يبدو أن هناك من يرى لكنْ لا يبصر، إذ صارت هذه موضة عمائية غائية عالمية تهدف إلى الالتفاف على الملكات العقلية والمنطقية الاعتيادية التي يمتلكها كل إنسان، حتى البسطاء.الحيوانات وحدها هي من لا يميز بين ذابح ومذبوح، فهي ترى القاتل بعين والمقتول بعين أخرى، هذا جوهر التمايز في رؤية قضية فلسطين ومفاعيلها وأصولها ومساراتها وأحوالها، وبالطبع ما يجري الآن، وهو ذلك الوصف الأدقّ للعقل الغائي الذي يسعى لرؤية ما يريد، تلك سمة من سمات التخلف والبدائية، رؤية جزء من الصورة، ذلك الجزء الذي يريده دون غيره منها.
في السياسة كما في الفن، لا يمكن لأحد أن يُقيّم حالة ما إلا من خلال نظرة إنسانية تحدّق في كامل الصورة، العماء اليوم هو ما يُترجم لفظياً في السياسة بأن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها، جدلاً فقط سوف نسلم بمنطقية ذلك، لكن ألا ينسف المنطقية سلبُ حق للمذبوح بأن يصرخ معبّراً عن ألمه، هذا على أقل تقدير.
يقول بلينكن الآن، وهو يبدو قبالتي على الشاشة: «ما يميّزنا نحن وإسرائيل هو احترام القانون الدولي»، بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة الرقيقة الحس وسيدة الديمقراطية الحرة يقول ذلك بطلاقة مضحكة، فلطالما رأينا أميركا وولايتها الصهيونية الجاثمة على أرض فلسطين الأبدية في حالات إنسانية فاقعة، بدأت دورة وجودها الزمنية وهي تدمر فقط 421 قرية في فلسطين عام 1948 وتهجّر نصف شعبها الذي هو في الوقت ذاته غير موجود، وترتكب كل أنواع اللصوصية والمجازر، فقد أتاها المهاجرون اليهود وكانت خالية لا يسكنها أحد فقط بيوت ومقاه وكنائس وجوامع ومصانع كانت قد بُنيت بسواعد الهواء لا البشر!
هكذا ترى الحيوانات المسألة، فالذئاب المفترسة لا تفكّر في من كان هنا، فقط ترى طعاماً متبّقياً في المكان، ولا تسأل عن مهنة صاحب البيت، أكان مهندساً أم عاملاً أم فلاحاً، فقط كان في تلك البيوت ملابس وأسرة وربما ترك المهجرون تحت القصف والمجازر أباريق شاي ساخنة، عدم رؤية ذلك يمكن تسميته بالرؤية الحيوانية التي تحدق في الغنيمة وتتناسى طفلاً يصرخ من تحت الركام، وعلى هذا تمّ تأسيس الاعتقاد الغربي الذي لا يرى من الصورة إلا الجزء الذي يريد، وهذا ما ورثته أنظمة التطبيع والإبراهيمية العربية، فهي لا ترى سوى الكرسي بكامل تفاهته وتنسى بسطاء أمّتها يتضوّرون جوعاً، وهي بسبب قرب الجغرافيا تبدو الآن للسبب ذاته في غباء مكتمل النصاب، قبل أن تكون أنظمة مرتعشة على الكراسي وهي تدمر ذاتها وتاريخ بلدها ودينها وشعبها الذي تُدمر أيضاً مستقبله للضرورة كي لا يبدو مستقبل إلا في جعبة الصهيونية وكيانها المجرم، فجلب الاحتلالات إلى بلد ما مهما كان شكلها تُعد صوغاً للبنية العبودية الخاضعة مهما بلغت مبرراته؛ دول الإبراهيمية أنظمتها محتلة الآن والشعوب غارقة في وحل التجهيل.
فلنفترض أن المقاومة ارتكبت فعلاً عنيفاً غير مبرر أو ضروري، ليكن، إلا أن الصراع لا يبدأ من هذه النقطة، النقطة التي يبدأ منها الصراع هي تلك التي بدأ منها فعلياً، أي التي لا يمكن فصلها سواء أكانت أحداثاً أم مذابح أم تدميراً لدولة كانت أول كيان مدني في التاريخ وأخرجت فلسطين وقتها البشرية من الكهوف إلى المدنية، أي إن الفعل الأساس في الصراع ليس مجرد قنبلة هنا أو عملية فدائية هناك، أو حتى حرباً شاملة. يمكن اختصار المسألة بجملة واحدة، احتلال- مقاومة، فتلك معادلة منطقية وحيدة، من ينكرْها يستبحْ كل القانون الدولي دفعة واحدة، وبالمقاييس المتبعة من قبل الضحية- الوهم وفيلم الهولوكوست ذاته، بحسب ذلك يبدو أن هتلر كان على حق.
لا شك بأن خطة احتياطية وُضعت خلال السنوات الماضية من قبل حكومة العالم السرية تقضي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ثم سكان الضفة إلى الضفة الأخرى، فإن فَشَل إغراق غزة بالبحر أدى إلى وجود قوة مقاومة مسلّحة فيها، وفي حال لم تستطع كتلة الديمقراطية العالمية المجرمة القضاء على هذه القوة تقضي على الشعب والأبنية تاركة للناس خط خروج نحو مصر وسيناء تحديداً، تلك البقعة التي وافقت سابقاً أنظمة التطبيع والإبراهيمية ضمن مشروع سري، على تمويلها لإراحة المحتل المسكين من صراخ الضحايا كي لا يرتعش السكين.
على الهاتف يصادق بايدن على ارتكاب الجريمة الجديدة، ويأمر حكام الارتعاش بقبول ذلك، أما وزير خارجيته، الذي كما قال عن سبب قدومه إلى أرض فلسطين بأنه لم يأت لأنه وزير خارجية بلاده بل لأنه يهودي، هذا كلام مناسب وجيد ليكون أعمى بالكامل، ولكي يمارس بحرية أكثر تجميل الأيدي الملطّخة بالدماء، وحمايتها من الإدانة الإنسانية والدفاع عن جرائمها الواضحة بحسب القانون الدولي.
اقتلْ تكنْ، هذا ملخّص عقيدة النازية والصهيونية والإرهابيين كافة، وهو ما يتطلب إلا أن ترى ما تريد رؤيته، فجزء من الصورة كافٍ لإرضاء غريزة حيوانية بدائية.

* كاتب فلسطيني