسطين في قلب الشعوب الإسلامية قاطبة، وأنّ دولةً مثل تركيا العضو في الحلف الأطلسي، لكنّها قلب العالم الإسلامي، ومن عناصر قوة العالم الإسلامي تنظيمُ «الإخوان المسلمين»، إضافة إلى باكستان وأفغانستان ودول إسلامية أخرى.
إنّ فلسطين قضية العرب والمسلمين المركزية والأولى. ولذلك، فإنّ عودة الحرب إلى ساحتها سوف تشعل ساحات أوسع بكثير مما يظنه الأعداء. وهم يدركون ذلك ويعرفون آثاره على نتائج الحرب.
كل هذه العناصر، منفردة ومجتمعة، تظهر في قوتها أن ميزان القوى بعد 11 يوماً على «طوفان الأقصى» لا يزال لصالح فلسطين وغزة، في حرب التحرير الكبرى.

* كاتب ووزير سابق