باسم ربّ المجاهدين والمستضعَفين.بدأت في كتابة هذا المقال قبل أكثر من عام، على أثر العدوان الصهيوني على غزة في آب 2022. بدأت بكتابته، لكنني تكاسلت عن استكماله، إن صح التوصيف في طبيعة التأجيل. وقد يكون السبب الرئيسي لهذا التأجيل هو طبيعة الموضوع بحد ذاته. فمن الصعب اختصار واختزال سياقات، أخذت عقوداً كاملة لتتشكل، في بضع كلمات وأفكار تشتمل على بعد واحد - عادة ما يكون مرتبطاً بما يناسب قناعاتنا الفردية. ومن الصعب شرح كيف تنشأ قوى تصارع الهيمنة وتستمر في النمو وتنجح في أهدافها - بمستويات متفاوتة، ولكن بفعالية جيدة إلى مرتفعة، - في منطقة خاضعة لهيمنة المركز العالمي أو الإمبراطورية. ومن الصعب أيضاً شرح مواقع الناس وانقسامها إلى جماعات انطلاقاً من موقع كل فرد من الصراع مع الهمينة الإمبراطورية - وربما الأصعب مواجهة المعارف والأصدقاء بهذه التقييمات.
لا شك في أننا اليوم أمام صورة واضحة في المنطقة، حيث إن القوى التي ارتضت بموقعها بالنسبة إلى الولايات المتحدة (الإمبراطورية - المركز) قد اصطفت في محور، ويقابله محور المقاومة. بالنسبة إلى من اصطف في المحور الأميركي، السؤال الذي سيلي لا يعنيه، لأنه سيجد إجابات عنه تتناسب وسرديته الشخصية التي يمليها على نفسه مع انبلاج كل فجر جديد. أما بالنسبة إلى الباقين - من المؤيدين لمحور المقاومة ودوله وقواه ومن الرماديين أيضاً - فالسؤال الأساس هو كيف نجحت قوى هذا المحور في مراكمة عناصر القوة التي مكّنتها من قلب الكثير من مشاهد المنطقة؟


لم أشعر بأن زخم الحدث في آب 2022 كان كافياً لأن تكون الإجابة ذات أهمية في حينه. بالرغم من أنه في عرفي، أن أي انتصار وصمود للمقاومة الفلسطينية يمثل زخماً كافياً ليفرض أي موضوع ذي صلة. لكننا اليوم قد نكون أمام أكبر حدث على مدى العقود الأربعة الماضية - وأنا هنا لا أدّعي أن إدراكي أصبح قادراً على الإحاطة بكل معطيات وتبعات صبيحة العبور الفلسطيني في يوم 7 تشرين الأول الحالي، أو حتى الإحاطة بحجم إنجاز المقاومة الفلسطينية بحد ذاته. ولكن زخم ما حصل، في تلك الصبيحة، يستوجب أن نعود إلى السؤال أعلاه: كيف نجحت قوى المقاومة؟

التعبئة الشاملة
لكل منا نظرياته وتفسيراته لهذا النمو المطّرد لقوى المقاومة في المنطقة، ولكل بما يتناسب مع رؤيته المختلفة لديناميات الصراع، وإن اتفقنا على جوهره. لكنني سألجأ إلى شرح سياق هذا النمو من خلال إطار نظري يتمحور حول مصطلح أساسي هو: «التعبئة». وسأبني على هذا الشرح حقيقة للنفاذ إلى طبيعة مواقعنا من هذا الصراع القائم في المنطقة، والعالم.
إذا ما دققنا في وقائع الساحات التي تنتشر فيها القوى الفاعلة في محور المقاومة، فسنجد أن المشترك الأساسي بين كل هذه القوى، والحاكم الأساسي في نسق تطور فعاليتها، هو قدرة هذه القوى على التعبئة. وهنا التعبئة ليست بمعنى الحشد في المناسبات السياسية والأنساق العسكرية فقط. إنما نتحدث هنا عن التعبئة الشاملة، وهي تشتمل على تعبئة الموارد في كل مجالات الحياة المحيطة بالمجتمعات التي تعيش هذه القوى في كنفها. ويمكننا النقاش في أن هذا العامل هو أحد العوامل الأساسية في صعود الدول وهبوطها - ولكن هذا موضوع نقاش لمقال آخر.
التدقيق في أي قوة من القوى الفاعلة في محور المقاومة، يظهر أنّ أهم وأول ما تظهره هي القضايا التي تحملها، سواء كانت التحرر الوطني في كل ساحة من الساحات أو الاجتماع على الإيمان بالقضية الفلسطينية - أي ضرورة تحرير كامل فلسطين، من البحر إلى النهر. هذا الذي نراه هو أول الموارد التي عبّأتها قوى محور المقاومة، وهي الموارد الأخلاقية والشرعية. وهذه هي التي تؤمّن التضامن والدعم والتعاطف لأهداف هذه القوى، علماً أن قوى المحور لم تخترع القضايا التي تتبنّاها، بل كانت الوريث لقضايا حقيقية وشرعية تخلّى عنها، بشكل أو بآخر، حمَلتها السابقون. وهي ورثت هذه القضايا وكسبت شرعيتها لأنها كانت صادقة في مقاربتها لها كأهداف حقيقية لأفعالها على كل الصعد، السياسية والاجتماعية والعسكرية.
ومن ثم هنالك تطوير الموارد الثقافية وتعبئتها. وهنا نحن نتكلم عن الإنتاجات التي تملي الأدوات المفاهيمية والمعرفية المتخصصة التي تساهم في فهم القضايا وتأمين الإطار العملي للعمل الجماعي، وصولاً إلى تطوير القوالب التنظيمية. وهذه الموارد لا تحتاج إلى تأطير أخلاقي وشرعي لتعبئتها، ويمكن نقلها كتجربة من ساحة إلى ساحة بين قوى المحور بما يساهم في خدمة التعبئة الشاملة في كل ساحة. ومن هذه الموارد الإنتاجات الأدبية والإعلامية وحتى الخروج على الفضاء الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وإن كانت فعالية أداء القوى في هذه الجزئية من التعبئة أقل من الفعالية في غيرها من الجزئيات، ولكنّها فعالة بما يكفي.
ولكن بالرغم من الفوارق النسبية في الفعالية بين تعبئة الموارد الأخلاقية وتلك الثقافية، إلا أن أحد العوامل الأساسية التي نلاحظها حين التدقيق في قوى المقاومة على امتداد المنطقة هو الاحتضان الشعبي. وهذا الاحتضان الشعبي هو أيضاً نوع من أنواع تعبئة الموارد. وهو تعبئة للموارد الاجتماعية - التنظيمية. وهنا نحن نتحدث عن البنى التحتية، سواء كانت مادية أو اجتماعية. في الشق المادي، المقصود هو خدمات عادة ما تقدمها الدولة، ولكن كما نرى على امتداد الكثير من ساحات الصراع في غرب آسيا، تشارك القوى الفاعلة في محور المقاومة في سد الفجوات التي يخلفها قصور الدولة أو انعدام وجودها أساساً. أما تعبئة البنية التحتية الاجتماعية فأكثر تعقيداً وتشتمل على بناء شبكات اجتماعية تحتاج إلى قدر عالٍ من الفهم لمجتمعك المحيط بك ومن الحساسية تجاه متطلباته - بمعنى أنك لا يمكنك أن تتعالى على مجتمعك وتسقط عليه أطراً نظرية غريبة عنه، ومن ثم تتوقع منه أن يتبعك إلى المعركة، أيّ معركة كانت. والقدرة على تعبئة الموارد الاجتماعية - التنظيمية هي التي سمحت لقوى محور المقاومة ببناء شبكات اجتماعية لم تكتفِ بالتضامن مع المقاومة فقط، بل تبنّتها وأثبتت استعدادها مراراً للخوض في حروب ودفع الدم ثمناً للقضايا الشرعية التي تبنّتها هذه القوى.
بينما التراكم الكمي والنوعي للسلاح في هذا المحور مثير للإعجاب، إلا أن أهم العوامل التي يمكن مدح هذه القوى عليها هي نجاحها في تأسيس كوادر بشرية ألمعية وعالية الفعالية وتطويرها على المستويات والدرجات التنظيمية كافةً


والأرجح، أنه في سياق هذا الاستعراض، قد يخطر في بالنا أن أهم عوامل التعبئة عند قوى محور المقاومة هو تعبئة الموارد المادية، التي تشتمل على الموارد النقدية والممتلكات والمعدات واللوازم، سواء كانت عسكرية أو ذات طابع اجتماعي أو اقتصادي. وهذا أحد الميادين التي تظهر على السطح في عمل قوى محور المقاومة، حيث يمكن رؤية مراكمة هذه القوى للمعدات العسكرية وأنواع الأسلحة المختلفة والحرص على زيادة كميات العتاد بشكل مطّرد. بالاضافة إلى التحكم بكيفية تخصيص هذه الموارد، كما تفعل الدول. وتوجد أيضاً نقطة أخرى تدل على المستوى المرتفع لتعبئة الموارد المادية، وهي الإنتاج الذاتي لهذه الموارد وللآليات التي تقوم الجهات الفاعلة في قوى المحور من خلالها بإضفاء قيمة مضافة على هذه الموارد. وعندما نتحدث عن خلق أو إضفاء القيمة المضافة، فنحن نتحدث عن استخدام موارد مادية بسيطة نوعاً ما لصناعة صاروخ في مشغل أو مجموعة مشاغل لتشكيل خط إنتاج يوازي خطوط الإنتاج في مصانع الأسلحة الحديثة؛ أو مثلاً تحويل آلات ميكانيكية بسيطة - بالمعنى الهندسي المعاصر - إلى طائرة فردية تجتاز عشرات الكيلومترات.
ولكن استنتاج أن التعبئة المادية هي أهم عوامل التعبئة التي نجحت فيها قوى محور المقاومة هو استنتاج غير دقيق. فبينما التراكم الكمي والنوعي للسلاح في هذا المحور مثير للإعجاب، إلا أن أهم العوامل التي يمكن مدح هذه القوى عليها هو نجاحها في تأسيس كوادر بشرية ألمعية وعالية الفعالية وتطويرها على المستويات والدرجات التنظيمية كافةً. وهذا النجاح هو عبارة عن تعبئة للموارد البشرية. هذه الموارد التي تشتمل على عوامل العمل والخبرة والمهارات، سواء كانت عبر العمل التطوعي أو التفرغ. وهذه العوامل تشكل رأس المال البشري لقوى المحور، وهو الذي يتجسد في الأفراد المتطوعين والمتفرغين. ورأس المال هذا هو واجهة قوى المحور، والأشخاص الذين سيبنى حولهم جزء من الموارد الثقافية، والأشخاص الذين سيتحولون إلى الجهات الفاعلة التي تتحكم بتعبئة الموارد المادية. وفي محور موارده المادية محدودة، رأس المال البشري هو العامل الأهم.

الرب
ولكن أين موقعنا كأفراد في السياق أعلاه؟
بكل بساطة، نحن معبّأُون في المشاريع التي نناصرها. فكما تقوم قوى المقاومة بعمليات التعبئة الشاملة، كذلك الأمر يقوم المحور الأميركي في المنطقة بعمليات التعبئة الشاملة الخاصة به. فنحن كأفراد نتفاعل مع القضايا المطروحة أمامنا ونحمل ما نراه مناسباً لنا منها ونستهلك المواد الثقافية ونتضامن مع القوى التي تمثل القضايا التي نحملها، بينما بعضنا ينخرط في التنظيمات التي نتضامن معها. وحتى إن الكثير من الرماديين منا معبّأُون. فالرمادي نوعان، النوع الأول لا يؤمن بقضية التحرر الوطني من الهيمنة وبتحرير فلسطين، وهذا ليس رمادياً حقيقة بل هو شخص معبّأ ضمن سردية خاصة بقناعاته داخل محور الإمبراطورية. والنوع الثاني هو الرمادي الذي يقول إنّه يؤمن بوجود قضية تحرر وطني وبأحقية قضية تحرير فلسطين، لكنّه يعترض على القوى التي تحمل هذه القضايا اليوم. في الحقيقة، هذه سردية أخرى يقدّمها هذا النوع من الرماديين، سردية تخفي عدم القدرة على تحمل الأكلاف المادية والاجتماعية للانخراط في البناء الاجتماعي لقوى المقاومة. وهذا النوع أيضاً معبّأ ضمن المحور الإمبراطوري. فبكل بساطة، إن كنت تؤمن بأحقية قضايا التحرر الوطني وتحرير فلسطين وتراها أولوية اجتماعية لا يمكن المضيّ في تطوير مجتمعك من دون تحقيق انتصارات نسبية فيها، كيف لك أن ترفض السير مع من عبّأ في سبيل هذه القضايا بفعالية لم يسبق أن شهدتها المنطقة؟ كيف لك أن ترفض حصاد دماء عشرات الآلاف من المقاتلين والكوادر الذين تركوا كل شيء خلفهم وقدموا حياتهم في سبيل قضية يؤمنون بها؟ وكيف لك أن ترفض تراكم جهود المئات من القادة المبدعين الذين اقتحموا الخطوط الأمامية، غير آبهين بالموت والكثير منهم لاقاه؟
وهنا نعود إلى الرب. عليّ أن اعترف بأنّه بالرغم من معرفتي بالمعاني المختلفة لمصطلح الرب في اللغة العربية، إلا أنّني لم اتنبّه فعلاً لعمق دلالاته إلا حينما كنت أقرأ عن تركيبة الإمبراطورية القرطاجية خلال الحرب البونية الأولى. «رب المَحَنِت» هو المصطلح الذي كانوا يطلقونه على قائد جيوشهم الأعلى. وهنا كانوا يستعملون «الرب» بمعنى «السيد» أو «الزعيم»، أي سيد الحرب أو زعيمها. وعودة إلى هذه اللحظة التاريخية، بإمكانك أن ترفض قناعات من يعبّئون مئات الآلاف على امتداد ساحات تشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وبالأخص فلسطين، يعبئونهم تعبئة شاملة تسمح لهم بمقارعة الأميركي وتسمح للمقاومة الفلسطينية بإنزال هزيمة مدوّية في صبيحة السابع من تشرين الأول الحالي. ولكن لا يمكنك أن ترفض نتائج تعبئتهم الشاملة لشعوب هذه البلدان، أو على الأقل أجزاء وازنة منها، في سبيل التحرر الوطني وتحرير فلسطين. وإن كنت تؤمن حقّاً بهذه القضايا بإمكانك أن تقنع نفسك بأن الرب الذي علّمهم التعبئة الشاملة هو الرب الذي تراه مناسباً لقناعاتك وسردياتك الشخصية، سواء كان على شكل عقيدة أو مجموعة أفكار أو تناقضات تاريخية هيّأت الظروف أو صدف الحظ جمعت هذه المجموعة من الكوادر والقادة في هذه النقطة من التاريخ، أو كان الرب هو الله. ولكن في هذه اللحظة، حيث احتمالات المواجهة الكبرى مرتفعة، من المهم أن نبدأ كل كلامنا بـ«باسم رب المجاهدين والمستضعَفين».
* باحث لبناني